الجزء الثاني عشر _ شبح الطفلة💫

522 41 8
                                    

بقلم ندوش 🐝

غادر جناحه بعد أن تخلص من ملابسه الرسمية و ارتدى بيجامة نوم مريحة، هكذا توصف في العادة لكنها لا تلائم في وصفها نمط العيش الذي أصبح يتبعه، يزيد عن الشهر وهو يغرق في دوامة من الحزن و القلق زادتها الصدمة التي مرت عليه منذ أسبوع من انهاك روحه حتى بات الخوف لا يغادر جدران صدره. دفع الباب برفق و دخل إلى الغرفة المقصودة، وجد عمته تعدل الستائر و تتأكد من إقفال النوافذ جيدا، ما إن رأته يدخل إلى هناك حتى توجهت نحوه و تحدثت إليه همسا
خديجة: لقد تناولت أدويتها و لن تستيقظ إلا في الصباح، يمكنك أن تعود إلى جناحك و أنا سأبقى هنا قريبة منها.
جسور: لا يا عمتي، لا يمكن أن يغلق لي جفن حتى أتأكد أنها بخير.
خديجة: بني، أنت متعب من ضغط العمل خاصة اليوم لم تعد إلى القصر إلا منذ لحظات، لا بأس بأن تمنح جسمك قسطا من الراحة.
جسور: أرجوك عمتي لا تلحي علي لأنني لن أفعل إلا ما يمليه علي عقلي، إذهبي إلى غرفتك و إن احتجت إليك سأناديك.
هزت كتفيها بيأس و خرجت من الغرفة متمنية له ليلة سعيدة، أغلق الباب خلفها ثم سحب كرسي بهدوء شديد و جلس بجانب الفراش حيث غطت صاحبته في نوم عميق بسبب تأثير الأدوية التي تتناولها، أرخى رأسه على ظهر الكرسي و بقي يراقب تواتر أنفاسها المنتظم، تنعم بهدوء شديد وهي تضع كفها تحت خدها و قد تهدلت خصلات من شعرها الكثيف على جوانب وجهها فتخفي عنه بعض تفاصيلها المحببة. سحب نفس طويل و تنهد بعمق، لن تحس به فهي منذ أيام أصبحت لا تشعر بما يحدث حولها و لا تدرك ما يدور في عالمها... حدث الأمر فجأة و بدون سابق إنذار، عقب حفل زفاف عاكف بأيام بدأت تصرفات ابنة عمه تثير الغرابة في نفسه و تحدث هواجس كثيرة في عقله، بقي أسبوع يخفي ما يلاقيه منها من صد و تباعد عن عمته و بقية أفراد العائلة فقد ظن أن سوء تفاهم أثر على مزاجها فبقي ينتظر بصبر أي عتاب أو لوم منها لكن ما حصل جاء عكس توقعاته فقد بان له أن ما تعانيه محبوبته أشد قسوة مما يظن. حل ذلك اليوم الذي شق فيه صراخها سكون الليل و هز جدران القصر السميكة، فتحت أبواب الغرف و هرع كل من مخدعه يتحسس طريقه إلى الغرفة مصدر الصوت ليتافجأ الجميع بالفتاة وهي تتخبط في دماءها بعد أن قامت بجرح يدها بواسطة مشذب الأظافر، كانت تصرخ بشكل هيستيري و تطلب من الجميع أن يبتعدوا عنها و يتركونها و شأنها، حاول جسور أن يسيطر على تخبطها فلقي منها مقاومة شديدة بعد أن انشبت اظافرها في ذراعه و حاولت أن تلقي بأحد التحف الحادة عليه. صراخ و بكاء و هرج كثير اختلط بأصوات البقية الذين كانوا في حيرة مما أصابها، توقفت الأصوات و استكان المكان بعد وصول طبيب العائلة الذي قام بحقنها بمهديء و طالبهم بالإسراع بعرضها على طبيب مختص.
شلت الصدمة عقول الجميع و خاصة عمتها التي هزها انهيار طفلتها فوجدت نفسها عاجزة أمام جبروت المرض، الفتاة التي كانت شعلة متقدة من النشاط و الحيوية تحولت بين عشية و ضحاها إلى شبه إنسان دائمة التوتر و البكاء، يتراوح مزاجها بين السكون و الهيجان، اختفت ابتسامتها اللطيفة و ذبلت نظراتها التي اختفى بريقها و حل محله الشرود و الضياع ترجمه الصمت الذي تلتزم به طوال اليوم... اكتئاب حاد، هكذا شخص الأطباء في البلاد و خارجها حالة المريضة، وقع كلامهم على سمعه كالصاعقة و أصابه بالذهول، كيف تصاب باكتئاب حاد وهي كانت تشبه الزهرة المتفتحة لكثرة اقبالها على الحياة، لقد كانا منذ أيام يرقصان بسعادة في حفل زفاف صديقه، كانت لا تغيب عن عينيه و يتفقد أحوالها في الصباح و في المساء، لم يكن دافعه الواجب بقدر ما كان حبه و شدة عشقه بها، ذلك الحب المتوهج الذي انطفأ بريقه من عينيها و حل محله الخوف و الذعر كلما وقع نظرها عليه، صارت تتهرب من لمساته ثم قطعت أي طريق أمامه حتى يكون بجانبها فكان كلما وقف بباب الغرفة تدير وجهه للجهة الأخرى أو تتحجج بالنوم دون أن تتحدث إليه أو تجيب عن أسئلته، حرم من الاقتراب منها شهر بأيامه و لياليه فخوفه الشديد عليها جعله يتراجع إلى آخر الركب حتى لا يعيش لحظات بكاءها التي تكاد لا تتوقف ما إن تبدأ......
كثرت الأدوية فكان تأثيرها عكسي الذي ظهر في إحدى الليالي الأقسى التي مرت عليه، كان قد دخل للتو إلى جناحه بعد أن مر على عمته و تحدث معها قليلا، طمئنته أن حبيبته بدأت تستجيب للعلاج و أصبحت تقبل تناول بعض الأطعمة بل أنها خرجت في الصباح من غرفتها صحبة زينب و جلست في الحديقة الخلفية للقصر بعيدا عن أعين الجميع، كلام العمة المتفائل جلب له بعض الارتياح و أدخل بصيص أمل إلى روحه المتعبة. كان يهم بتغيير ملابسه عندما تناهى إليه صوت جلبة في الخارج و أحد الحراس يناديه بأعلى صوته، نزل مسرعا حافي القدمين لتيفاجأ بالجميع يهرولون في اتجاه المسبح الكبير، على حافته شاهد ابنة عمه تقف هناك وهي تنظر داخله غير مهتمة بكثرة الأصوات التي تعلوا من حولها، أسرعت إليه عمته تترجاه أن يتصرف فطلب من الجميع أن يلتزموا الصمت و يبتعدوا عن المكان حتى لا يزيدوا من إرباكها، فعلوا ما طلب منهم و تراجعوا إلى مدخل القصر و أبصارهم شاخصة إلى التي تأرجح جسمها كأنها ستقفز في الماء.. تقدم جسور من المسبح و بدأ يخاطبها بهدوء شديد
جسور: جونول، ماذا تفعلين هنا؟!
جونول: جئت لإخراج الطفلة من الماء، إنها هناك في القاع و لا تستطيع الصعود إلى السطح.
أشارت إلى المياه الساكنة حيث تقبع عروستها في القاع
جسور: لماذا رميتها هناك؟!
جونول: أنا لم أوقعها في الماء، أحدهم أخذها مني لأنه يريد أن يبعد طفلتي عني، سأنزل و أجلبها بنفسي.
جسور: لا بأس، أنا سأنزل و أجلبها لك، هيا تعالي معي.
مد لها يده بهدوء لكنها تراجعت خطوة للخلف زادت من قربها للحافة، ترنح جسمها لكنها تماسكت وهي تقول ملوحة له بيديها
جونول: لا، أرجوك لا تقترب منها، إنها لا تحب الغرباء، ستشعر بالخوف منك.
جسور: أعدك سأكون لطيف معها، هيا هاتي يدك.
جونول: لا أستطيع، لا يمكنني ترك طفلتي في الأسفل، إنها خائفة، أنا سأذهب إليها.
جسور: دعيني أذهب أنا... لااا.
هوت بجسمها في الماء محدثة جلبة كبيرة فسارع خلفها محاولا اللحاق بها، سبحت في اتجاه القاع و جلست حيث تقبع عروستها وهي تمسك بها في حضنها، وصل إليها و حاول امساكها من ذراعيها لكنها بدأت تصارعه و تحاول أن تبعده عنها، قاومته بشراسة وهي تتخبط وسط المياه كأنها توجد قوة خفية تساندها حتى أنهكت قواه لكنه تمكن من رفعها إلى السطح و قد على صراخها مطالبة بإنقاذ الطفلة التي ابتكرتها مخيلتها. بمساعدة شقيقه نجح في إخراجها من المسبح ثم حملها إلى غرفتها و قد اشتد نحيبها... بعد ساعة غطت في نوم عميق، جلست عمتها على حافة الفراش تبعد خصلات شعرها الندية عن جبينها، غير بعيد عنها وقف إبن شقيقتها ينظر إلى فتاته بأسى و ذهول، تحدثت العمة بصوت مختلج ضعيف
خديجة: لقد ظننت أنها تسير في طريق الشفاء لكن خاب ظني بعد الذي حدث.
جسور: قال الطبيب بأن النوبات ستلازمها فترة، لا يجب أن نخدع بلحظات الهدوء التي تظهر عليها.
خديجة: تعالى إلى غرفتي نتحدث هناك معا، زينب ستبقى معها.
خرجا إلى غرفة عمته التي بدأت الحديث ما إن أغلقت الباب خلفها
خديجة: جسور بني، أعتقد أن ما حصل منذ ساعة يجعلنا نعيد التفكير في أمر المركز الصحي.
جسور: لا عمتي، لا تفكري في هذا الحل مطلقا، لن نضعها في سجن خاص لأنها مريضة.
خديحة: بني أرجوك أترك عواطفك جانبا و فكر في مصلحتها، هناك ستلقى عناية خاصة و تستعيد عافيتها كما كانت من قبل.
جسور: لا عمتي، هذا الاقتراح مرفوض رفضا قاطعا، لا أستطيع أن ابعدها عن القصر، لو يحصل لها أي مكروه فلن أسامح نفسي أبدا.
خديجة: بني، جونول مريضة، علاجها ضروري و نحن مطالبون بالسعي فيه.
جسور: سنعالجها هنا في القصر. عمتي، كلانا لاحظ أنها تكون خائفة جدا عندما نخرج بالسيارة إلى عيادة الطبيب، إنها لا تشعر بالأمان إلا هنا.
خديجة: أعرف ما تشعر به لكن من أجل....
جسور: هذا قراري عمتي، لن أقبل بلحظة خوف واحدة في عينيها، أنا الوحيد المسؤول عنها و لا يوجد مركز قد يقبل بوجودي معها لذا القصر سيكون مكان علاجها.
تنهد بحزن ثم انحنى إلى يدها الناعمة و أخذها بين كفيه، قبلها بشوق كبير فهذه هي المرة الأولى التي تسنح له الفرصة منذ فترة، داعب وجنته بكفها و قال
جسور: جونولي، جوهرتي الغالية، شمعة حياتي، إلى متى ستبقين بعيدة عني، ليتك تدركين كم إشتقت إليك، إشتقت لابنة عمي المرحة التي تسعد قلبي، إشتقت لنظرات الحب التي تأسريني بها، مشاكسات الطفلة التي بداخلك.. حبيبتي مر زمن لم أمسك فيه بيدك الصغيرة و لم أداعب وجنتك الناعمة، لم أتنفس حبك النقي و لم أرتوي من نبع عشقك الذي تغدقيه على. مرت أيام و ليال و ها أنا مازلت أبحث بيأس عن مخرج من دائرة الضياع التي غرقنا فيها، فشلت في معرفة الخطب الذي أصابك. إني أتبعثر بعيد عنك و أضيع، يكاد الجنون يتمكن من تعقلي كلما أتذكر خوفك مني و ابتعادك عني... هل جسور من يثير جزعك صغيرتي، لقد كان حضني هو المأمن لك، لقد كنت تهربين إلى ذراعي متى شعرت بالقلق. أي قوة هذه التي دفعت بتلك الأفكار السوداء إلى مخيلتك، لا ألومك و لن أفعل مهما فعلت بي لكن رجائي لك لا تؤذي نفسك. جونولي، لن اتخلى عنك مهما حدث و لن أدخر جهدا حتى أعيدك إلي، سأبذل الغالي و النفيس في سبيل عودة تلك الإبتسامة إلى شفتيك، أنت شمس حياتي و نورها، لا يمكنني العيش بعيد عنك.
🌺🌺🌺

العروس الصغيرة 🦢 Where stories live. Discover now