الفصل السادس عشر

193 5 0
                                    

طفْو الروح!
تعبيرٌ غريب، لكن شعوره ساحر..
كطيرٍ علَّته في جناحيه بات يختال مُحلقًا!

دارت نادية بعينيها في المكتب باحثة عن أحد .. أي أحد ..
ثم عادت بنظراتها إليه بعد إدراكها لبُعد المكتب بالكامل عن عامة الموظفين الذين تخلو منهم الطرقات بالخارج .. محاولة استدعاء بعض من قوتها الهاربة .. وثانيةً تخونها حالتها ..مُعيدة إليها رتوشًا من بضعة مشاهد قديمة عفنة .. دومًا ما نغصت عليها كافة شيءٍ في حياتها ..
عادت بمقعدها إلى الخلف بعينين متسعتين بهلع حين قال بلهجة دَنِسة :
_إلى أين تريدين الذهاب؟
فانتفضت عن مقعدها بقوة صارخة بجملٍ تحذيرية تردد صداها من ذاكرةٍ تحفظ جيدًا ما حدث بعدها ..
_ابتعد عني ... لا تقترب مني!
استمر في التقدم ناحيتها بعينين تشبعتا بالاستهجان ..بينما يرد اعتراضها بنبرة تقطر خسة :
_لماذا؟ أحرامٌ عليَّ ما هو حلالٌ على .. المــديـــر؟
والتتمة بنبرة ممطوطة انتفضت لها أعصابها هلعًا، فهتفت بكل ما بها من قدرة :
_الحرام هو ما تضج به عيناك النجستان ويفكر به عقلك الوضيع ..
قاطعها باحتقارٍ بيِّن :
_من التي تتحدث عن الحرام؟ من قتلت زوجها كي...
كان دورها هذه المرة لتقاطعه صائحة بجنون :
_اخــــــرس .. الأفضل لك ألا تزيد بكلمة الآن .. فمن فعلتها مرة يمكنها التكرار مرات.
اختتمت جملتها وهي ترفع اللوح الزجاجي المنقوش فوقه اسمها عن المكتب مهددة إياه ..
من أخبره؟
كيف يعلم بشيء كهذا؟
هل ذاع صيت حكايتها إلى هذا الحد؟
كان حقيقيًا .. كل ما كانت تضج به رأسها من توجسات ظنتها وسوسة نابعة من حالتها لا أكثر كان حقيقيًا .. لقد وُصمت بذنبها وانتهى الأمر.

كانت تلك اللحظات التي غلبتها فيها نفسها فزاغت عينيها وكأن هناك أشباحًا تطاردها كافية له ليباغتها بضربة قوية للوح في كفها أسقطته متناثرًا في الحال كشظايا روحها التي تفتتت متبعثرة في كل إنشٍ داخلها .. حتى عقلها الذي أسعفها بكلماتٍ لاذعة دافعت بها عن نفسها منذ قليل شُل متخليًا عنها ..
توقف الزمن بها للحظات ظل رأسها فيهن يتحرك بهستيريا رافضًا شيئًا لا تدركه ..
لم ترَه .. لم ترَ زميل عملٍ لم تهتم يومًا حتى بمعرفة اسمه .. لم ترَ المكتب الفارغ حولهما بعينيها الشاخصتين .. حتى عيني بصيرتها لم تدركا موقفها الغير محمود ..
فقد سيطر على رأسها التشويش حاجبًا الرؤية عن كافة معالم الحياة بها .. وكأنها تشاهد عرضًا سينمائيًا فوق شاشة عاثت بها الأتربة ..
كانت ضبابية تطل منها مشاهد متلاحقة من انتهاكاتٍ مذلة ..
لمساتٍ منفرة ..
صرخات غير مسموعة .. تعج بها الصدور دون قدرة عن التحرر ..
وحين تخرج .. تُكتم.
وإن كانت بوعيها لتعجبت .. أنَّى لها في مجابهةِ محاولة لاعتداء حقيقي أن ترتعش مستعيدة ما كان دومًا في عُرف الجميع .. حلال!
لا .. لم يحلل الله العنف ..
لم يكن حلالًا أخذها قسرًا ..
لا يمكن لأحد إلقاء هذا اللوم عليها ..
لا!

لم تدرك أنها نطقت بها فعليًا .. بل صرخت بها تصم أذنيها بكفيها بهستيريا :
_لاااااا ..لا تقترب منييي ..لا!
ارتد خطوة إلى الوراء بإجفال من رد فعلها متلفتًا في المكان بعجز عن التصرف .. حين حدث اقتحامًا للمكتب ..
نعم، فلم يكن حضور يسرا دخولًا عاديًا، بل اقتحام بكل ما في الكلمة من معنى وهي تهتف بقوة بينما تخطو تجاهه بعينين تطلقان شرارات نارية :
_ابتعد عنها يا عديم الشرف.
دفعته بغل قبل أن تسرع إلى نادية التي تكورت على نفسها بجانب مكتبها بارتجاف .. جثت على ركبيتها تحيطها بذراعيها بعفوية غير متفهمة لما ألم بها فجأة.. لكنها تكلمت محاولة تهدئتها :
_نادية لا تخافي ..لم يحدث شيء لكِ.
بقت على ارتجافها الموجع .. لم يتوقف سوى نهنهاتها المتقطعة فظلت تلهث كمن تصارع دواخلها بينما كفيها تشنجتا فوق أذنيها بلا نية في الابتعاد ..
حاولت يسرا تخليص إحدى أذنيها من كفها دون جدوى، فتربعت بجانبها على الأرضية بعدم حيلة تحاول مجددًا وقد أدمعت عينيها من هول ما يحدث لتلك التي ظنت مقلتيها لا تلمعان إلا بهجةً وفضولًا :
_نادية بالله عليكِ ما بكِ؟ انظري إليَّ .. أنا يسرا .. صديقة الأيام كما تسمينني .. اهدئي بالله عليكِ لا توجعي قلبي!

كان المكان خاليًا وبلحظة أصبح مكدسًا .. فقد عاد كل من يعمل بالمكتب راكضًا إثر الصرخات المفزعة لمراقبة ما آل إليه الوضع .. بينما انشق الجمع حين همست هاجر بعينين هلعتين :
_لقد حضر المدير الآن، فليفعل أحدكم شيئًا!
انكمش الجميع في وقفته عاجزين عن التصرف.. فقد أخبرهم زميلهم ذلك بأنه جمع كافة المعلومات التي قد تساعدهم في إبعاد نادية عن طريقهم نهائيًا وتسريحها من العمل، فوضع خطته ورسم خطواته بدقة تضمن له ألا يتأذى أحدهم أو يُكشف أمره بناءً على ما عرفه عن حالتها النفسية وماضيها من بعض مصادره الموبوءة..

دخل حمزة مسرعًا ليسأل قاطب الحاجبين بقلق خُفي خلف صرامة حاضرة :
_ماذا يحدث هنا؟
لم يجب أحد .. فدار بعينيه إلى أن لمحها ..
بل اصطدمت عينيه بهيئتها اصطدامًا مروعًا .. فانتهب الخطوات إليها هاتفًا بانفعال :
_ماذا حدث إليها؟
وكأن الفرصة أتت إلى الجاثية بجوارها على طبق من ذهب، فرفعت يسرا وجهها إليه هاتفة بلا تردد وهي تشير بسبابتها إلى ذلك الواقف بارتباك جلي في نهاية المكتب :
_ذلك الحقير حاول الاعتداء عليها.

هل أبواب جهنم حقيقة أم هي مجرد تعبير عن هول ما يحدث عقب شيء ما؟
حتى وإن كانت وهمية.. فلا يوجد هناك ما قد يصف ما تشكل من نيران داخل حدقتيه وهو يستدير مواجهًا ذاك الذي أشارت صديقتها إليه سوى أن جفنيه كانا صورةً خالصة ..عن أبواب جهنم.
_أنا لم أفعل شيئًا، وتلك التي ترمي الناس بالباطل جزافًا كعادتها لم تأتِ إلا قبلك بثوانٍ ..لستُ بموظفٍ جديدٍ حتى كي يُصدق شيء كهذا عني..
وكعادة الكاذبين ومن لا حجة لهم، استكمل ثرثرثته متجهًا بحديثه إلى تلك المتكورة على نفسها أرضًا بينما وقف حمزة أمامه بملامح مغلقة لا تُنذر بما هو خير دون أن ينبس ببنت شفه :
_إنها مجنونة .. لم تكد ترى غرفة المكتب خالية حولنا إلا وراحت تصرخ كالـ...
قاطعه حمزة بلكمة ما أن استقرت بجانب فكه حتى ترنح عائدًا للخلف بصدمة ارتسمت مثيلتها على كل الوجوه الحاضرة، ولم يأبه الأول بالشهقات المكتومة خلفه، فقد تقدم منه مجددًا ممسكًا بتلابيبه وهو ينطق أخيرًا بسؤال لم يبدُ في نية للاستماع لإجابة له، بل في تأهب للانقضاض عليه مجددًا :
_ماذا قلت؟
استشف نبرة التهديد في صوته، لكنه صاح محاولًا الفكاك من قبضته :
_قلت أنني لم أفعل شيئًا لها .. لم ألمسها حتى!
وكأن ذلك الرد كان أسوأ من أن يجيب مؤكدًا فعلته ..فقد فجرت قبضة أخرى نفس زاوية عينه بقوة أجفلته..
تناقلت نظرات الجميع بينهما برعب متلفتين إلى بعضهم البعض خوفًا أن يفشي تورطهما في الأمر، فاندفع الرجلين الآخرين ليحجزا بينهما.. بينما هتفت يسرا بانتصار غريب مدمرة كافة آمالهم :
_وهؤلاء جميعم من خططوا معه لهذا .. ما أن خرجتُ من المكتب حتى دبت به حركة مريبة وغادر الجميع بالتتابع!
صرخت حينها هاجر نافية بسبابتها وهي تنظر إلى المدير الذي تحول فجأة أمامهم إلى كائن انعدم من داخله التفاهم :
_لا لا  صدقني سيد حمزة نحن لا دخل لنا ..
زاد من فزعها التماع عيني زميلهم وهو يهم بلا شك بتأكيد ما أدانتهم به يسرا حتى لا ينزلق بهذا المأزق بمفرده .. فتابعت بخوفت أكبر :
_أقسم بالله أننا لم نفعل شيئًا، كل ما أردناه هو مغادرة نادية للشركة وكنا نفكر في طريقة لنجعلها ترحل حتى لا تنفرد بمكانة لم ينلها أحدنا طوال تلك السنوات، فحتى حين حاولنا التغافل عن كونها شقيقة رئيس مجلس الإدارة وجدناها تحظى باهتمام وتركيز  من جميع رؤوس الإدارة حتى بتنا نتوقع ترقية قريبة لها.. لم نرغب إلا في طردها من هنا دون أن نمسها بسوء واقترح هو أن نترك هذا الأمر له .. طلب منا فقط أن نُخلي المكتب ونستدعي المدير فظننا أنه يريد توريطها في شيء يخص العمل لا أكثر!
تأتأت وتعثرت كثيرًا خلال جملتها .. لم تكن تكذب تمامًا لكن لا ريب أن الأمر بدا لها شبه واضح حين طلب منهم هذا الطلب .. حتى أنها أطرقت برأسها متهربة من نظرات السيدة الكوثر التي ناظرتها بذهول لا تفهم من الموقف شيئَا بعد أن أقنعتها هاجر منذ قليل بمغادرة المكتب لأسباب واهية ..
توقفت هاجر عن الحديث لاهثة بقلق ينهش داخلها وهي ترى تعبيراته التي كانت مثالًا نموذجيًا للغضب تحولت إلى قتامة شديدة ..
قبض كفيه بقوة حتى نفرت عروقه مستدعيًا كل ما في الدنيا من تماسك لاستيعاب الموقف .. قبل أن ينطق بنبرة خالية :
_جميعكم مُحال إلى التحقيق.
ثم التفت بعنف مقاومًا نفسه بضراوة بينما يستطرد :
_وأنت .. لا تظن أنك قد تمسي اليوم إلا في زنزانة عفنة تليق بقذارتك.
ناظره الرجل بحقد دون رد .. لم يتوقع أن يتضخم الأمر إلى هذا الحد .. لا سيما حين علم بما ينتابها من هلوسات من حين إلى آخر لن يجعل أي ممن يعرفونها يصدق اتهامها لأحدهم بمحاولة الاعتداء.. كل ما أراده إثبات كونها غير جديرة أو مؤهلة للعمل بحالتها تلك.. رغب هو في تحطيم مسيرتها المهنية وليس العكس.. ولم ينكر في داخله بعض الرغبات الدنيئة التي شاركته في دوافعه لما فعل للاستفادة من الموقف لصالحه الشخصي.

_سأطلب الشرطة فورًا.
نطقت بها يسرا وهي تزيد من الإحاطة بصديقتها مطمئنة لهدوء ارتجافها بعض الشيء .. فقد كانت الأخيرة تتابع ما يحدث منذ وقت بعينين تشك في إدراكهما لجُل ما يحدث ..
حينها التفت إليها حمزة بوجه سقط عنه غضب العاشق الغيور ..ليحل محله غضب أبٍ قد مس ابنته السوء.. فنزل على ركبته متفقدًا إياها بجبين مقطب بحدة تحتجز سيلًا من القلق عند عقدة حاجبيه
_نادية، هل تسمعيني؟
انكمشت نادية في أحضان صديقتها باستجابة عكسية تغضن لها جبينه بألم..

صفر ..
لقد عادت إلى نقطة الصفر من جديد..
هذا ما أيقنته وهي تستعيد عقلها الغائب تدريجيًا حتى أدركت تمامًا ما يحدث .. فجحظت عينيها تدور  في المكان حتى وصلت إليه .. كان يضرب ذلك الذي انتقص من شأنها وحاول الاعتداء عليها ..
وهي؟
هي فاقدة للسيطرة رابضة بارتعاش مخزي أدمعت له عينيها حين جلس أمامها متسائلًا باهتمام بالغ عن حالتها.. فاستدارت تخفي وجهها بأحضان صديقتها التي مسدت فوق كتفيها بحنان زاد من حسرتها على نفسها ..
_نادية؟
ازداد انكماشها باكية مع ندائه الثاني .. فقال برفق محاولًا طمأنتها :
_نادية، هذا أنا.. حمزة.. أنا لستُ مثله!
رفعت عينيها إليه وكأنها تشكي له ما حدث لها .. تخبره بلا قدرة على الحديث أنها تعلم .. تعلم أنه أبدًا لن يكون مثله..
أومأت له ببطء متعَب.. ثم همست بما التقطاه بسهولة لخلو المكتب إلا من ثلاثتهم بعد خروج الجميع منذ دقائق بوجوه مكفهرة :
_أخرجاني من هنا.

~~~
لا تفسير ..
لا إجابة ..
ما الذي قد يدفع شخصًا للمنح دون اهتمام بالأخذ؟
عطاء بلا حدود، وبلا شروط لا يلقى أمامه سوى اللاشيء!
إنها علاقة سامة .. وتعترف بلا شك أنها الطرف السام فيها.
ولكن .. ما مسمى هذه العلاقة؟
هل ما زالت صداقة واهية تتوارى خلفها مشاعر مبعثرة؟ أم تغيرت بتغير الحالة الاجتماعية؟

جلست جود تضم ركبتيها إلى وجهها متأرجحة بكامل جسدها ببطء فوق الفراش.. تفكر منذ ساعات حتى كاد عقلها أن يفر هاربًا مطالبًا ببعض من الراحة اللازمة لمواصلة عمله بعدها!
لمَ عليها أن تفكر بمفردها وتعترف بمشاعر معقدة بداخلها ثم أمامه يهوي كل شيء رأس على عقب فتهذي بكلمات غير مدبرة تجعلها تبدو أمام نفسها قبله كفتاة برأس حمار!
وتعاود التفكير في النقطة الأولى..
ما الذي يجعل شابًا كان منذ شهور قليلة لا يشغله سوى نفسه يتعامل بهذه التضحية معها وكأنه سيفوز بجائزة كبرى جراء شهامته؟
تكاد تجزم أن الأمر لا يتعلق بشهامة بحتة .. وإن شُهد له مرارًا على ذلك.

_لقد ذهب معي هاشم .. طلبت منه مرافقتي ولم يتردد في الموافقة.
قالتها نارين بوجنتين متوردتين وعينين تبرقان كمن تتحدث عن بطل مغوار، فانكمشتا زاويتي عيني جود الجالسة أمامها في ذلك التجمع الصغير لهن بالجامعة..
تبادلت النظرات مع ضحى بصمت، بينما ردت فتاة ذات شعر قصير مشبع بشقرة مصطنعة :
_وماذا بعد؟
تهكمها وصل إلى صديقتها، لكنها أجابت بلا اهتمام :
_لا شيء .. مرت مقابلتي مع أبي بسلام حمدًا لله، وكان هو ينتظرني بالخارج.
_هل كان ذلك مساء أمس؟
سألت جود بلا تعبير، فالتفتت إليها نارين تهم بالرد حين جاءت جملة روز الساخرة :
_أليس صديقك؟ كيف لا تعرفين!
رفعت جود حاجبًا وهي ترد بصلف :
_لا توجهين لي الحديث بهذه الطريقة.. ما يجمعني بهاشم مجرد صداقة حقيقية، ما تقصدينه أنتِ اسألي عنه صديقتك.
أنهت جملتها برسالة ضمنية مشيرة لعلاقة الارتباط التي تجمعه بنارين .. فما كان من الأخيرة إلا أن قالت بعتاب مبطن إلى صديقتها المقربة :
_لا داعي لهذا الكلام يا روز، إن كان هناك من تضايقه كلماتك فهو أنا.
تحدثت ضحى من بينهن محاولة تهدئة الوضع الذي تكهرب فجأة :
_حصل خير، لم يحدث شيء لكل هذا يا فتيات!
لم تتوقف روز عن تهكمها المعتاد، بل أكملت رامية بكلمات لاذعة رغم كونها حقيقة :
_بل حدث يا ضحى .. ما حدث هو أنني أخبرها في كل مرة أن هذه العلاقة لا يمكن أن يُكتب لها النجاح أبدًا وهي لا تصدقني ومازالت تتحدث عن الأمر بحالمية ساذجة!
ثم التفتت برأسها إلى صديقتها تختم حديثها بسؤال تعلمن جميعًا إجابته وإن حاولت الأخيرة إنكارها :
_إن كان شهمًا ويحبك إلى هذه الدرجة، فلماذا لم يعرض عليكِ الزواج حتى الآن؟ لمَ لم يستغل فرصة مقابلة والدك ليتقدم طالبًا يدكِ منه؟
تبادلتا الصديقتان النظرات بتحدٍ واضح، بينما الأخرتين موقنتين في قرارة نفسيهما بصحة ما قيل رغم فظاظة الأسلوب..
لم تهتم جود بالنقاش الدائر بعد هذه الكلمات والذي لن يفيد بشيء جديد كما هو الحال، فأخرجت هاتفها تتفحص آخر رسائله معها مساء اليوم السابق حين أخبرها بأنه مشغول بعض الشيء دون تفاصيل تُذكر ..
ثم رفعت عينيها متابعة الحوار المحتدم بين الصديقتين تارة، وملامح اليأس فوق ملامح ضحى لعدم نجاح أي منهما في فض الشجارات الدائمة بينهما ..
فضغطت على الهاتف داخل قبضتها، وعقلها لا إراديًا يُحمله جُل المسؤولية لما يحدث في هذه اللحظة.

تأخذها الذكرى إلى أخرى قصيرة المدى بالغة الشعور .. ذكرى جملة متهكمة قيلت في جلسة لم تغب عنها سوى واحدة كانت هي بطلة الأحاديث، ولم تمر أبدًا عليها _جود_ مرور الكرام..
"أرأيتما؟ حين قرر الخطبة لم يذهب إلى الصديقة أو الحبيبة.. بل ترك الحبيبة معتذرًا ودعا الصديقة بكل جحود لتشهد قصة حبه لأخرى.. وكي يجعل الأمر أكثر تشويقًا اختار صديقتها المقربة لبطولة هذه القصة!"
خرجت من ذكرياتها إثر رنين هاتفها الذي صدح نازعًا إياها من شرودها الطويل..
فرفعته لأذنها وهي ترد بتلهف :
_كيف حالك يا أمي؟ اشتقت إليكِ بشدة.
ردت والدتها موارية تأثرها بفراق صغيرتها :
_ألم أحدثك منذ ساعات؟ آه يا جود لو تعرفين كم أن المنزل بات هادئًا منذ مغادرتك.. إن كنت أعلم أن الأمر سيكون بهذا الجمال لنصحتك بالهجرة منذ سنوات.
كتمت جود ضحكتها وهي تقول بمناكفة :
_هكذا يا زينب؟ حسنًا فأنا أعجبني الجو هنا بالفعل ولا أفكر في العودة.
ضحكت زينب من جملتها الطفولية لترد بمكر أمومي :
_أعجبك الجو يا قليلة الحياء! بالمناسبة، هل استيقظ هاشم؟
همهمت جود بتفكير مسموع :
_أظن ذلك فنومه خفيف ويستيقظ مساءً كالوطاويط.. لقد شعرت بحركته منذ قليل.
حينها تسمرت قائلة بتصحيح سريع قبل تساؤل والدتها :
_أقصد أن غرفتينا متجاورتين حتى أنني أشعر بحركته عبر الجدار الفاصل، لسنا في جناح واحد بالطبع.
اختتمت جملتها بضحكة عصبية بينما صمت والدتها يقلقها، فأكملت دون تفكير :
_هل تريدين التحدث إليه؟
لماذا؟
لــــــــمـــــــــــاذا؟
لماذا نطق فمها بهذه الكلمات الآن .. ماذا إن قبلت والدتها؟ إنها تتحاشاه منذ عودتها من الخارج!
أنقذتها أمها حين ردت نافية :
_لا داعي سأتصل أنا به فيما بعد، فيبدو أنه استيقظ للتو من حركته التي شعرتِ بها عبر الجدار الفاصل.
كادت تضحك ملء فمها وهي تستشف ما وراء كلمات والدتها المقصودة.. فتظاهرت بعدم الملاحظة وهي ترد متهربة :
_حسنًا يا أمي يبدو أنكِ استيقظت للتو أيضًا، اهتمي بصحتك ولا تنسي الدواء بعد الإفطار.
ثم غمغمت بوداع سريع لتغلق الهاتف متنفسة الصعداء ..

خرجت من غرفتها بهدوء ظاهري لتقابله بالخارج .. يجفف وجهه ببضعة محارم ورقية بعد غسله، قبل أن يلقيها بسلة القمامة الصغيرة جانب المرحاض..
ارتفع حاجبها باستنكار مغمغمة
"لمَ لا يستعمل المنشفة؟ هل يحافظ على نضارة بشرته أم ماذا؟"
نفضت عن رأسها ذلك العبث وهي تتقدم لتسبقه جالسة على الأريكة.. فنظر إليها بتعجب قائلًا بمزاح خفيف خرج بصوت أجش إثر نومه :
_هل أعتبر هذا بمثابة تبديل أوضاع وأذهب لتكملة نومي في الغرفة؟
رفعت رأسها إليه بهدوء فانثنت خصلاتها البنية عند رقبتها بنعومة ..
يا الله!
كيف لغياب قطعة قماش أن يعيده للوراء عام كامل!
وكأن كل ذلك لم يكن .. ما تلبس شهورهما الأخيرة من مرار ذاب وارتمى جانبًا باستسلام..
رغم استحالة الأمر، إلا أنها بالفعل تبدو أكثر أريحية معه منذ عقد القران.. لم تعد تخفي عفوية هي في الأساس جزء لا يتجزأ من شخصيتها.. وخير دليل على ذلك تلك الجلسة المتحفزة في منامتها الشتوية الفضفاضة.. أي ملابس على جود تبدو فضفاضة ..لكن هذه فضفاضة جدًا!

لم يتوغل في تحليل كل ما يخصها وهو يستمع إلى جملتها المنخفضة :
_هلا تحدثنا؟
أومأ برأسه متحركًا ليجاورها في جلستها على بُعد بضعة سنتيمرات كانت كمساحة أمان لكلاهما ..
همت بالحديث حين قاطعها سائلًا :
_هل سيتطلب التفكير؟
عقدت حاجبيها بعدم فهم معقبة :
_ماذا؟
رد موضحًا :
_ذاك الحديث الذي تريدينه، هل سيتطلب التفكير؟ فأنا عقلي لا يعمل بعد استيقاظي بأقل من ساعتين.
ازدادت عقدة حاجبيها قائلة بنزق :
_هاشم!
مط شفتيه بامتعاض مجيبًا :
_حسنًا لن أمزح، تفضلي ببدء خطبتك العصماء.
سحبت شهيقًا مستجلبة بعض من رزانة لا تملكها، ثم افتتحت حديثها سائلة بترقب :
_ماذا سنفعل؟
حرك كتفيه صعودًا بخفة متظاهرًا بعدم الفهم وهو يبارزها بسؤال مماثل :
_ماذا سنفعل في ماذا؟
تحكمت في أعصابها وهي تستنبط تلاعبه، فردت مجيبة بهدوء :
_فيما نحن فيه يا هاشم.. ماذا بعد؟
صمت للحظات ناظرًا للأمام بملامح غير مقروءة .. ثم عاد إليها بوجهه قائلًا :
_علامَ اتفقنا؟
بدا كسؤال تقريري، لكنها أجابت بتوضيح :
_اتفاقنا كان على خطبة قصيرة ننهيها عند العودة.. لم نتحدث أبدًا بشأن عقد القران وقد وعدتني أنك ستتصرف بعد الانتهاء من مشكلة الشركة.
رفع كفيه ببساطة وكأنه لا يدري سبب حديثها قائلًا :
_وها قد انتهينا من شأن الشركة!
أغاظتها برودة أعصابه، فردت باحتقان :
_وماذا عن شأننا نحن؟
_ماذا عنه؟
تحكمت في علو صوتها قليلًا قائلة بعينين متسعتين غضبًا :
_هاشم لا تتلاعب بالكلمات وتدعي عدم الفهم.. لقد وعدتني أن تصلح كل شيء وأنا وثقت بك!
عقد حاجبيه وهو يرد مدافعًا :
_ألم أصلح كل شيء بالفعل؟ أم أنكِ تريدين رؤية كم ارتفعت أسهم شركتنا خلال ساعات فقط بما أنقذنا من كارثة محققة؟
نهضت واقفة قبالته بحنق بينما تصيح :
_هاشم أنا أكرر أنني لا أتحدث عن أمور الشركة وأنت تفهمني جيدًا، فكف عن أفعالك هذه وأجبني.. ماذا سيحدث؟
رفع إليها عينيه ببرود لم يغادره بينما يسأل :
_لنكن على نور .. ما الذي تريدين حدوثه؟
ترددت للحظات .. ثم قالت محاولة تفنيد الكلمات :
_لقد أخبرتني أننا سنرتبط حتى نسافر لحل مشكلة الشركة .. أي أن ننفصل بعد العودة.
قال وهو يضع طرف أنملة سبابته خلف أذنه :
_نـــ ماذا بعد العودة؟
اتسعت عيناها تهم بالرد حين قاطعها مستكملًا :
_نعم لقد قلت أننا سنرتبط حتى نحل مشكلة الشركة، وقصدت بـ"حتى" هنا أن "كي نحل مشكلة الشركة" وليس "إلى أن نحل مشكلة الشركة" أنتِ من فهمتِ الـ"حتى" الخاصة بي بشكل خاطئ وهذه مشكلتك.
تدلى فمها بغباء وهي تستمع إلى كلماته المنزلقة، إلى أن كرمشت معالم وجهها قائلة بذهول :
_أنت تمزح صحيح؟
أومأ برأسه نافيًا، فأكملت بنفس النبرة مُقرة هذه المرة :
_ستطلقني يا هاشم.
عاد هاشم في جلسته مسترخيًا ليرد بلا تعبير :
_إذا أردت أن تُطاع .. فمُر بالمُستطاع.
اتسعت عيناها بهلع غير مبرر إلى ذاتها، لتهتف محاولة إنكار ما فهمت :
_ماذا تعني؟
مسح وجهه بكفيه متنهدًا .. قبل أن يرفعه إليها مستقيمًا من جلسته ليواجهها في وقفتها قائلًا باستفزاز أشعل فتيلة تحدٍ بداخلها :
_أرأيتِ لمَ لا أحب الحديث فور استيقاظي؟ تجهزي لميعاد الطائرة .. وبعدها لكل حادثٍ حديث.
ثم تركها معقودة اللسان جاحظة العينين.. متقدة الأعصاب بتأهب لحرب صغيرة سيكون كالعادة شريكها الوحيد بها.. رغم اعترافها لنفسها أيضًا هذه المرة أنها الطرف الضعيف .. في القوة وفي الحجة!
~~~


علامات الاستفهام..
الكثير والكثير من علامات الاستفهام ارتسمت على وجوه من بالشركة عند رؤيتهم لرئيس قسم الجودة يسير بجانب موظفتين من القسم تشد إحداهما بعضد الأخرى التي يبدو عليها الإعياء جليًا .. ثم يسير كل منهم عائدًا إلى عمله دون أن ينبس ببنت شفه..
وقفت يسرا عند باب غرفة مكتب المدير هامسة إلى صديقتها بينما تنقل شيئًا ما من هاتفها الذي فتحته ببصمة إبهامها :
_لقد نقلت رقم سائقك الخاص، سأتصل به ليحضر الآن ثم أنزل لمتابعة ما يحدث مع أفاعي القسم بالأسفل .. انتظري بداخل المكتب إلى أن يهاتفك السائق.
أومأت نادية برأسها مدركة أهمية وجود يسرا خلال إجراءات التحقيق والمحضر الخاص بذلك النذل .. فمالت عليها بعناق جانبي تبادلها الهمس بآخر أكثر خفوتًا :
_شكرًا.
لم تدرِ بما تكمل، ولم تعطها الأخرى فرصة وهي تبتسم لها دون رد مبتعدة وهي تشير إليها بأنها ستهاتفها لتطمئن عليها..

_هل أنتِ بخير؟
سألت غادة بقلق قبل أن تدلف نادية إلى المكتب، فالأولى لم تستطع ترك المكتب لرؤية ما يحدث بالأسفل .. فرسمت الأخيرة شبح ابتسامة فوق شفتيها وهي تومئ بعينيها مطمئنة .. ثم دخلت المكتب بهدوء جالسة على المقعد أمام مكتب حمزة حسبما أشار إليها ..

ليس هذا هو الموقف الذي تمنت العودة إلى المكتب فيه..
ليست هذه هي الحال التي أرادت رؤيته بها ..
حتى أن عينيها عصت كل ما يُمكن أن يمليه القلب من أوامر وأبت إلا أن تطالع نقطة ما في الفراغ أمامها دون الالتفات إليه.
وعلى ما يبدو أن مقلتيها لم تقتصر على عصيان القلب .. بل نكست كل العهود التي أخذها العقل عليها بألا تبكي .. بألا تذرف الدمع مجددًا فكفاها وهنًا وخزيًا..
أسقطت وجهها بين كفيها، وراحت تجهش ببكاء كبحته منذ رؤيته..
شعورها بالأمان أعطى إشارةً خضراء لسيل من الدموع أن تجري فوق وجنتيها دون عوائق .. لكنه لم يرفع عنها الحرج، فازداد بكاؤها طفولية لمظهرها المخجل.

_نادية، اهدئي أرجوكِ.
ازدادت حدة نشيجها فرفعت وجهها المبلل إليه هاتفة :
_لا تقل هذه الكلمة.
ثم عادت لتدفن وجهها بين راحتيها مكملة نوبة البكاء الحار ..
طالعها بتعاطف شديد زاد من سخطه على ذلك الموظف، فتمنى لو كان قد هشم رأسه تمامًا بقبضته قبل أن يفصل بينهما زميليه ..
دفع إليها برفق زجاجة من العصير قائلًا لينبهها :
_لقد طلبتُ لكِ العصير.. جسمكِ يحتاج إلى السكريات الآن.
رفعت عينيها إليه مجددًا، ثم أخفضتهما إلى الزجاجة .. ومنها إليه .. ثم إلى الزجاجة .. ثم إليه..
ثم عادت لتدفن رأسها في نوبة بكاء جديدة .. لقد اهتم بحالتها وبما تحتاجه.. وطلب لها العصير!

أجفل لرد فعلها، فقال بتوتر لا يفهم ما عليه فعله :
_إن كنتِ لا تريدين العصير فلا بأس، ماذا تحبين لأطلبه لكِ؟
رفعت وجهها إليه مجددًا بنفس النظرة التي تنذر بنوبة بكاء ثالثة .. لكنها كبحتها بقوة فبدا وجهها محتقنًا بالدماء ..
تفاقم توتره لعدم ردها ونظرتها الثابتة إليه، فقال بقلة حيلة محاولًا فهم ما تريد :
_ماذا؟
تنفست بعمق متحكمة في نفسها، قبل أن تضحك بلطف من حالته المرتبكة وهي تمسك بزجاجة العصير من فوق المكتب لتفتحها :
_أحب العصير .. أشكرك.
"ومن جلَب العصير"
غمغمة نبعت من داخلها استنكرتها في حالتها تلك .. هل هذا وقته؟
ومن بين طفوها الداخلي في حالة مشابهة بالتعلق بين الوعي واللا وعي بينما تمدها سكريات المشروب ببعض الطاقة للإدراك باغتها فكر..
هل وصلت الشائعات والأحاديث عن قتلها لزوجها السابق إلى حمزة أيضًا؟
هل في جلسته تلك يراها كمجرمة بدايةً ونهايةً يديها مدنستين بالدماء؟
أم يراها كنادية؟ فقط نادية التي رآها لأول مرة فوق كرسي مشابه لما يجلس عليه الآن، تغطس فيه من فرط الارتباك والخجل..
نادية التي توسمت فيه ما لم تتوسمه في رجلٍ من قبل .. والتأم بروحها ما تشقق من قبل.
سؤال نبعت إجابته من داخلها بقوة..
لا .. حمزة لا يعرف .. ولا يجب أن يعرف.
_معكِ إجازة مفتوحة حتى تستعيدي قواكِ.. وعند عودتك قريبًا إن شاء الله ستجدين طاقمًا جديدًا من موظفي قسم الجودة.
نظرت له سائلة بتردد :
_وهل سيتم رفد هؤلاء؟
عادت ملامحه لصرامتها التي تركته منذ قليل وهو يجيب مؤكدًا :
_بلا شك.
أومأت برأسها زافرة براحة .. ثم عادت لتجرع المشروب بهدوء وهي تنظر بساعة هاتفها منتظرة وصول السائق ..
اصطدمت عسليتيها اللامعتين بسوداويه مجددًا فندت عنها ضحكة مرتبكة قصيرة متمتمة :
_شكرًا مجددًا .. على كل شيء.
ثم عادت لتغوص بمقعدها بارتباك وخجل .. منافيين تمامًا لما بدأت بهما حكايتها التي أضحت مثيرة في هذه الشركة.

~~~
إنه منعزل .. منغلق على ذاته منذ يومها يعيد ترتيب دواخله في إجراء متأخر .. متأخر بشدة..
يشعر أنه قد مُنح فرصة أخرى لم يعطها له القدر هباءً .. فبات أكثر شرودًا وتباعدًا.

قابلها أثناء مروره على مكتب والده تخرج ضاحكة فخمن أنها ذهبت لتناكفه كعادتها، فوقفت منة أمامه قائلة باندهاش :
_أدهم كيف حالك؟ عدت مبكرًا اليوم!
ابتسم مومئًا برأسه بينما يجيب بصوت فاتر :
_أنا بخير، فقط انتهيت من أعمالي مبكرًا.
ثم توجه إلى غرفته بهدوء شديد، فيما زفرت منة محركة ناظريها بين غرفة مكتب أبيها والمطبخ الذي تقبع به أمها متمتمة بتململ
"منزلٌ خامل كبحيرة راكدة لم يطأها السمك منذ قرون."
لمعت ذكرى قريبة في رأسها في وقفتها أمام غرفة المكتب التي غادرها أبيها مع أدهم منذ أيام، ثم اقترب من والدتها هامسًا إليها بشيء ما تكاد تجزم أنه اختتمه بـ"لا تخبري أحدًا، ولا حتى منة."
لذا فقد حفظت والدتها سرية الأمر حتى مرت بجانبها تلك الليلة قبل ذهابهم لمنزل يسرا وهي تنكزها في جانبها هامسة بينما تغمز بعينها "سأخبرك حين نعود."
لكن أمها نست .. فعزمت على سؤالها بفضول وهي تتقدم إلى المطبخ، لتدلف قائلة بدلال :
_هل الحلوى تصنع الحلوى؟عجيــــبة!
أنهت جملتها بنبرة ممطوطة استدعت ابتسامة على وجه صفا وهي ترد :
_ما زال هناك الكثير من الوقت لتنضج الكعكة فقد أدخلتها الفرن للتو، إن جلستِ بجواري منتظرة قد تغفين مللًا.
اقتربت منها منة لتلعق بعض العجين النيء المتبقي بالطبق البلاستيكي العميق قائلة :
_طعمها قبل دخول الفرن ألذ بكثير.
ضحكت صفا قائلة بيأس بينما تجمع المواعين لغسلها :
_أنتِ تحبين كل ما هو لا يحتاج إلى مجهود، تذكريني بشقيقتي .. لم تكن تجيد الطهي أبدًا بينما كنت أنا أتفنن في صناعة الأصناف المختلفة.
ترددت للحظات .. ثم التفتت بنصف استدارة إلى ابنتها  الجالسة على طاولة المطبخ قائلة بحرج :
_هل تجيد نبراس الطهي؟
طالعتها منة مشفقة .. تكاد تتخيل شعور أم تعرف عن ابنتها ما قد يعرف الغريب ما يفوقه بمراحل .. لكنها ابتسمت لها مجيبة بتعاطف :
_نعم يا أمي .. تشبهكِ كثيرًا.
تركت صفا ما بيدها لتدنو منها ببسمة محبة جالسة بجوارها بينما ترد :
_وأنتِ أيضًا تشبهينني.
ارتفعا حاجبا منة بدهشة قائلة باستنكار :
_أنا؟
أومأت صفا برأسها دون أن تتخلى عن ابتسامتها، فرفعت منة كتفيها ظنًا أن والدتها تجاملها لا أكثر وهي ترد :
_ربما..
عم الصمت للحظات، قطعته منة فجأة متذكرة ما أتت لأجله :
_ما به أدهم؟
كمن التقطت صفا طرف الخيط، فسحبته ليُكر معها قائلة :
_صحيح نسيت أن أخبركِ، لقد كان متشاجرًا مع عروسه يوم الزفاف .. فظن في البداية أنها تحججت للإلغاء لا أكثر.. خاصةً أنها لا تستقبل مكالماته حتى الآن وقد علم من والدها أن حالتها الصحية تحسنت من اليوم التالي وعادت لعملها!
قالت منة شاعرة بالظلم للفتاة :
_لكنها كانت متعبة حقًا يا أمي، ابنك هو من يتحجج للخصام كالصغار!
قالت والدتها مقترحة :
_ولمَ لا تحاولين التحدث معه؟
سارعت منة نافية :
_لا .. لن أتدخل في هذا الأمر مجددًا ولا أظنه يريد مني التدخل .. هو لم يخبرني بشيء فلن أتباجح إلى هذه الدرجة.
همت والدتها بالمقاطعة لكنها أوقفتها مردفة :
_أنا لا أضع حدودًا بيني وبينه كما تظنين، ولا حتى هو كان يضعها حين رفض الوجود في المحيط يوم تقدم عريس لخطبتي .. الحدود بيننا موجودة دومًا وإن حاولنا التغافل عنها.. هو ابنك، وأنا ابنة أبي مختار .. لكننا لسنا بشقيقين.
أخفضت والدتها رأسها بتعبير مبهم، فيما استطردت هي :
_لم أقل لكِ أن تخبريه بشيء أو حتى تحاولي إصلاح الموقف .. لقد كان موعد زفافه عليها منذ يومين فمتى سيتعلم كيفية إدارة أمور علاقته بنفسه؟ كل ما أقوله أن تتحدثي معه لفهم ما يدور برأسه وعلامَ ينوي لا أكثر ولا أقل.
فكرت صفا قليلًا قبل أن تتشدق بتبرم :
_أنا أساسًا لا أفهم ما معنى الارتباط العقلاني هذا .. كيف يُسمى ارتباط بلا شعور!
مصمصت منة شفتيها وهي تضرب بكف فوق الآخر فبدت بجانب والدتها كأجنبيتان تربتا في حارة شعبية وهي ترد موافقة إياها :
_لا أعرف ما تقاليع هذه الأيام! وهل يُطلق اسم "العلاقة" على شيء سوى تعلق قلبين ببعضهما البعض؟
نظرت لها والدتها بطرف عينيها قبل أن تقول بمكر :
_ذكَّرتِني بأمر ذلك العريس .. لم نتحدث بشأن هذا بعد، انتظريني سأذهب لرؤية أدهم ثم أعود لأفهم كل شيء منكِ.. فيبدو الأمر أكبر مما ظننت وقتها.
أومأت لها منة تنوي الفرار من المكان فور خروج والدتها للهروب من ذلك الحديث .. ستفعل أي شيء .. أي شيء قد يمنعها من البوح بمشاعرٍ كارثية قد تدمر كل شيء رأسًا على عقب..
ليس بعد كل هذا ستأتي هي لتفكك شمل أسرتها الصغيرة ..
لن تسمح لشيء كهذا بالحدوث.. حتى وإن كان ذلك على حساب نفسها.

أخرجتها والدتها من أفكارها وهي تقول مسترعية انتباهها :
_بالمناسبة .. أنتِ عاطفية كوالدتك.. أرأيتِ أنكِ تشبهينني؟

طرقت على باب غرفته بهدوء، فأتاها رده دون سؤال :
_تفضلي يا أمي.
ابتسمت مديرة مقبض الباب، ثم دلفت مغلقة إياه خلفها .. حينها اعتدل أدهم جالسًا بينما يقول بتخمين :
_يبدو أن لدينا موضوع للنقاش.
جلست بجانبه على حافة الفراش قائلة بنبرة بدت مضحكة مع لهجتها :
_أنار الله طريقك يا بني.. مضبوط، لديَّ ما أريد التحدث معك فيه.
أومأ برأسه عاقدًا حاجبيه باهتمام، فحاولت ربط كلماتها كي تتحدث كأم عاقلة مع ابنها .. لتبادر قائلة :
_حالك هذه الأيام لا يُرضي نفسي ولا يريح قلبي يا بني ..
هم بالرد لكنها قاطعته مكملة :
_لا تخبرني بأسباب واهية تخص شجارك مع خطيبتك فأنت تعرف جيدًا أن مشكلة كهذه يمكن حلها بلقاءٍ واحد .. لا تتعلل بعدم ردها على اتصالاتك فهذه المكالمات الهاتفية تفاقم الأمور لا تحلها .. ما سبب جفاءك على عروسك يا ولدي؟
قطب حاجبيه وهو يرد مدافعًا ينفي تهمة قاسية عن نفسه :
_لستُ جافيًا يا أمي ويشهد الله أنني رغم خشونة طبعي وعدم قدرتي على انتقاء الكلمات المعسولة إلا أنني لم أهِنها يومًا .. وهذا ليس أول خلاف نتعرض له في علاقتنا لكنه مختلف عن خلافاتنا السابقة .. أشعر به سيكون الأخير الذي يأخذ معه كل شيء ويرحل.
وضعت صفا يدها فوق قلبها قائلة بجزع :
_لمَ كل هذا يا أدهم؟ علامَ اختلفتما؟
فرك وجهه بكفيه مجيبًا :
_لا يهم .. لا يهم سبب الخلاف فتوتر الأجواء قبيل الزفاف تخلق من المشاكل الكثير.. لكن الوضع يزداد سوءً بيننا .. نحن لا نستطيع تسيير الأمور!
قطع حديثه غير راغبًا في الاستكمال .. كيف سيخبرها أنه حين تناسى خلافهما وذهب إليها زائرًا شعر وكأن حاجزًا قد وُضع بينهما وهي تتحاشى النظر إليه دون أن تطل من عينيها نظرة حزن واحدة تشي بأنها عروس قد أُلغي زفافها!
كيف يشرح أنه لم يشعر بشيء يخص شعوره كعريس حين علم بإلغاء الزفاف؟ لم يمر عليه الإحباط كزائرٍ خفيف .. ولم يفقد شغفًا لم يملكه من الأساس..
لقد قلق على عروسه حين علم بتعبها المفاجئ لن ينكر.. لكن ليس بالقدر الذي كان من المفترض أن يشعر به.
_وماذا بعد؟
ظن هذا السؤال صادرًا من أفكاره، قبل أن يوقن أن أمه هي من ألقته حين تابعت :
_هل ستظل جالسًا تنتظر منها أن تبدأ هي معك الحديث؟
كان سؤالها مستهجنًا .. لكن رده أدهشها وهو يومئ برأسه مؤكدًا وكأن مستقبله ذو ثمن بخس في نظره :
_ستبدأ .. أو ربما ستنهي .. على كل حال، لها مُطلق الحرية في تحديد القادم.

~~~
"سيادة الشرطية؟"
أعقب رسالته الأولى في تلك المحادثة الفارغة بينهما بملصق لطفل ذو ابتسامة سمجة تشبه خاصته .. وقد لاحظت إلهام بالفعل مدى الشبه وهي تناظر هاتفها بصدمة .. كيف حصل على رقم هاتفها؟
تمتمت بغل من بين أسنانها متوعدة لشقيقتها وهي تنقر بأصابعها فوق الشاشة لترد متصنعة عدم معرفة هويته ..
"مَن؟"
"خطاب شكري زين الدين أحمد علي."
اتسعت عينيها دهشةً من إجابته النموذجية.. ناهيك عن كون أسماء جدوده أكثر عصرية عنه، فكتبت بفظاظة أكدت له أنها تلك التي قابلها أول مرة بجانب سيارته ..
"سألت عن اسمك فقط، فأنا لن أصنع لك بطاقة."
ثم تبعتها بجملة مستنكرة فشلت في منع نفسها من كتابتها
"ثم أن اسمك وحده يكفي، لم يعد هناك من يُسمى خطاب كي يختلط عليَّ الأمر مثلًا .. ربما أنت الوحيد في البلد بهذا الاسم."
لم ترَ ابتسامته (المرعبة) في وجهة نظرها وهو يرد جملتها مدعيًا البراءة
"لكنه اسم جميل .. يأتي من الخُطبة."
لم تكبح ضحكة متفاجئة وهي تضرب كفًا فوق كف من ردوده العجيبة.. لكنها توقفت فجأة بوجه متجهم .. بمَ أخبره هاشم بالضبط؟
فهو بالتأكيد بأفعاله تلك لم يعلم برفضها لعرضه بعد!
"وددت فقط سؤالك عن ميعاد التمرين القادم، فكما أخبرتك أنا سأستمر في هذا التمرين."
ردت بغيظ
"ولمَ لم تسأل نادية هذه المرة أيضًا؟"
توقعت أن ينفي مُبرئًا شقيقتها من هذه التهمة المثبتة عليها لا محالة، إلا أنه بدا كمن يشتري نقاطه عندها، فلم يستهن بذكائها وهو يجيب ببساطة شديدة ..
"إنها في إجازة اليوم."
أتبع رسالته بملصق متحرك لكلب يبكي بتأثر ..
فزفرت وهي تكز على أسنانها بغيظ صائحة إلى نفسها :
_هذا ليس عدلًا .. لمَ تُضحكني سخافاته تلك؟ هل تحالفت نفسي معه ضدي!

قبضت على الهاتف بيدها وهي تركض خارجة من غرفتها إلى أن وقفت على درج بمنتصف السلم صائحة :
_أبـــــــــي .. بمَ أخبر هاشم خطاب بالضبط؟
رفع والدها رأسه إليها من جلسته المسترخية أمام التلفاز بجانب زوجته وابنته التي تتوسد صدر أمها متدثرة بمدفئة ناعمة .. ثم رد بهدوء :
_أخبره أنكِ تريدين مهلة للتفكير .. عيبٌ عليكِ يا ابنتي، هل تريدين منا أن نخبره برفضك من ثاني يوم لعرضه؟
استشعرت تقصُّده لاستفزازها، فتخصرت بمكانها بينما تجيب باستنكار :
_أليس أفضل من أن أجيب بالرفض بعد تفكير طويل؟ لمَ نتركه للعشم ليأكله؟
تبادل نظرات ذات مغزى مع والدتها، قبل أن يعاود النظر إليها قائلًا :
_إلهام، هذا لا يصح .. سيخبره هاشم بعد عودته من السفر .. أي بعد ساعات من الآن، هلا هدأتِ قليلًا؟

توجهت إلهام بشرارات نظراتها إلى شقيقتها حتى كادت تطيح بها وهي تهتف بصوت جهوري :
_نـــــــاااديــة!
انتفضت نادية من نومتها تنظر إليها بعينين جاحظتين صائحة بفزع :
_مـــــاذااا؟
ضمت إنصاف بكريتها تربت على كتفيها وهي تبسمل في أذنها لتتجاوز الخضة مسيطرة على ضحكتها بصعوبة.. فكبح صلاح ضحكته بالتتابع إلى أن تحدثت إلهام بغل :
_ألن تتوقفي عن التآمر عليَّ؟
ردت نادية بعدم فهم :
_لم أتآمر أقسم بالله، لقد كنت نائمة!
زمت إلهام شفتيها لتهتف بعينين ضيقتين :
_أنتِ أيضًا من أعطيتِ له رقمي هذه المرة، أليس كذلك؟
رفعت نادية سبابتها إلى فمها مبررة بطفولة كي تستعطفها :
_لقد حلفني بالله أن أساعده، فلم أستطع رده خائبًا!
اشتعلت أوداج إلهام غيظًا وهي تصيح فيها :
_حسابكِ معي فيما بعد يا نادية..
مال صلاح جانبيًا إلى ابنته هامسًا بنبرة خطرة :
_أعطيتِ الرجل رقم هاتف أختك يا نادية؟
اتسعا جفناها بقلق وهي ترد :
_يا أبي لقد تقدم لخطبتها رسميًا، أي أن غرضه شريف، فلمَ لا أساعده؟
نظر لها بعينين ضيقتين كابنته معقبًا :
_حسابكِ معي أنا فيما بعد يا نادية.
اعتدل بعدها مواصلًا مشاهدة التلفاز، وشدت نادية الغطاء فوقها مجددًا، بينما والدتها تلقي ببضعة حبات فشار في فمها وكأن شيئًا لم يكن ..
فاستدارت مغتاظة من هذه العائلة تعاود الصعود إلى غرفتها وهي ترى ما أرسله أثناء حديثها مع أسرتها .. فكادت تتعرقل وهي تقرأ فحواهن بالتتابع.
"عمومًا إن كنتِ لا ترغبين بالرد فلا مشكلة سأعرف بأي شكل آخر."
"على فكرة يمكنني الوصول لموعد التمرين بسهولة، فقط أردت أن اعطيكِ ثواب مساعدتي لا أكثر."
"متأكدة أنكِ لا تريدين إخباري بالموعد؟"
"حسنًا سأتصرف لكني لن أترك التمرين .. فهو جميل ولطيف رغم أنه يبدو لأول وهلة عنيفًا .. أحببت هذا التمرين."
~~~
سقطت قطرة ماء .. تبعتها أخريات أشد قوة وسرعة .. كل منهن تترك أثرًا نديًا فوق نافذته تمحيه لاحقتها طابعة بصمتها الخاصة وإن تماثَلن في كل شيء .. لطالما كان حلمًا بالنسبة إليه معايشة هذه لأجواء في شتاء فرنسا .. كان ذلك الطقس مثالًا لحالة فريدة من الهدوء والاستمتاع الرائق بهطول الأمطار والثلوج .. فلمَ بات مرعبًا الآن؟
هاتفته أسرته بأكملها للاطمئنان عليه إبان هذه التقلبات الجوية المفاجئة كما تصرح نشرات الأخبار الفرنسية التي أضحى كل فرد في الأسرة يتابعها لأجله ..
حتى هاشم .. هاتَفه من شيكاغو قلقًا!

ابتعد فريد عن النافذة محاولًا الوصول إليها عبر الهاتف بلا جدوى .. فدلف إلى الغرفة مبدلًا ملابسه إلى بنطال ومعطف ثقيل، قبل أن يلتقط سترة الأمطار ومظلة ليغادر قاصدًا منزلها ..
صعد الدرجات الأولى فوجد خالتها واقفة أمام باب منزلها، ما إن رأته حتى سألت بلهفة :
_مرحبًا فريد، هل رأيت تشاد في طريقك؟ إنه موعد عودته من المدرسة ولم يحضر حتى الآن رغم أن المدرسة قريبة جدًا من هنا .. أخشى أن ...
قاطعها فريد مطمئنًا بعض الشيء حين رأى حالتها الفزعة :
_سيكون بخير بإذن الله، لا لم أصادفه في طريقي، لكن.. لمَ لا تحاولين الاتصال بالمدرسة؟
أومأت برأسها توافقه على اقتراحه كغريق يتعلق بقشة وهي تردد :
_معك حق، معك حق .. سأهاتف المدرسة.

رن جرس الباب تارة، ثم طرق فوقه بلا جدوى .. بينما دخلت يولاند منزلها ثم عادت بورقة ومفتاح .. أعطته المفتاح ثم شرعت تنقل الأرقام من الورقة إلى هاتفها وهي تقول :
_ميز بالداخل لكنها لم تذهب إلى العمل صباحًا، أظن صاحب العمل قد أعطاها اليوم إجازة.
أمسك بالمفتاح مترددًا .. لكن كلمات خالتها زادت من ارتيابه بدلًا من أن تطمئنه .. ففتح الباب محاولًا إصدار أي صوت منبهًا لحضوره ..
كان الصمت مخيمًا في المنزل ..
وكأن الهدوء قد ضرب بيديه على أساساته فتشبعت به أرضيته وجدرانه دون جدال ..
تقدم بقلق إلى غرفتها المفتوحة .. مظلمة إلا من ضوء طفيف لمصباحٍ صغير بجانب فراشها .. وفوقه كانت تجلس هي ..
ظهرها بالكامل إلى باب الغرفة بينما جلستها ثابتة كتمثال من الحضارة الرومانية القديمة .. حتى وجهها .. نُحتت على صفحته أمارات الحزن بلمسة فن لا يُختلف عليها ..
_مـــيـز!
لم تنتبه إليه أو تلتفت .. بل سقطت عبرة متحجرة من بين جفنيها وهي تقول بخفوت مرتعش :
_لقد ماتت يا فريد.
اتسعت عيناه بإجفال سائلًا :
_من هي؟
لم تجب وهي ترفع كفها ماحية آثار البكاء ممهدة الطريق لعبرات أخرى .. بينما التفت فريد بعدم فهم حتى وقعت عيناه على فراش القطة الفارغ..
لقد ماتت القطة الفاتنة!

رنت متتبعة نظراته لتنطق مؤكدة :
_رحلت انيجيل.
لم يتفهم شعورها بالكامل لكونه لم يتبنَّ حيوانًا أليفًا من قبل .. لكنه تعاطف مع حالتها، فسأل بتعجب :
_كيف؟
رفعت كتفيها بعدم معرفة وهي تجيب :
_أنا معتادة أن أوقظها كل يوم قبل خروجي .. وهي تتدلل قليلًا ثم تنهض معي .. لكنها اليوم لم تستيقظ.
عادت لتمحي العبرات بكفها متمتمة بتيه طفل ضل الطريق لأبويه :
_لقد كانت صديقتي.
جلس بجانبها مستندًا بظهره إلى الحائط .. إنها تبكي بهدوء وبطء كأن لم يعد لديها قدرة حتى على الانهيار.
حاول الترويح عنها بأي شيء يأتي إلى ذهنه فقال مستجلبًا الكوميديا السوداء كعادتهما :
_هون عليكِ يا ميز .. إن كان حمل الهموم تُجرى له مسابقات لكنتِ بطلة العالم بها.. وإن كنتُ لا أعرف عنكِ إلا القليل، لكنكِ قوية .. هذا ما لم يخفَ عني منذ رأيتك لأول مرة.
نظرت له ترد بتهكم من بين دموعها :
_انظر إلى مَن يتحدث!
قهقه محركًا رأسه بيأس من لسانها الساخر .. فتوقفت عن البكاء وهي تعود بظهرها خلفًا مستندة إلى الحائط بجواره ..
_سنتجاوز هذا كما تجاوزنا الكثير من قبل.
قالها فالتفتت له متعجبة من تلك الصيغة التي جمعتهما سويًا، فرد نظراتها مؤكدًا بمزاح :
_نعم، فقد تعلقت بقطتك الفاتنة منذ رأيتها.
ارتسم شبح ابتسامة فوق شفتيها وهي تردد ذلك اللقب الذي أطلقه عليها ذات مرة :
_حسناء العينين!
حرَّك رأسه مع حركة عينيه وأخرى نافية من لسانه، ثم قال مصححًا :
_أنتِ حسناء العينين.
زمت شفتيها مانعة ابتسامة من التسلل إليها وهي ترد مناكفة :
_مبتذل.
ثم ضحكا سويًا بخفة ..
حتى سألت دون أن تلتفت إليه :
_إن أخبرتك أن علبة سجائري قد نفذت بالأمس، هل ستعطيني واحدة؟
_لا.
أجاب بلا تفكير، فردت وكأن شيئًا لم يكن :
_حسنًا.
فرت منها ضحكة هاربة اصطحبتها أخرى منه .. ضحكات مشبعة بالبؤس لكنها لطيفة.

قُطعت الجلسة الهادئة حين وصل إلى مسامعهما صوت يولاند تنادي كليهما بجزع، فهرعا إليها مسرعين لتصرخ قابضة كفها فوق موضع قلبها :
_تشاد لم يعد حتى الآن، هاتفت المدرسة فقالوا أن جميع الطلبة غادروا منذ ساعة .. أين ابني؟

هان الودTempat cerita menjadi hidup. Temukan sekarang