الفصل السابع

22 2 0
                                    

عادت كارلا إلى شقتها بغضب، فما يحدث حولها يدفعها للجنون، فهي لم تنتهي بعد من لغز خزانتها حتى أتاها لغز آخر، وتوالي الألغاز يجعلها تشعر كمان لو أنها يتم اجتذابها من جميع الزوايا دفعة واحدةً حتى كادت تتمزق!
جلست على فراشها وتمددت فوقه تشعر بالضغط،
ثقلٌ كبيرٌ يداهم عينيها،
وطنين أذنها وصداع رأسها يفتكان بها،
فلم تجد مهربًا من كل ذلك سوى بالنوم،
فاستسلمت له دون أي مقاومة تُذكر!

حلّ الليل،
ولازال بيتر يجلس خلف مكتبه يطالع شاشة الحاسوب أمامه، نظر له ألبيرت بقلق وقال:
"بيتر! ماذا حلّ بك؟"
لم ينتبه بيتر لحديث ألبيرت معه فتنهد الأخير وقد ازداد قلقه فناداه رافعًا صوته أكثر:
"بيتر!"
نظر له بيتر وقال بهدوء:
"أسمعك ألبيرت، ماذا تريد؟"
"ماذا حل بك؟ وفيمَ أنت شاردٌ هكذا؟"
سأل ألبيرت.
أعاد بيتر بصره لحاسوبه وقال:
"لا تلقِ لي بالًا واستمر فيما تفعله."
"أستمر فيما أفعله؟ هل تمزح معي؟ ما خطبك!"
قال ألبيرت.
نظر له بيتر بحده وقال:
"ألبيرت! أخبرتك ألا تلقي لي بالًا!!"
ثم أطفأ حاسوبه وأخذ هاتفه ثم خرج من المكتب بغضبٍ غير مبرر، بينما استمر ألبيرت في التحديق بالفراغ الذي تركه بيتر ثم همس بندمٍ قائلًا:
"لم يكن ينبغي عليّ أن آخذك معي لتلك المُهمة."

كانت كارلا قد استيقظت منذ فترةٍ ليست بالطويلة وانتهت من تناول طعامها ثم جلست أمام الحاسوب تتفقد الرقاقة التي أعطتها لها آنا من قبل، حاولت فتح الملفات التي وجدتها عليها لكنها كانت مُشفرةَ بالكامل وقد طُلب منها كلمة مرورٍ كي تتمكن من فك تشفيرها والاطلاع على ما بها.
زفرت كارلا بضيق وهي تنظر إلى شاشة الحاسوب والفراغ المطلوب ملؤه بحيرة، فكيف تصل إلى تلك الكلمة، وأنّى لها أن تعلم ماهيتها، أمسكت هاتفها وحاولت الاتصال بآنا لكنه لم يكن يستجيب لأي محاولةٍ للاتصال، فكرت في الخروج من الغرفة إلا أن صوت طرقاتٍ على الباب أوقفها.
نظرت إلى الباب بحيرة، فمن سوف يأتيها في هذا الوقت؟ تذكرت ألبيرت وبيتر فشعرت بدمها يغلي، نهضت على الفور من مكانها وهي تقسم داخلها أنه لو كان الطارق أحدهما لن تكتفي بصفع الباب في وجهه بل ستصفعه هو أيضًا.
فتحت الباب بغضب وقالت:
"ماذا بحق السماء.."
لكنها قطعت كلماتها وتبدد غضبها وقالت:
"ماريا!"
ابتسمت الفتاة التي تقف أمام الباب وهي تقول بمرح:
"مرحبًا كارلا!"
ثم ضحكت قائلةً:
"ألن تعانقيني؟"
ركضت كارلا لها وعانقتها بشدة وهي تربت على شعرها الذهبي المنسدل وقالت:
"لقد اشتقت لك كثيرًا."
ابتسمت ماريا وربتت على ظهرها وقالت:
"أنا أيضا يا عزيزتي... أنا أيضًا."
ابتعدت كارلا عنها وقالت:
"لكنك لم تخبريني أنك سوف تعودين!"
ابتسمت ماريا وقالت:
"أجل، أردت أن تكون مفاجأة لك!"
فضحكت كارلا بشدة وقالت:
"أعلم كم أنك مولعةٌ بالمفاجآت يا عزيزتي ولكن ليس إلى هذا الحد، كنت أخبريني على الأقل حتى أصطحبك من المطار!"
دخلت ماريا إلى الشقة وقالت:
"لم تكوني لتجديني!"
"ماذا؟"
قالت كارلا بدهشةٍ وهي تغلق الباب خلفها.
ضحكت ماريا وهي تلقي بأغراضها أرضًا:
"وهذه مفاجأة أخرى يا عزيزتي تمسكي جيدًا."
ابتسمت كارلا وقالت:
"أخبريني."
"أتيت بحرًا!"
قالت ماريا فرحًا وهي تدور حول نفسها.
بينما بدا أنها كانت مفاجأة غير معقولة لكارلا أبدًا، فتقدمت من ماريا وأمسكت كتفيها وأوقفتها عن الدوران ثم وضعت باطن كفها على جبين الأخرى وقالت بقلق:
"هل أنت مريضة ربما؟"
قلبت ماريا وجهها بإحباط مصطنع ثم قالت:
"اعتقدت أنك سوف تكونين سعيدة لأجلي."
"أنا سعيدة... حقًا، ولكن بحرًا؟ ألم تكونين تخافين البحر؟"
أوضحت كارلا.
ابتسمت ماريا بفخر:
"تغلبتُ على ذلك يا عزيزتي وأصبحتُ أفضل، حتى أنني لم أتقيأ أبدًا طوال رحلة العودة!"
"ليس إلى هذا الحد!"
قالت كارلا بعدم تصديق.
"بلى!"
هزت ماريا رأسها بفخر واضح مما أضحك كارلا بشدة حتى أدمعت عيناها، نظرت لها ماريا بهدوء ثم اقتربت منها على حين غرةٍ وعانقتها بهدوءٍ وبرقة جعلا كارلا تتوقف عن الضحك وتسألها:
"ماذا حدث؟"
ابتسمت ماريا ولا زالت معانقةً إياها وقالت:
"لا تضحكين بهذا الشكل إلا عندما تكونين قلقةً للغاية."
ابتسمت كارلا لصديقتها وأحاطتها بذراعيها، ثم وضعت رأسها بهدوءٍ على كتفها دون أن تتحدث... رفعت ماريا يدها ومسحت على رأس كارلا وبالأخرى ربتت على ظهرها وقالت بهمس:
"لا بأس، لقد عدت وسنحل كل شيءٍ سويًا."
هزَّت كارلا رأسها بموافقةٍ، فابتسمت ماريا وقالت وهي تمسح وجنة كارلا:
"إذًا؟"
نظرت لها كارلا باستفهام فتابعت:
"ألا يوجد لديك بعض الطعام؟ أكاد أموت جوعًا!"
ضحكت كارلا وقالت:
"لدي... بدلي ملابسك أولًا، ثم بعد ذلك خذي حمامًا منعشًا حتى أنتهي من تحضير بعض الطعام لكِ."
ابتسمت ماريا ورفعت ذراعها بمرحٍ قائلةً:
"سأنتقي أفضل ملابسكِ، إلى الخزانة!"
قهقهت كارلا وهي تنظر لماريا بحبٍ، فهما ليستا مجرد صديقتين، ولكن بالنسبة لكارلا... فماريا كانت هي الكتف الوحيد الذي أراحت عليه رأسها منذ أن عرفتها، بل إنها لم ترح رأسها أبدًا منذ سافرت ماريا إلى الخارج.
ابتسمت كارلا بامتنان وتوجهت إلى مطبخها، تعد الأطعمة التي تحبها صديقتها، وهي تتذكرُ كل الأيام والليالي التي قضتاها سويًا، والتي كانت السبب الوحيد الذي يساعد كارلا على الاستمرار في العيش.
مرت بضعة دقائق، وأتت ماريا ترتدي إحدى ملابس كارلا ثم وقفت إلى جوارها في المطبخ تسألها:
"مع من كنتِ تنوين أن تتشاجري أمام الباب؟"
تذكرت كارلا غضبها حين كانت تستقبل ماريا فضحكت، وقالت:
"لا تشغلي بالك بالأمر."
نظرت لها ماريا بشكٍ وقد قفزت إلى بعض الاستنتاجات الخاصة بها ثم قالت:
"أهناك من يزعجك؟ من؟ أخبريني أين يسكن؟ أهو من سكان هذا المبنى؟"
ضحكت كارلا وقالت توقفها عن الاسترسال في توقعاتها:
"توقفي توقفي... لا شيء حقًا مما تقولينه!"
نظرت لها ماريا بقلق:
"حقًا؟"
"صدقيني لا داعي للقلق! لقد كان مجرد زائر!"
قالت كارلا مؤكدةً.
لكن ماريا هتفت بشكٍ أكبر:
"ماذا؟ زائر؟ في هذه الساعة؟"
مسحت كارلا على شعرها وقد ندمت على قول ذلك، فماريا حقًا لن تتركها حتى تعلم كل شيء الآن، وبالفعل... قالت ماريا بشكٍ وهي تدنو من كارلا تحدقُ بوجهها وقد ضيقت عينيها:
"كارلا؟ منذ متى يأتيكِ زائرون؟ وفي الليل؟"
ابتعدت عنها كارلا وهي تمسك بأطباق الطعام وتقول بهمس هاربةً إلى خارج المطبخ:
"يا إلهي، لقد علقنا!"
تبعتها ماريا إلى الخارج وهي تصيح بها:
"كارلا! توقفي... لا تهربي وأخبريني!"
لم تجبها كارلا ووضعت الأطباق فوق المنضدة، ثم عادت إلى المطبخ تحضر البقية، ولكن ماريا لم تكف عن اللحاق بها وقالت بإصرار:
"انظري إلي... حتى إذا بقيت تهربين حتى العام القادم لن أتركك... فلتخبريني!"
التفتت لها كارلا وقد ضاقت ذرعًا:
"ماريا! أقسم أنك قد علقتِ على ما قُلت... توقفي قليلًا ولا تزعجيني من أول ساعةٍ تأتين بها!"
"أخبريني ولن أزعجك!"
قالت ماريا ببساطةٍ تُغيظها.
أخذت كارلا الأطباق وخرجت، وهي تقول:
"بحق السماء!"
ابتسمت ماريا لكنها تابعت الصراخ تتبعها:
"كارلا! يا فتاة!"
جلست كارلا تنظر إلى ماريا التي تتناول الطعام بمتعةٍ، ثم سألت بحنو وهي تراها تلتهم الطعام:
"هل أعجبكِ؟"
"لا يوجد على وجه الأرض من يمكنه التغلب عليكِ في الطهي، صدقيني!"
قالت ماريا بمبالغةٍ أنعشت قلب كارلا.
ابتسمت كارلا وقالت:
"يالكِ من سيدةٍ ذات ذوقٍ رفيع!"
ابتسمت ماريا وتابعت طعامها بينما اختفت ابتسامة كارلا وبدا الوجوم على مُحياها فسألت ماريا:
"هل أنتِ بخير؟"
صمتت كارلا لا تدري من أي موضعٍ تقص عليها ما يحدث، ملأت رئتيها بالهواء وأخرجته بعنفٍ ثم قالت فجأة:
"وجدتُ سائق والدي... أتذكرينه؟ السيد هيوغو."
توقفت ماريا عن تناول الطعام وقالت:
"أليس هو من كان يناديك بكاري؟"
أومأت كارلا ثم أطرقت برأسها وقالت:
"ولكنني كما وجدته... فقدته!"
"ماذا؟"
همست ماريا بعدم فهم.
نظرت لها كارلا وقالت بألم:
"فقدته أمام عيني... وأنا بلا حيلةٍ... تماما كما والدي!"
ثم بدأت تقصُ عليها ما حدث وقد اغرورقت عيناها بالدموع وشعرت بالحزن يعتريها، فهي لم تشارك أحدًا مشاعرها من قبل سوى ماريا، وعندما كانت ماريا غائبةً لم تتحدث أو تشارك أي شيءٍ مع أي أحد.
اختنق صوتها وبدأت في البكاء بصمتٍ، فنهضت ماريا من مكانها تجلس إلى جوار صديقتها وتعانقها بهدوءٍ تبثها بعض الأمان والطمأنينة، فهي تعلم كيف عانت كارلا حتى تستمر في السير ومتابعة حياتها بعد فقدانها لوالديها...
ازدادت بكاء كارلا وقد تمسكت بملابس ماريا بشدةٍ فعلمت الأخيرة أن صديقتها العزيزة تعود إلى نقطة الصفر، إلى حيث الحزن... الضياع... ولا شيء غير الانتقام سيسطو على عقلها.
قضت ماريا ليلتها إلى جوار كارلا تربت على رأسها بهدوء وحنان، بينما ظلت كارلا تحاول التوقف عن البكاء والخلود إلى النوم وقد أفلحت في ذلك بعد عناءٍ طويل.

****

قلبٌ دامٍ (رواية مكتملة)Where stories live. Discover now