الفصل الثامن

21 3 0
                                    

استيقظت كارلا في الصباح ورائحة الطعام تداعب أنفها لتجد أن صديقتها قد قامت بتحضير الفطور لهما، نهضت من فراشها بتعبٍ فرأتها ماريا وقالت بابتسامةٍ عذبة ومليئةٍ بالدفء:
"صباح الخير."
بادلتها كارلا الابتسامة وردّت:
"صباح الخير، ماريا."
اغتسلت كارلا وخرجت تضعُ المنشفةً فوق رأسها كي تجفف شعرها، عندما وجدت ماريا تقف أمام الطرد الذي تلقته وتمسك بالسلاح بصمتٍ تتأمله.
اقتربت منها كارلا وأمسكت به فقالت ماريا بتعجب:
"لم تخبريني أنك استعدت أغراضك من مركز الشرطة."
"لا." نفت كارلا ما قالته صديقتها باقتضاب.
فعادت ماريا تسأل:
"هل عدت للعمل كشرطيةٍ مرةً أخرى؟"
"لم أفعل."
أجابت كارلا وهي تعيده إلى مكانه.
عقدت ماريا بين حاجبيها بتعجبٍ وسألت:
"إذًا ماذا يفعل سلاحكِ هنا؟"
"لا أعلم... وصلني من شخصٍ مجهول."
قالت كارلا وهي تجلس إلى المائدة.
تبعتها ماريا وجلست بجوارها ثم قالت:
"أخبريني بكل شيء."
نظرت لها كارلا بهدوء فحثتها ماريا على الحديث فقالت باستسلام:
"إلى أين وصلنا البارحة؟"

وصل ألبيرت إلى مركز الشرطة في الصباح الباكر ليجد بيتر قد سبقه بالحضور، كان يجلس خلف شاشة حاسوبه وقد ظهرت عليه ملامح التعب جليةً واضحةً فسأله:
"ماذا بك؟"
نظر له بيتر لثوانٍ ثم قال وهو يعود ببصره إلى حاسوبه:
"لم أنل قسطًا كافيًا من الراحة فقط."
"ما الذي أقلقك؟"
سأل ألبيرت باهتمام وهو يجلس خلف مكتبه.
"أتعلم أنها تملكُ بطاقةً خاصةً بالضباط الأعلى رتبة؟ بإمكانها أن تلج إلى الغرفة التي تقابل خاصتنا."
قال بيتر بحيرة، بينما لم يبد ألبيرت أي رد فعلٍ فتابع الآخر متسائلًا:
"لم تملكُ شيئًا كهذا؟"
نظر له ألبيرت بهدوء وسأل:
"أقضيت الليل تفكر في ذلك؟ هل هذا ما يقلقك؟"
صمت بيتر لوهلةٍ ثم أجاب بهدوء:
"أجل!"
لم يحرك ألبيرت ساكنًا، فنظر له بيتر بتعجب وسأله:
"لمَ لم تبدُ متفاجئًا حين أخبرتك؟"
رمش ألبيرت وادعى انشغاله بما يوجد أمامه ثم أجابه باقتضاب:
"سمعتُ القليل عنها من زملائنا بالعمل."
نهض بيتر من مكانه، مقتربًا من صديقه يستندُ بكفيه على سطح مكتبه، وينحني يدني وجهه من وجه ألبيرت وقال بشك:
"ماذا تخفي عني؟"
تجاهله ألبيرت وقال:
"ولم أنت مهتم بما أخفيه عنك؟"
صمت بيتر، فعاد ألبيرت بنظره إليه وقال بلوم:
"وعدتني ألا تعبث مع تلك الفتاة."
"ولمَ لا أفعل؟"
قاطعه بيتر مباغتًا.
"لأنني أخبرتك ألا تفعل."
قال ألبيرت بحدة.
بينما لم يبدُ على بيتر الاقتناع، فقال:
"ألبيرت... سبب صحيح ومقنع."
نظر ألبيرت إلى صديقه بقلق، يعلم أنه سيورط نفسه في الأمر إن وصل إلى أي معلومة وفي نفس الوقت... لن يتوقف حتى يعلم كل شيء.
تنهد بضيق فقال بيتر يحثه على الحديث:
"هيا أخبرني."
قال ألبيرت على مضض:
"لقد كانت شرطية، ولم تكن شرطيةً عادية، كانت متميزةً جدًا حتى أنها كانت أصغر متدربةٍ أنثى تتسلمُ سلاحًا مرخصًا خاصًا بها وسط زملائها، وسرعان ما برزت مهاراتها فتمت ترقيتها إلى ضابطٍ خاص، يكفي أن تذكر اسمها أمام أي شرطيٍ هنا لتجد الجميع يملك ما يخبرك بها عنها... إنها كأسطورةٍ هنا! "
حاول ألبيرت أن يروي فضول بيتر دون أن يتطرق إلى أي شيءٍ غريب، لكنه لم يكن يعلم أن كل ما قاله كان غريبًا على مسامع بيتر بالقدر الكافي الذي يجعله.
"ألهذا ألقيت إليها بسلاحك كي تطارد الرجل المسلح؟"
سأل بيتر بوجهٍ هادئٍ على عكس ما توقع ألبيرت.
نظر له ألبيرت بدهشة، فلقد ظن أنه لم يلحظ ذلك بسبب أن أحد أعضاء فرقته هو من جلب له سلاحه وليس بيتر، فسأل بقلق:
"هل كنت تعلم؟!"
"ومن تظن أنه أوصله إليه؟ إن كان أحد المسؤولين قد علم بما فعلته لم تكن لتطأ هذه الغرفة الآن!"
قال بيتر بلومٍ حاد.
طأطأ ألبيرت برأسه فسأل بيتر مجددًا بوجهٍ غامض:
"وهل... اخترت شقتها عمدًا؟"
صمت ألبيرت وهو يشعر بالخطر، فبيتر يحاصره الآن في زاويةٍ لو أخطأ وتفوه بأي شيءٍ ستكون عاقبته وخيمةً جدًا.

بجانب ماريا، وعلى إحدى أرائك المنزل،
انتهت كارلا من إخبار ماريا بكل شيءٍ، فقالت الأخيرة بتعجب:
"ومن تراه يكون ذلك المتصل المجهول؟"
هزت كارلا كتفيها تنفي معرفتها بهويته، ثم تابعت:
"لا أعلم، لكن إن كان قد قرر اللعب معي... فأنا لا أمانع اللعب معه أيضًا، ولنرى من سيربح!"
"ماذا تقصدين؟"
سألت ماريا وقد تسرب إليها القلق جرّاء ما تفوهت به صديقتها للتو، فعلى ما يبدو أنها وبسبب حِسها الغير عادي كشرطية، ستأخذ الأمر على أنه تحدٍ لها.
نظرت لها كارلا وقالت:
"ماريا... عزيزتي... إذا أردتُ فبإمكان آنا أن تخبرني بهوية مالك ذلك الهاتف والمتصل، حتى إن كان قد تلاعب بصوته كي يخفي نفسه."
"إذًا لماذا لا تطلبين منها ذلك؟"
سألت ماريا بحيرة.
ابتسمت كارلا بخبث، فاندهشت ماريا وقالت:
"يا إلهي! أتستدرجينه؟!"
اتسعت ابتسامة كارلا وقالت:
"لا أخفي عليكِ أنه قد جعلني أشعر ببعض التوتر في بداية الأمر، ولكنني علمت أنني أستطيع الاستفادة منه، كما يفعل هو بالضبط معي... سأنتظره حتى يكرر اتصاله مجددًا، لن أكون مهتمة البتة بما سيقول، وسيدفعه هذا إلى عرض المساعدة، والمساعدة تعني المزيد من المعلومات... والمزيد من المعلومات تعني؟"
"كشف هويته والإيقاع به!"
أكملت ماريا بحماس.
ثم ضحكت بشدة وقالت:
"يا إلهي! يالك من شريرة!"
مررت كارلا أصابعها بين خصلات شعرها القصيرة السوداء، ثم قالت بهدوء وقد علت وجهها نظرةٌ غامضة:
"ليس هناك ملائكةٌ يسلكون طريق الانتقام يا عزيزتي."
سرت القشعريرة بجسد ماريا وقالت:
"يا إلهي، لا تجعليني أخشاك!"
ضحكت كارلا ونزعت عنها وجه الانتقام، فهي لا تريد حقًا أن تخيف ماريا...
لكنها عنت بالفعل كل حرفٍ مما قالته!
نهضت الفتاتان كلٌ منهما ترتدي ملابسها وتستعدان للخروج، انتهت ماريا أولًا فقالت:
"سأذهب لأزور إحدى الصديقات."
"أتريدين أن أوصلكِ؟"
تذكرت ماريا الرينج روفر التي رأتها أسفل البناية فقالت وهي تبتسم:
"لا شكرًا، فسيارتك ستوحي للجميع أنك قد قمت باختطافي."
ضحكت كارلا وقالت:
"عزيزتي، لستُ من محبي سيارات الجاكوار المكشوفة مثلك!"
قهقهت ماريا وهي تعيد خصلات شعرها الذهبية المنسدلة إلى الخلف ثم قالت:
"سآخذك بجولةٍ بها، وحينها لن تُطيقي سيارتكِ مجددًا."
ثم ألقت لها قبلة وخرجت من الشقة، بينما توجهت كارلا إلى النافذة تنظرُ إلى صديقتها حتى تطمئن على مغادرتها بسلام.
دقائقٌ ورأتها تجلس بسيارتها ثم تنظر للأعلى، لأنها تعلم أن كارلا ستقف تنتظر رؤيتها، فابتسمت لها ثم لوحت بيدها مودعةً وانطلقت بسيارتها البيضاء مسرعةً.
أكملت كارلا ارتداء استعدادها للخروج، ثم نظرت إلى حيث سلاحها فأخذته ووضعته أسفل ملابسها، ومن ثُم أخذت هاتفها وخرجت وقد عقدت العزم على اصطياد القاتل عوضًا عن البحث عنه!
استقلت سيارتها وقادتها إلى حيث المكتب، وفي طريقها... توقفت أمام مركز التسوق حيث كانت تعمل، ثم ترجَلت لترى زميلتها في العمل تخرج من الباب، ابتسمت ونادتها فاقتربت منها الفتاة بفرح فور أن أدركت هويتها.
تأملتها كارلا بابتسامةٍ هادئة، فهي لازالت كما هي، بابتسامتها الصافية وسماعات أذنها وتعجبت كثيرًا...
كيف من الممكن أن تكون الحياة متباينةً لهذه الدرجة؟
فلقد كانتا تعملان في نفس المكان، لكن بين يومٍ وليلةٍ...
انقلبت حياتها هي رأسًا على عقبٍ
بينما لم يشكل الأمر للأخرى سوى محض موقفٍ بسيطٍ قد مرّ وانتهى!
اطمأنت على حالها وعلمت منها أنه تم استبدالها حين تغيبت عن العمل لأسبوعٍ كامل، لم تهتم كثيرًا وودعتها ثم انطلقت بسيارتها مع وعدٍ بزيارةٍ أخرى وألا تنقطع عنها بعد أن تبادلتا أرقام الهواتف الشخصية.

وصلت إلى المكتب لتجد آنا باستقبالها، ابتسمت لها فعلمت آنا أنها أصبحت أفضل من اليوم السابق، جلست كارلا خلف المكتب وقالت:
"أتذكرين الرقاقة التي أعطيتني إياها؟"
انتبهت لها آنا فتابعت:
"حاولت الاطلاع على ما بها لكنني وجدتها مشفرةً بالكامل، حاولت فك تشفيرها لكنني لم أستطيع، أتساءل إن كنتِ على علمٍ بأي شخصٍ يستطيع المساعدة."
صمتت آنا تفكر لثوانٍ وقالت:
"سأبحث عن واحدٍ في أقرب فرصة."
أومأت كارلا برأسها ثم قالت:
"حسنًا... هل لنا بالنظر إلى الملفات التي أرسلتها لي سويًا؟"
نظرت لها آنا بتساؤل وقالت:
"ألم تتفقديهم يا آنسة؟"
هزت كارلا رأسها بنفي ثم قالت:
"أتتني صديقةٌ بالأمس وانشغلت بها."
"فهمت."
قالت آنا بديناميكية وهي تعرضُ الملفات على شاشة العرض بعد أن ضغطت على أحد الأزرار فأُغلقت الستائر تلقائيًا، ظلتا تعملان سويًا حتى مر الكثير من الوقت.
كانت كارلا شاردةً حين وقفت آنا إلى جوارها دون حديثٍ فقالت:
"هل رأيتِ جدّي من قبل؟"
نظرت لها آنا وقالت:
"ليس تمامًا، أتى لسيدي هنا مرةً واحدةً فقط."
التفتت لها كارلا بتساؤل وقالت:
"ألا تعلمين عمّا تحدثا؟"
هزت آنا راسها نفيًا فعادت كارلا إلى شرودها وقالت:
"إن جدي شخصٌ صامتٌ للغاية، عيناه الحادتان واللتان تنظران لك من أسفل حاجبيه الكثيفين تصيبانك بالخوف على الفور... لكن كل ذلك يتبدد حين يبتسم لي."
ابتسمت وتابعت:
"كان إلى جواري حين فقدت والديّ، آواني ببيته، كفل تنشئتي وتعليمي، حتى أنه حرص على أن أعمل حيث أريد... لا يهم ماذا أو متى أطلب، فهو ينفذه."
ضحكت كارلا بخفوتٍ وقالت:
"أذكر أنني أجبرته على الخروج بإحدى الليالي الماطرة حتى يُحضر لي بعض الحلوى... ولم يتذمر."
اختفت ابتسامتها وهي تتذكر أن آنا أخبرتها برغبة والديها الراحلين في أن تبقى بعيدًا قدر الإمكان عنه، لا تستطيع أن تفهم... لماذا؟
نهضت ثم نظرت إلى آنا وقالت:
"مهمةٌ جديدةٌ آنا، ربما تكون صعبةً لكنني أثق بك كما كان هيوغو يفعل... أريدك أن تبحثي عن أي تسجيلٍ يضم اجتماع جدي بهيوغو، بأي وسيلة كانت آنا... فلتحصلي على ما تحدثوا سويًا عنه."
أومأت آنا وأطاعت بخضوع وقالت:
"أمركِ آنستي."
خرجت كارلا تشقُ طريقها إلى مركز الشرطة... مجددًا،
ولكن هذه المرة... عن قصدٍ،
وقد أصبحت تسير بخطى واثقةٍ غير مترددةٍ أو خائفة!
وصلت إلى مركز الشرطة، ودخلت مباشرةً قاصدةً غرفة الرئيس، فقابلت المحقق الذي أغلق الإبلاغ الذي قدمه ألبيرت تجاهها فابتسمت له وقالت:
"أعتذرُ على سوء تصرفي معكِ في المرة السابقة."
ابتسم لها ستيفن وربت على رأسها قائلًا:
"لا بأس، شعرت أنكِ لم ترغبي بإظهار أنني أعرفكِ أمام ألبيرت أو أي شخص."
ابتسمت له بامتنان، فلطالما كان المحقق ستيفن عونًا لها وصديقًا... كما كان بالضبط أقرب الناس لوالديها، ولكنها كما قطعت علاقاتها بالعالم الخارجي، توقفت عن التواصل معه، وعلى الرغم من ذلك فقد ظل ينتظرها بهدوء ومودة... كأنها لم ترحل أبدًا!
تحدث ستيفن:
"أنا سعيدٌ لرؤيتكٍ مجددًا يا ابنتي، ظننتُ أنني سأراك بالأمس في المنزل، لكنني أظن أنك لم تكوني على استعدادٍ لذلك بعد!"
شعرت كارا بالخجل، فتابع ستيفن مازحًا:
"ولكنني أصبحت أراكِ كثيرًا، هل قررت أخيرًا العودة؟"
لم تختفي ابتسامة كارلا أو تجب عليه فتهللت أساريره بفرحٍ وقال:
"يا إلهي، لقد دعوت بهذا كثيرًا."
ضحكت كارلا فقال بحماس:
"اسمعي، سأقيم حفل عشاء الليلة بمناسبة عودتك، والجميع مدعوون!
ثم نظر لها بفخرٍ حقيقي يقطر من عينيه:
"يا لسعادتي بك!"
ثم انصرف يدعو كل من يقابله بسعادةٍ مفرطة!
التفتت كارلا إلى غرفة الرئيس وطرقت الباب ثم دخلت إليه بعد أن سمعت الإذن بالدخول، ولازالت الابتسامة على شفتيها.
ابتسم لها الرئيس وقال:
"مرحبًا بعودتكِ إلى مكانكِ!"
"أسمعتني؟"
سألت كارلا مبتسمةً.
ضحك الرئيس وقال:
"المحقق ستيفن لا يجيد التحكم في مشاعره أو صوته حين تكون سعادته عارمة."
ابتسمت كارلا وقالت بهدوء:
"لقد عدتُ... سيدي!"
ابتسم لها الرئيس ونظر لها بهدوء ثم قال:
"مرحبًا بكِ من جديد إلى حيث تنتمين، استغرق الأمر منك بعض السنين لكن لا بأس... جميعنا سعيدٌ بعودتكِ!"
أومأت له كارلا فأذن لها بالانصراف.
خرجت من مركز الشرطة، بعد الكثير من التهاني والتباريك من زملائها القدامى وهمسات الجدد.
رنّ هاتفها فأخرجته ونظرت إلى الرقم المجهول ثم أجابت:
"مرحبًا مجددًا!"
قال المجهول بعتاب حقيقي تعجبت له كارلا:
"قررت عدم الانصات لتحذيري."
ابتسمت كارلا وقالت:
"تأكدتُ أنك لا تعرفني، فلو كنت كذلك لما كنت توقعت مني الانصياع أو الانصات في المقام الأول."
صمت الطرف الآخر فقالت:
"إذًا، ماذا تريد؟"
"أريد مساعدتك."
ابتسمت كارلا بمكرٍ وعينها تلمعان بتحفز،
فها هي ترى ما توقعته يحدث...
وليس ما سبق، كما هو آتٍ!

*****

قلبٌ دامٍ (رواية مكتملة)Onde as histórias ganham vida. Descobre agora