١٧..مدّ و جزر

768 47 16
                                    

في اليوم الموالي..أصبح الطقس حارّا جدا..و ياغيز كان قد غادر الفندق لكي يقوم ببعض اللقاءات مع معارف له في قبرص..و أمام تأخره و بقاء هزان لوحدها في الجناح..قررت أن تنزل الى المسبح..ارتدت ثوب سباحة مكوّنا من قطعتين بلون أسود قاتم و فوقه ثوب شفاف تزينه زهور وردية..و أخذت معها منشفتها و الكريم الواقي من الشمس و نظاراتها الشمسية ثم ذهبت الى المسبح..لم يكن المكان مكتظا كثيرا لكنها جعلت عيون الرجال عليها بقوامها الممشوق و جسدها المثير..سبحت لبعض الوقت قبل أن تجلس على المقعد الطويل و تعرّض نفسها لأشعة الشمس بعد أن وضعت من الكريم الواقي خاصتها..وضعت السماعات في أذنيها و انشغلت بسماع أغنياتها المفضلة..لم تدري كم مضى من الوقت و هي تمتع نفسها بأخذ حمّام شمس..عيونها مغمضة و الموسيقى في أذنيها..و فجأة شعرت بظل يقف أمامها و يخفي عنها أشعة الشمس..فتحت عيونها فوجدت زوجها يقف أمامها..قالت بدلال:
_ ليسامحك الله حبيبي..انك تحجب عني نور الشمس.
بدا الانزعاج واضحا على ملامحه و تأفف بضيق قبل أن يرد:
_ هيا لنعد الى الجناح.
قطبت جبينها و قالت:
_ و لماذا لا تغير أنت ثيابك و تنظم الي؟..دعنا نسبح قليلا و نقضي وقتا ممتعا.
جذبها من يدها لتقف و هو يجيب من بين أسنانه:
_ لا أريد أن أسبح..هيا نذهب من هنا..ما هذا الذي ترتدينه حُبّا باللّه ؟
انتزعت يدها من يده و سألت بغضب:
_ و لماذا تسحبني هكذا و كأنني طالبة مدرسة قامت بتصرّف سيء؟ مالأمر ياغيز؟ لماذا تفعل هذا؟
رد:
_ ألا ترين نظرات أولئك الرجال اليك؟ انهم يلتهمون جسدك التهاما بعيونهم..و أنا..
ضحكت بسخرية و قالت:
_ حقا؟ و ما شأني أنا بهم؟ ألا يحق لي أن أسبح و أقضي وقتا ممتعا؟ ثم ماذا تريدني أن أرتدي و أنا على المسبح؟ هل ألبس عباءة لكي أمنع الرجال من النظر الي؟ هل مازال هناك أشخاص يفكرون بهذه الطريقة الرجعية؟ لا أكاد أصدق.
أمسكها من ذراعها و غمغم بعصبية:
_ هزان..انتبهي الى كلامك..أنت زوجتي و يحقّ لي أن أغار عليك.
انتشلت هزان يدها منه و راحت تجمع أشيائها و هي تردد:
_ ليس للأمر علاقة بالغيرة..بل بتلك المنطقة المشؤومة التي ترعرعت فيها..اللعنة على عقولهم المتحجّرة.
حاول تهدأتها بقوله:
_ هزان..اهدئي لو سمحت..لا أريدك أن..
قاطعته بغضب:
_ اصمت..هذا يكفي.
ثم مشت نحو المصعد لكي تستقّله و تصعد الى الجناح..لحق بها و رافقها دون أن يقول شيئا..وصلا الى الجناح ففتح الباب و تركها تدخل ثم تبعها الى الداخل و هو يقول:
_ هزان..يجب أن تتفهمي ما أحس به..لقد اشتعلت النيران في بدني و أنا أراهم كيف يتأملونك..كنت أريد أن أقتلع عيونهم..لقد أردت فقط أن أخفيك عنهم و أن أحميك منهم و من نظراتهم الوقحة.
التفتت نحوه و صاحت به:
_ حقا؟ و من طلب منك أن تحميني؟ أنا لا أحتاج الى حماية من أحد..لو تجرأ أحدهم و تمادى معي لكنت وضعت له حدّا..لقد تعودت دائما أن أرتدي ملابس سباحة و كنت أرى نظرات الاعجاب من الرجال..الأمر ليس غريبا و لا جديدا..أعرف جيدا متى و كيف أحمي نفسي سيد ياغيز..لن تحاسب الناس على نظراتهم..الأمر يفوقك أنت..لا سلطة لك عليهم..و نظراتهم لا تعنيني و لا تزعجني.
قال:
_ لكنها تزعجني أنا..انها تقتلني و تخنقني.
سألته:
_ و لماذا؟ فقط لأنني زوجتك؟ آسفة ياغيز..لن أغيّر من طريقة تفكيري و لا من نمط لباسي لأنني أصبحت زوجتك..لقد نشأت بعقلية متحررة تعطي للمرأة احترامها بغض النظر عما ترتديه..ليست ملابسي هي التي تقيّمني..متى ستفهمون هذا؟ و عيون الرجال الجائعة ستنظر دائما الى المرأة حتى و ان كانت ترتدي كيسا من القش..عندما طلبت مني أن أغير ثيابي عندما سهرنا للمرة الأولى في الفندق فعلت ذلك فقط احتراما لمكانتك هناك و لكي لا أتسبب في مشاكل مع أهل المنطقة العفنة..أما هنا..و نحن بعيدون عنهم و عن عقولهم المغلقة فلن أرتدي إلا ما يريحني..أتمنى أن يكون الأمر واضحا بالنسبة اليك.
رمت الحقيبة على الأرض و تجاوزته نحو الحمام لكنه استوقفها بأن جذبها من يدها و همس:
_ أرجوك هزان..لا تفتعلي مشكلة من أمر تافه كهذا..لو سمحت..لا أريد أن نتخاصم و نحن في شهر العسل..لا تلومي عاشقا لأنه يغار على معشوقته..أغار..الأمر ليس بيدي.
نظرت اليه و ردت:
_ قد أتفهم الغيرة و قد أستوعب دوافعها لكن ما لا أقبله هو الطريقة التي عاملتني بها في الأسفل..لا أقبل أن تجذبني من يدي بتلك الطريقة المهينة و على مرأى من الموجودين..اياك أن تكرر ذلك مرة أخرى ياغيز..لست أنا من أرضى بذلك..أبدا..و ان كنت تظن بأن حبي لك قد يجعلني أغض الطرف عن أفعال كتلك فأنت مخطئ جدا..أنا لا أستجدي الاحترام..أنا أفرضه فرضا.
وضع يديه على ذراعيها و قال:
_ معك حق..أنا آسف..لا تغضبي أرجوك..و كوني واثقة بأنني لا أجرؤ على التقليل من احترامك أبدا..لست أنا من يفعل ذلك..كل ما في الأمر أنني فقدت صوابي من غيرتي عليك عندما رأيت نظرات الرجال المتفحصة لك..لم أقوى على احتمال ذلك..ضعي نفسك مكاني..لو كنت أنا هناك عاري الصدر و رأيت أنت النساء و هن تنظرن الي و تتغزلن بي..أما كنت لتغاري؟ قولي.
تأففت بضيق و غمغمت:
_ بلى..كنت جننت من الغيرة عليك..لكنني كنت أتيت الى جانبك و أجبرتهن على فهم أنك حبيبي أنا و تخصني أنا و لم أكن لأتصرف بالطريقة التي تصرفت بها أنت.
قرب فمه من جبينها و طبع عليه قبلة رقيقة و هو يهمس:
_ اغفري لهذا العاشق المجنون و لا تغضبي منه..انه يحبك كثيرا.
قالت:
_ حسنا..سأتجاوز عن الأمر.
ثم ابتعدت عنه و دخلت الى الحمام لكي تستحم..في المساء..اصطحبها الى الحفل الموسيقي و قضيا معا سهرة هادئة دون توتر أو انفعالات ثم عادا الى الفندق..هناك..استلقيا على السرير جنبا الى جنب و الصمت ثالثهما..كان يعلم جيدا بأن ما حدث في الصباح خلّف أثرا سيئا على علاقتهما لم يكن يريده أن يحصل من الأساس..كانت بجانبه..لكنها بعيدة عنه..غارقة في أفكارها..و التجهّم لا يفارق وجهها..وضع يده على كتفها و همس:
_ هزان..فيم تفكّرين؟
أجابت:
_ لا شيء.
سألها:
_ أمازلت غاضبة مني؟
نظرت اليه و ردت:
_ لا..أنا ممتعضة فقط.
داعب وجهها بأنامله و قال:
_ لا أريد لحادثة عابرة كالتي عشناها هذا الصباح أن تؤثر على علاقتنا..حبّي لك لا يمكن أن يتغيّر أبدا..انه ثابت و يكبر يوما بعد يوم..و قد تحدث بيننا خلافات..و قد نتخاصم على أمر ما..لكنني أريد لحبّنا أن ينتصر على كل شيء..و أن يحمينا من التوتر الذي قد يسيطر على علاقتنا..أرجوك حياتي..لا تبقي صامتة و بعيدة هكذا..صمتك هذا يقتلني..و يؤرقني..تحدثي الي و أخرجي كل ما في داخلك..و لا تسمحي للمسافة أن تكبر بيننا.
همست:
_ و أنا أيضا أحبك ياغيز..و أريد لهذا الحب أن يكون أقوى من كل المشاكل و الصعوبات..لكنني لا أقبل أن أكون امرأة ضعيفة و تقبل منك كل شيء فقط لأنها تحبّك.
رد:
_ أنت لست امرأة ضعيفة..و أنا لا أريدك أن تكوني كذلك..المرأة الضعيفة ليست مغرية للحُب..ليس فيها ما يلفت الانتباه أو يثير الاهتمام..أشباه الرجال هم من يريدون للمرأة أن تكون ضعيفة لكي يتحكّموا بها و يسيطروا عليها..أما الرجال الحقيقيون فيفضّلون المرأة القوية..ذات الشخصية الواثقة و المميزة..يريدون لها أن تكون ندّا لهم..و أن تساندهم وقت ضعفهم..و أن تكون جيشهم الوحيد الذي يعتمدون عليه..المرأة القوية جذابة و مغرية و قادرة على اثبات نفسها في كل زمان و مكان و تحت أي ظرف..نحن الرجال عبارة عن فوضى عارمة تحتاج لإمرأة قوية لكي تعيد ترتيبها.
ابتسمت و قالت:
_ كم جميل هذا الكلام..و الأجمل أنني أسمعه منك.
قرّب وجهه منها و اختطف قبلة رقيقة من شفتيها ثم جذبها لكي تنام بين أحضانه.
بعد أيام..انتهت عطلتهما و عادا الى وان..كانت هزان قد قضت مع ياغيز أياما جميلة جعلتها تعود الى القصر محمّلة بذكريات رائعة و بلحظات مميزة عاشاها سوية..و فور عودتهما..وجدت سيارة مرسيدس حمراء تقف أمام البوابة..انها هدية ياغيز لها لكي تذهب بها حيث تشاء..عانقته و شكرته ثم صعدت الى غرفتهما..انشغل هو مع أبيه و مع أردام بأعمال الآغاوية خاصته..أما هي فذهبت لزيارة أمها..أعدّت فضيلة لهما القهوة و جلست قبالة ابنتها التي كان وجهها مضيئا و مبتهجا و يعكس ما تحس به من سعادة..سألتها أمها:
_ كيف كانت عطلتك حبيبتي؟
ابتسمت و أجابت:
_ كانت رائعة..ذهبنا الى قبرص و قضينا أياما جميلة هناك.
ربتت فضيلة على يدها و قالت:
_ يسعدني أن أراك مبتسمة هكذا يا صغيرتي..أخبرتك سابقا بأن ياغيز شاب مميز و بأنه سيكون قادرا على اسعادك..زوجك رجل بكل معنى الكلمة..حافظي عليه و احرصي على اسعاده انت أيضا..أتمنى أن تكون علاقتكما تسير على نحو جيد.
احمرّت وجنتا هزان خجلا و ردت:
_ نعم..انها تسير على ما يرام.
نظرت اليها أمها و سألت:
_ تحبّينه..أليس كذلك؟
همهمت هزان بالايجاب و انشغلت بشرب قهوتها..ابتسمت فضيلة و عانقت ابنتها و هي تضيف:
_ الحمد لله أنك تعيشين علاقة جميلة قوامها الحب و المشاعر الصادقة..حافظي على هذه العلاقة و لا تسمحي لأحد بأن يهدمها أبدا..مهما حصل.
ردت:
_ سأفعل يا أمي.
قضت معظم اليوم مع أمها و أختها ثم ركبت سيارة و انطلقت عائدة الى القصر..في الطريق..اعترضها الآغا ياسين مع رجاله..لم تتوقف و تجاوزتهم و هي تلعنه و تلعن تلك الابتسامة الخبيثة التي ارتسمت على شفتيه فور وقوع نظرها عليه..انه مستفز بكل شيء فيه..مجرد رؤيته تثير مشاعر الاشمئزاز لديها..و تشعرها بأن الخطر محدق بها و بأحبّتها من كل مكان بسبب وجوده حولهم..رن هاتفها و هي تقود سيارتها فضغطت على زر الاستقبال ثم على مكبر الصوت و قالت:
_ الو مرحبا فيليز.
ردت فيليز:
_ أهلا صديقتي..كيف حالك؟ و كيف كانت عطلتك في قبرص؟
ابتسمت و أجابت:
_ أنا بخير و عطلتي كانت رائعة..و أنت؟ كيف حالك؟ هل من جديد؟
قالت فيليز:
_ سأخبرك بكل شيء عندما تصلين الى اسطنبول.
قطبت هزان جبينها و سألت:
_ عفوا؟ ماذا قلت؟ من سيأتي الى اسطنبول؟
ردت:
_ نعم..أنت..يجب أن تأتي الى هنا..لقد وقع اختيارك كصحفية العام من قبل هيئة الثقافة الوطنية..و سيقام حفل ضخم هنا لتكريم كل الفائزين.
ضغطت هزان على الفرامل و أوقفت السيارة على جانب الطريق و بقيت صامتة بينما لمعت دموع في عيونها..مررت يدها على عنقها و هي تشعر بأنها تختنق..خاطبتها فيليز:
_ الو..هزان..هل أنت معي؟ هل تسمعينني؟ أين ذهبت؟
تمالكت نفسها و قالت:
_ أنا معك فيليز.
سألتها:
_ ستأتين..أليس كذلك؟ زوجك لن يمانع هذا؟ انها جائزة مهمة و يجب أن تستلميها بنفسك..فوزك بها كان متوقعا أساسا..أتذكرين عندما تراهنّا أنا و أنت و أصلان على فوزك بها؟ لقد ربحنا الرهان..لطالما كنتِ حصاننا الرابح..و لم نخسر رهانا وضعناه عليك يوما..إلا رهانا واحدا فقط.
وضعت هزان رأسها على المقود و حاولت أن تمنع دموعها من النزول لكنها فشلت في ذلك..بكت بصمت قبل أن تضغط على زر انهاء المكالمة..كانت تحتاج أن تكون لوحدها في هذه اللحظة..أن تعيش مشاعرها المختلطة لوحدها..أن تواجه نفسها لوحدها..جانب منها سعيد مع ياغيز..و عاشق له..و يريد أن يؤسس حياة هنا..رغم كل الصعوبات و العلل..أما الجانب الثاني فمازال يبكي على أطلال حياتها السابقة و التي تخلّت عنها رغما عنها..هناك..حيث عملها الذي تحب..و نجاحاتها المتواصلة و التي تعد بمستقبل زاهر في عالم الصحافة..و هذا التصارع الذي تعيشه داخلها بين هذين الجانبين يرهقها و يستنزف طاقتها.
بكت لوقت ليس بالقصير..و أفرغت ما في جعبتها من حزن و أسى و ألم ثم واصلت قيادة سيارتها نحو القصر.
في مكتبه..كان ياغيز يراجع مع أردام بعض الأرقام الخاصة بمحاصيل الزيتون و اللوز و القوارص..تأمل ياغيز الأرقام بصمت لوهلة قبل أن يقول:
_ اللعنة..المحاصيل هذه السنة قليلة مقارنة بالسنة الماضية..لقد أضرنا فساد الكميات المخزنة..هل عرفتم سبب توقف المبردات عن العمل؟
أجاب أردام:
_ انه خلل تقني يا آغا..هذا ما قاله المهندس الذي عاين المبردات.
مرر ياغيز أصابعه خلال شعره و غمغم بغضب:
_ ما يحدث معنا منذ مدة أبعد ما يكون عن الصدفة..في الأمر مخطط ما..بداية بقصة شحنات السلاح..و محاولة قتلنا..ثم اضراب عملة معمل الألبان..و موت عدد كبير من المواشي و الأبقار..و الآن..تعطل المبردات و فساد المخزون..و شح المنتوج بسبب نوع البذور السيء..أوف..هذا كثير..لقد تكبدنا خسارة بالملايين..لا أدري كيف سأعوض كل هذا.
قال أردام:
_ سيدي..المسألة ليست فقط في التعويض..بل في ايقاف نزيف الخسائر هذا..و الأهم من هذا كله..هو أن نعرف غريمنا و نوقفه عند حدّه قبل أن يتمادى أكثر..الأمر لم يعد يحتمل الصمت و لا التروّي.
نظر اليه الآغا و رد:
_ معك حق يا صديقي..لكن..لا تنسى..أنا لا أملك دليلا يدين ياسين أو غيره..مع أنني واثق تمام الثقة بأنه هو من يقف وراء كل هذا..هو المستفيد الوحيد من خساراتنا المتتالية..هل علمت بالسعر الذي يبيع به مواشيه و منتجاته؟ انه يضارب علينا بطريقة مباشرة و يحاول ضرب سمعتنا في السوق..اللعنة عليه..لن يهدأ قبل أن أقتله بيديّ هاتين.
قال أردام:
_ اهدأ يا آغا..هذا ما يريده هو..يريدك أن تفقد أعصابك و أن ترتكب خطأ يدينك أمام مجلس العشائر لكي يعمل على تجريدك من لقب الآغاوية..لا تعطه ما يريد..و حاربه بطريقته..اعمل أنت أيضا على جعله يخسر و ..
قاطعه بعصبية:
_ هل جننت يا أردام؟ هل تريدني أن أنحط الى مستواه القذر؟ هل أقتل مواشيه أنا أيضا و أفسد منتوجه لكي أحاسبه على ما يفعله معي؟ هل أتساوى معه في الدناءة و الانحطاط؟ طبعا لا..أنا لست هو..و لن أكون أبدا..ما يلزمني أمر آخر تماما.
سأل أردام بحماس:
_ أخبرني يا آغا..ماذا يلزمك؟
أجاب:
_ يلزمني دليل قاطع يثبت أنه هو من يقف وراء كل المصائب التي تنزل على رأسي الواحدة تلو الأخرى..هذا ما يلزمني..أريد أن أقدم له اتهاما واضحا و صريحا و مرفوقا بالدلائل القاطعة أمام مجلس العشائر..و عندئذ سيجد عقابه العادل و المنصف..لا أريد شيئا آخرا.
صمت أردام قليلا ثم قال:
_ سأعمل جاهدا على احضار هذا الدليل اليك يا آغا..ثق بي.
ربت ياغيز على كتفه ثم سأله:
_ ماذا فعلت ايليف في مشروعها؟ هل اشترت المحل الذي ستحوله الى مطعم؟
دخلت ايليف بعد أن طرقت الباب و قالت:
_ هذا ما أتيت لكي أتحدث معك عنه يا آغا.
استأذن أردام و خرج أما ايليف فاقتربت من ياغيز الذي عاد للجلوس خلف مكتبه و وضعت حاسوبها أمامه ثم أضافت:
_ أريدك أن تساعدني في اختيار المحل المناسب..لقد وقعت بين اختيارين..و لم أستطع اتخاذ قرار مناسب..انظر جيدا..ما رأيك أنت؟
تأمل ياغيز صور المحلين ثم أجاب:
_ أعتقد بأن هذا سيكون مناسبا أكثر..مكانه ملائم و مساحته جيدة..انظري الى اطلالته الجميلة..سيكون مطعما مميزا.
كان هو يتأمل الصور و هي تتأمله هو بدورها..التهمت وجهه التهاما بعيونها..و عندما أنهى كلامه قالت:
_ كنت واثقة بأنك ستساعدني..شكرا لك أيها الوسيم.
ثم قربت فمها من خده و قبّلته..قبل أن تعانقه و تقرب شفتيها من عنقه.
التفت نحوها على الفور و رد:
_ لا داعي لشكري يا ابنة العم..و أكون شاكرا لو امتنعت عن تكرار هذا التصرف مرة أخرى..و خاصة أمام زوجتي..لو سمحت.
قطبت جبينها و تراجعت الى الخلف و هي تهمس:
_ لكن..انها..قبلة بريئة..و أنا..
قاطعها:
_ أعلم ذلك..لكنني لا أريد لأي شيء يزعج هزان أن يحدث..لو سمحت.
ابتسمت بسخرية و قالت:
_ معك حق..أنت تزوجتها هي..و اخترتها هي..رغم أنك تعلم جيدا بأنني أحبك..و رغم أنني أناسبك أكثر منها..أنا راضية أن أعيش هنا..و هذه البيئة تلائمني و تناسبني أكثر منها..لكنك معميّ بحب طفولي لا طائل منه..هزان لا تنتمي الى هنا..و هذه الحياة لا تناسبها..انها مأخوذة بمشاعرها الجديدة نحوك..و متى انتهى هذا..ستسأم و ستملّ و ستتركك..لن تحتمل البقاء هنا..و ستتخلى عن كل شيء لكي تعود الى حياتها السابقة..أنت تحاول تأجيل المحتوم فقط..و تحاول ايهام نفسك بأنها ستبقى معك فقط لأنها تحبك..لكنك نسيت أمرا هاما ياغيز..الحب لا يكفي أحيانا..خاصة إذا كانت الظروف المحيطة به غير ملائمة له و لدوامه..تذكر هذا جيدا.
رد بعصبية:
_ لا ترددي هذا الهراء أمامي مرة أخرى..هزان لن تتركني أبدا..انها تحبني..و لن تتخلى عني..أنا واثق من ذلك.
نظرت اليه و قالت:
_ أنت توهم نفسك بهذا لأنك أجبن من أن تواجه الحقيقة الواضحة أمام عيونك..و أتعلم أمرا؟ أنت أناني مثل كل الرجال..تحب هزان..نعم..لكن أنانيتك هي التي جعلتك تجبرها على البقاء هنا معك عوضا على اطلاق سراحها و جعلها تعيش في المكان الذي يناسبها أكثر..سيأتي يوم و تندم فيه لأنك أبقيتها هنا معك..و ستكون أنت من يطلق سراحها من سجنك..تذكر كلامي هذا جيدا يا ابن عمي..و لا تنسه.
ثم فتحت الباب و خرجت.
في غرفتها..جلست هزان على حافة السرير و راحت تفكر في أمر الجائزة التي أخبرتها عنها فيليز..فتحت الحاسوب و حاولت أن تكتب لكنها لم تقدر..كانت تشعر بضيق غريب و بعدم رغبتها في القيام بأي شيء..خرجت الى الشرفة و جلست على كرسي و مدت ساقيها على الكرسي المقابل..سمعت صوت وقع أقدام فعرفت أن ياغيز قادم..فتح هو باب الغرفة و دخل..كان وجهه متجهما و الانزعاج باد عليه..اقتربت منه و سألت:
_ خيرا حبيبي؟ ما بك؟ لماذا تبدو مهموما هكذا؟
ابتسم و أجاب:
_ بعض المشاكل في العمل..لا تشغلي بالك أنت..كيف حال أمك؟
ردت:
_ بخير..انها تبلغك سلامها الحار.
قال:
_ و عليكم السلام.
نظر الى ساعته التي كانت تشير الى السادسة مساءا و أضاف:
_ سأستحم و أغير ثيابي قبل موعد العشاء.
و همّ بالابتعاد عندما وضعت هزان يدها على ذراعه و قالت:
_ لحظة لو سمحت..أريد أن أتحدث معك في أمر هام.
نظر اليها و سأل:
_ خيرا ان شاء الله؟ مالأمر؟
أجابت:
_ اتصلت بي فيليز اليوم..و أخبرتني بأنني فزت بجائزة صحفية العام المقدمة من هيئة الثقافة الوطنية..و هذا يعني بأنني يجب أن أسافر الى اسطنبول لكي أتسلم هذه الجائزة.
تأملها في صمت قبل أن يقول:
_ لهذا عيونك متورمة من البكاء! الآن فهمت.
جلس على حافة السرير و بقي صامتا..جلست بجانبه و وضعت يدها على يده و همست:
_ لا تلمني حبيبي..من الطبيعي أن أتأثر بلحظة كهذه..تخيل..بعد أن تركت كل هذا و بدأت مرحلة جديدة في حياتي معك هنا..أشعر فجأة و كأن هناك صوتا يناديني من هناك..لكي يذكرني بما كنت عليه..انه شعور غريب..لم أستطع منع نفسي من البكاء..آسفة..حياتي هناك كانت..
قاطعها و هو يقف:
_ حياتك هناك كانت أجمل و أحسن و أفضل و أمثل و أكمل..لكن هذا الوحش الأناني الواقف هنا حرمك منها..أليس كذلك؟ أليس هذا ما تريدين قوله؟
وقفت و أجابت:
_ لا..ليس هذا ما أريد قوله..و لماذا انفعلت هكذا فجأة؟ اهدأ لو سمحت..كل ما أردت قوله بأنني أحتاج مزيدا من الوقت لكي أنسى كل ذلك..و أتجاوزه..و أعوّد نفسي على حياتي الجديدة هنا..و أريدك أن ترافقني الى هناك لكي أستلم الجائزة..هل نذهب معا؟
قاطع حديثهما صوت طرقات على الباب..قال ياغيز:
_ ادخل.
دخلت الخادمة و هي تقول:
_ هزان آغا..هناك رجل في غرفة الضيوف يريد أن يلتقيك.
زمت هزان شفتيها و سألت:
_ من يكون؟
أجابت:
_ اسمه ماجد أرجنش..أخبرني بأنه هنا لكي يتفق معك و توقعان العقد..هذا ما قاله.
رمقها ياغيز بنظرة استغراب و سألها:
_ عقد؟ أي عقد؟
تذكرت هزان لتوّها بأنها نسيت أن تخبر ياغيز عن مشروع التعاقد مع دار النشر التي يملكها ماجد لكي تنشر روايتها..أجابت:
_ نسيت أن أخبرك..السيد ماجد صاحب دار نشر..يريد أن يتعاقد معي لكي ينشر لي رواياتي.
قطب ياغيز جبينه و سأل بعصبية:
_ حقا؟ الآن تذكرت أن تخبريني؟ هزان..من أكون بالنسبة اليك؟ ألست زوجك؟ ألا يحق لي أن أعرف بأمر كهذا؟ أكنت ستخبرينني بعد توقيع العقد مثلا؟ لا أكاد أصدق هذا.
ثم خرج و هو يصفق الباب وراءه..

الآغاWhere stories live. Discover now