35

102K 1.9K 38
                                    


  نسيم جديد هب مداعبا وجهها الهادىء ... مطيرا القليل من خصلات شعرها بوعدٍ دافىء... هل دخل الدفىء اخيرا و حل الصيف ؟؟ .... ام أن ذلك الدفىء مصدره روحها ...
عادت اليها نسمة متجددة ... اقوى قليلا من سابقتها و كأنها تلاعبها .... فأغمضت عينيها و كتفت ذراعيها قليلا و على شفتيها ظهر شبح لابتسامةٍ لم تكتمل تماما .....
لكنها ارتجفت و تصلبت تماما حين التفت ذراع قوية أمام صدرها ... لتتمسك كف سمراء بكتفها ... تشدها لصدرٍ قوي خلفها ...
لم تتجرأ على فتح عينيها و هي تبتلع ريقها بصمت ... بينما قلبه القوى كان يخفق بشدة خلف ظهرها ليشعرها بقوة نبضاته بمنتهى الوضوح ....
همس أجش داعب اذنها لشفتين مستهما برقة
( لماذا تركتني مبكرا هكذا ؟؟ ............ )
فتحت شفتين مرتجفتين تريد النطق ... الا أنها لم تستطع تماما ... حاولت عدة مرات لكنها لم تفلح فاكتفت بأن أطرقت برأسها قليلا حتى استراح ذقنها فوق ذراعه المحيطة بها و كأنها توشك على سحقها في أي لحظة تهور ...
استمر الصمت بينهما طويلا قبل أن يهمس بخبث ...
( قميصي يبدو رائعا عليكِ ...... )
ازداد تشنجها دون أن تفتح عينيها ... و انقبضت يديها بقوةٍ فوق قماش القميص الأسود القاتم الذي يبتلعها بالكامل و كأنها طفلة تلعب بثياب والدها ...
عاد صوته ليلاعبها
( من المؤسف أن تكوني صغيرة بداخله بهذا القدر ... فهو يبدو كثوب تماما عليكِ ... يثير في الحنق و الرغبة في أن ..... )
همست حنين متشنجة قبل أن تستطيع منع نفسها
( توقف .......... )
ضحكته الخشنة هدرت بداخل اذنها لتصبح رجفاتها غير مسيطر عليها تماما ... فعضت على شفتها و هي تزيد من انطباق جفنيها ...
و تصلب جسدها تحت ذراعه بوضوح ... حتى بدا كألواح الخشب التي يعملان عليها ....
لم تتمكن من رؤية وجه جاسر خلفها و الذي بهتت ابتسامته قليلا دون ان تختفي تماما ... الا ان القسوة ظهرت في عينيه دون ان تظهر بصوته حين همس بلطف
(كنتِ جميله جدا ليلة أمس ..... )
شهقت رغما عنها بصوتٍ لم تستطع كبته و هي تود لو تهرب من تحت ذراعه و تقفز من النافذة ... الا ان صوته تابع بأكثر عمقا ...
( الثوب الأسود الهفهاف كان يجعلك كملكة الحفل ........ )
الثوب الأسود !! ... و الحفل !! .... آه نعم الحفل ... ركزي .... ركزي و لا تدعيه يتلاعب بكِ ....
ليلة أمس كانت .....
كانت رحلة العودة الي البيت صامتة مليئة بالترقب ... كانت تختلس النظر الي جانب وجهه بين الحين و الآخر لتجده يصغر عمرا بسنةٍ أو بسنتين كلما نظرت اليه ....
كان يبتسم بوعد .... ينظر اليها بين حينٍ و آخر ... ليزفر نفسا هادرا ثم يعاود النظر الي الطريق ....
و كان كلما فعل ذلك كانت أحشائها تتلوى بداخلها وو تتعقد ... و تشعر بصعوبةٍ في التنفس ....
كان و كأنه يطير بها هربا الى البعيد .... فتعود لتنظر اليه من جديد , هل هي بالفعل كل ذلك بالنسبة له ؟؟ ....
عقدت حاجبيها قليلا حين تذكرت الطريقة التي حملها بها في البيت .... حيث لفها حول عنقه كما يحمل المصارع خصمه .....
صرخت و شتمت .... الا أن شتائمها ضاعت في علو ضحكاته الهادرة كالبحر ......
لم تره يوما يضحك بتلك الصورة .... و كأنه عاد طفلا صغيرا يلعب بأغلى لعبة تمناها يوما .....
بعدها تاهت عنها كل أفكارها القاتمة .... و ضاعت من حولها الحياة بواقعها , حين جذبها معه الى عالم آخر اختلف تماما عن الذي اختبرته معه من قبل .....
عالم كانت هي ملكته المتوجة على عرش مشاعر ٍ كطوفان جرفها معه بعيدا ....

حين رآها صامتة متصلبة ... أزاح ذراعه عنها أخيرا ... لكن و قبل أن تتنفس الصعداء كان قد أطبق على كتفيها يديرها اليه .... فأخفضت رأسها بسرعة , الا أنه كان أسرع منها فقبض على ذقنها يرفع وجهها اليه ....
و أيضا لم تستطع مواجهة عينيه .... كان يطلب المستحيل ...
( هل سامحتني ؟؟ ........ )
صعقتها جدية صوته الذي تلون بها في لحظةٍ واحدة ..... و لم تستطع التنفس للحظات , ... ربما لأنها لم تملك الإجابة حقا ....
ان كانت قد سامحته ..... فكيف غفرت كل ما فات و كل ما ذاقته على يديه ....
وهل هي الكلمة التي ينتظرها و التي هي المفتاح الحقيقي لإستسلامها روحا و جسدا و حينها سيتتحرر من اللعنة التي يتوهم أنها قد ألقتها عليه ؟؟
و ان لم تسامحه .... فكيف استسلمت له جسدا بذلك الشكل المثير للشفقة و الذي يجعلها تبدو رخيصة الثمن في نظره .. حتى و ان كانت زوجته ...حتى و ان لم تشعر بذلك تماما ليلة أمس ..... لكن لطالما كان هذا هو حالها معه دائما منذ أن ارتبط قدراهما معا .... انها كانت دائما رخيصة الثمن .....
كيف تهرب من سؤاله البسيط ؟؟ ..... لأن الإجابة تفوق قدرتها على تحمل معانيها في كلتا الحالتين !! ...
صحيح أنها كانت ليلة أمس مميزة .... كانت مميزة و فريدة و كأن لا امرأة غيرها في هذا العالم .... الا أن سؤاله أخرجها من هذا العالم الى الواقع المر
هل سامحتني ؟؟ ........
حين اشتدت قبضته قليلا فوق كتفها , تجرأت على رفع عينيها الى عينيه اللتين صدماتها بقتامتهما .... و كأنه لم يكن يتوقع تلك الفترة من الصمت اجابة على سؤاله ...
قتامة عينيه أشعلت بداخلها قبسا من غضب قديم و رغبة في التحدي .... ماذا ؟؟ !! .... أيتعجب من كونها لم تخر مستسلمة أمامه !! .... لكن اليس ذلك هو ما فعلته ليلة امس ؟؟ .....
أخذت نفسا مرتجفا ثم نطقت بخفوت أخيرا
( هل ..... هل لو عاد بك الزمن .... لكنت .... لكنت .... فعلت كل ما فعلته مجددا ؟؟ ........ )
لم يرد عليها لعدة لحظات و بات وجهه غير مقروء التعابير ...رد اخيرا بخفوت و اصابعه شردت تدلك كتفيها دون وعي
( حسنا ..... هل كنت لأتزوجك حين طلبوا مني ام ارفض ؟؟ ..... طبعا لكنت تزوجتك ... )
سكت قليلا شاردا يفكر
( هل كنت لأتهجم عليكِ و أنتِ لستِ سوى طفلة ؟؟ .....
سأرجىء اجابة هذا السؤال الى أن أجيب على السؤال الذي يليه ..... هل كنت لأتركك و أسافر ؟؟
... طبعا كنت فعلتها و اليوم أنا متأكد من هذا .... كنت لأتركك تتابعين حياتك الى أن يصبح الوقت مناسب ... لا أن أتزوجك و أنتِ مازلتِ طفلة .....
لذا أعود للسؤال السابق ... و أجيبك أنه لولا تهجمي الهمجي عليكِ لما كنت كرهت نفسي و هربت بعيدا قبل أن أؤذيك أكثر ......
هل كنت لأتركك على ذمتي و أنا معتقدا بأنكِ تعلمين ذلك ؟؟ ..... نعم كنت لأفعلها يا حنين ... ما كنت لأطلقك أبدا ابدا ..... كنتِ كحلم بريء بالنسبة لي , ينمو و يزدهر و يجذبني بالأمل في مرور السنوات و العودة اليكِ مجددا ......الى أن عرفت أخيرا بأمر فسخ الزواج على يد والدي و لم يكن بيدي الكثير حينها .... سوى الغضب الذي اشتعل بقلبي و أنا أراهم يأمرون و ينهون بحياتي و حياتك و كأنهم يتلاعبون بعرائس الخيوط .... و أنا عاجز .... غير قادر على التصرف ....فهل أعود و أطالب بكِ ؟؟ ..... لكن عمك كان ليطلقك ببساطة .......لم يكن حتى هناك اي عقد رسمي يربط بيننا .... و كنتِ تحت السن القانونية ....
و حين أصبح الوقت شبه مناسب أخيرا ... و قد تخطيتِ التاسعة عشر ..... حينها اختارت الحياة أن تهزأ بخططي العقيمة كلها ..... فقيدتني بعيدا عنكِ لخمس سنوات أخرى .....
و بقيت أياما و شهور أفكر عما سأفعله ....... و كيف أضمن الا تضيعي مني ... فلو كنت تهورت و أنا بحبسي في الخارج , لكنتِ قد حصلتِ على الطلاق في المحكمة بأبسط ما يكون .....لذا ... فنعم كنت لأبقيك على ذمتي دون علمك الى حين عودتي )
خفتت كلماته الأخيرة الى أن صمت بإدانة و هو ينظر اليها .... و كانت هي صامتة فاترة .... تنظر اليه بلا حياة , الى أن همست أخيرا
( أي أنك لم تكن لتغير شيء ....... أي أن ذرة من الندم لم تعرف طريقها اليك .... )
كان صوتها هامسا ... خارجا من أعمق أعماق روحها بيأس متلون بالألم ...فتأوه بغضب وهو يجذبها اليه و قد نفذ صبره .... يضمها الى صدره بقوةٍ كادت أن تصهر عظامها..... يهمس هادرا في أذنها
( توقفي ..... توقفي .... توقفي عن ذلك و امنحي روحك بعض الراحة , .... أشعر بالندم يقتلني , يعذبني ... لكنه القدر هو ما جمع كل الطرق بيننا ..... فقط ارتاحي ..... ارتاحي قليلا و امنحيني الفرصة ..... )
همست بصوتٍ مختنق على صدره
( لا ..... لا أريد أن أفكر بذلك الآن ......أرجوك )
هدر بقوةٍ
( بلى تريدين ..... فقط توقفي عن المقاومة قليلا .... أرجوكِ يا حنين .... أرغب في السكن بين ذراعيكِ بعد تعب طويل ..... لن أجد راحتي أنا الآخر الا بكِ .... فقط امنحينا الفرصة ..... )
ابعدها عنه قليلا لينظر الي عينيها الزيتونيتين ...ثم همس بقوة
( أنتِ آخر مطافي يا حنين ..... تطلب مني وقتا طويلا ... طويلا جدا لاصل اليه و اجد راحتي به )
هزها بكتفيها بقوةٍ فارتفع رأسها قسرا اليه .... فقال بجدية و صرامة
( أخبريني بأنكِ تودين الفرار مني حقا ....... انظري في عيني و أخبريني بذلك و أنا سأصدقك ....... قوليها لي وجها لوجه يا حنين ......... )
فغرت شفتيها قليلا ... لكنها لم تستطع الكلام ..... كلامه يدوخها .... و لا تستطيع انكار خيانة عقلها الذي يحب سماع كلامه ...
, كانت مشوشة .... مشوشة جدا .... و الهدوء الذي استيقظت به تحول في لحظات الى صخبٍ لا يهدأ .... يجذبها لمكانٍ لا تريد أن تخطو اليه بقدميها .....
حين وجدها صامتة لا تجد القدرة على النطق بالكلمات التي طلبها منها .... ابتسم ببطء .... ببطء ... حتى شملت ابتسامته وجهه كله .... فهمس باسمها
؛( حنييين ......... )
ثم جذبها اليه مجددا مشبعا شوقه المتجدد في قبلةٍ أخبرتها أبلغ من أي كلماتٍ أخرى عن ...... عن ......
عن تملكه لها .... و اختارت مجددا أن تترك نفسها لهذا التملك و تركن اليه لترتاح قليلا ... فارتفع ذراعيها بملىء ارادتها لتحاوط عنقه بهما .... و ارتفعت هي على أطراف أصابعها لتنهل من شوقه اليها .... لتنهل من كونها مميزة في نظره دون غيرها ......
مرت عدة لحظات قبل أن يبتعد عنها
تنحنح جاسر اخيرا ليجلي صوته ... ثم عاد لنبرته الساخرة المعتادة منه قائلا
( ها قد اضفتِ بعضا من لمساتك الداكنة الى بداية اليوم ...... و نحن في حاجةٍ الى روح عالية كي نتابع عملنا في البيت )
همست بقوةٍ على الرغم من الحزن الذي لا يزال مرتسما على وجهها
( لن افعل شيئا ..... لقد ماتت ذراعي تماما ... انظر )
رفعت ذراعها أمام وجهه ثم تركتها تسقط بلا حياة .... فضحك جاسر وهو يقربها منه من جديد ليهمس في اذنها بدلالٍ مغري
( يا مسكينة ..... سمعت ان التقبيل يعيد الدورة الدموية الى طبيعتها .... )
جذبت ذراعها منه وهي تعقد حاجبيها بصرامة قائلة
؛( لا شكرا ... بك الخير , سأدخرك لوقت حاجة ...... )
غمز جاسر قائلا بعبث لم يستطع كبته
( كليلة أمس مثلا .......... )
تأففت حنين بحنق ظاهر وهي تسدير عنه كي تخفي وجهها الأحمر مدمدمة بنفاذ صبر
( اووووف لن ننتهي من هذا الحوار ....... تبدو كمحدثين النعمة )
التفت ذراعاه حول خصرها ليرفعها عن الأرض ضاحكا .. مدمدما بأذنها
( بالتأكيد من يتزوج بك لا بد و أن يصبح من محدثي النعمة ...... و أنا شخصيا أعتدت أن أقبل النعمة و أضعها بجوار الحائط ................... )
أخذت حنين تهتف ما بين تذمر و ما بين ضحكاتٍ غاضبة متسللة رغما عنها و هي تتلوى لتهبط الى الأرض
( توقف ..... توقف ...... هههههههه توقففففففففففف ..... )
قرر أخيرا أن يتركها بعد أن توجعت بطنها من كثرة الضحك ... فأنزلها على قدميها ليتمتع برؤيتها تضحك بألم حتى أن الدموع طرفت من بين أجفانها و هي تمسك ببطنها .....
تاه بمظهرها و ضحكاتها الطفولية الحمقاء و التي لا تمت للأنوثة بصلة .....
حين هدأت أخيرا .... أخذت تسعل و هي تفتح عينيها لتنظر اليه ...... الا أنها سكنت تماما حين اصطدمت نظراتها بعينيه .....
ارتجفت و ضاعت ابتساماتها من عمق نظرته التي اخترقتها ..... ففغرت شفتيها برهبة من شدة ما لم تستطع قرائته
طالت بهما لحظات الصمت و كأن لحنا معينا قد صدح من حولهما ليزين لوحة صباحهما ..... بعيدا عن ماضٍ لم يكن مبشرا أبدا .....
قطع جاسر الصمت أخيرا وهو يقول بخشونة مصطنعة
( حسنا يا حنين هانم .....سأعد أنا الافطار لكِ ..... لكن ليكن في علمك .... آخرك معي بانتهاء اخر يوم في شهر العسل .... بعدها سأبدأ بضربك ان لم تعتدلي و تعدي الطعام و تغسلي الثياب و تقومين بكيها .... و تضعين قدمي بالماء الساخن عند عودتي من العمل ...... )
لوحت حنين بذراعها وهي تهتف
( هااااي ..... لحظة لحظة ..... من تظنني !! ..... )
عقد حاجبيه قائلا بثقة
( زوجة ......... .... )
رفعت حنين حاجبيها بتحدي قائلة وهي تتجاوزه قبل أن يغير رأيه و يعاود الامساك بها .....
( لن يحدث ..... اخدم نفسك بنفسك )
ابتسم جاسر و هو يستدير ملاحقا اياها بنظراته العميقة المشتعلة .... ثم همس
( سترين ......... )
استدارت اليه حنين بعد ان ابتعدت لتقول بنعومة
( احلم ........ )
ثم عادت لتلتفت عنه لتهرب من الغرفة .... بينما ظل جاسر واقفا مبتسما ... ليهمس بعد لحظة
( وما أجمل في الحياة من مجرد حلم ........ )
.................................................. .................................................. .........................
سارا جنبا لجنب ... على الرمال البيضاء التي داعبت أصابع أقدامهما ....... يخشى كلا منهما على تلك اللحظات الوليدة بينهما ......
استدارت بوجهها تنظر للبحر ... فشعرت بعد لحظة بأصابع ملمسها كملمس أجنحة الفراشات تداعب طول ذراعها الأبيض .... حتى لامست ظاهر يدها لا تحرمه من تلك المداعبة الناعمة .... قبل أن تلمس النبض في باطن رسغها و كأنها تتحقق من جنونه .....
أخفضت و جهها بعد لحظات تنظر الى كفه الكبيرة تقبض على كفها الصغير و كأنه يخشى أن تهرب منه ....
فأستسلمت له تتخلل أصابعه بأصابعها و تابعا سيرهما .....
لم تكن هي حنين .... و لم يكن هو جاسر .....
كانا اثنين غريبين .... التقيا و تعارفا لأول مرة ....
يتحدثان همسا ..... حتى أن الخجل يلون أسئلتهما ... يداعب ابتسامتهما ....
كان و كأنه يريد أن يعرف عنها المزيد و المزيد .... بالرغم من ثقتها بأنه يعرف عنها حتى أشياء لا تعرفها هي ....
شردت عنه تبتسم للنسيم الملامس لوجهها و شعرها الذي تركته حرا طليقا .... يتطاير مع ثوبها السماوي ذو الشرائط الرقيقة على أكتافها ......
يداعبها بين حين و آخر ليجذب خصرها اليه الا أنها تتحرر منه مبتسمة لتتقدمه مبتعدة فوق الرمال ... فلا يسمح لها بأكثر من عدة خطوات قبل أن يعود بها , يحملها على كتفه مهددا بأن يرميها في الماء و لن تكون المرة الأولى ...... فتصرخ معتذرة ......
حين جلس أخيرا و جذبها من كفها كي تجلس أمامه على الرمال البيضاء تستند بظهرها الى صدره .... مغمضة عينيها ..... يالهي .... انها ترغب بذلك .... لا يمكنها أن تخدع نفسها بعد الآن ..... انها تريد أن تضيع بتلك الحياة التي لا جذور لها ....
لا يمكنها النظر الى أبعد من الخطوة التالية التي يميزها بها عن العالم ......
هل تظلمه أم تظلم نفسها ؟؟ ....... لكن سريعا ... سريعا جدا ستنتزع نفسها من روعة الحلم و تعود لاستقرار حياتها العملية .... علها تستطيع حينها التأكد من الأرض التي تخطو فوقها .... فلا تغرق نفسها بالوهم أكثر ....
لامست شفتيه فارق الشعر المستقيم بمنتصف رأسها .... فارتجفت مبتسمة و هي ترجىء القرار الصارم لبضعة لحظات أخرى .....
همس باذنها ( هل أنتِ سعيدة ؟؟ ........ )
تنهدت بيأس ثم همست
( أنت لا تستسلم اليس كذلك ؟؟ ....... لا تكف عن سؤالي عن حبي ... سعادتي ... مسامحتي ......)
سكتت ببطء دون أن تجيب فقال بخشونة
( و أنتِ لا تجيبين على أيٍ منها ........... )
ثم توقف بنزق ليلكم رأسها وهو يقول بخشونة أكبر ( أجيبي يا رأس القفل الحديدي ...... )
تنهدت مرة أخرى مغمضة عينيها قبل أن تهمس أخيرا
؛( أنا ........ راضية )
عبس من خلفها ... بينما ملامحها كانت تبدو هادئة مرتاحة ... مغمضة عينيها لكن تنظر للبحر في نفس الوقت
فقال جاسر بصوتٍ خشن اقتحم لحظات صفوها
( راضية !!! ..... بعد كل هذا العناء ... انتِ مجرد ... راضية !! .... من أين يمكنني صرف تلك الكلمة !!! )
ابتسمت أكثر قليلا دون أن تلتفت الى عبوسه ... ثم همست بهدوء
( هل مللت ؟؟ ............ )
كان دوره في التنهد بعمق ... الا أنها كانت تنهيدة خشنة و كأنها نفذت من صدره الى ظهرها فتخللت روحها ... ثم قال بجفاء
( لن أمل أبدا ..... فلا تعتمدي على ذلك , فكري بحجة أخرى للهرب مني )
عضت على شفتيها قليلا .... ثم فتحت عينيها لتستدير اليه و هي جالسة أمامه على الرمال الفضي , ....
أخذت نفسا عميقا قبل أن تقول باتزان هادىء
( هناك شيء أريد أن أخبرك به .......... )
ازداد عبوسه و ظهر التوجس على وجهه ... وهو يقول بحذر
( خير اللهم اجعله خير ..... اشجيني )
أسبلت جفنيها قليلا ... ثم قالت أخيرا قبل أن تتردد
( سأعود الى عملي .......... )
لفترة طويلة لم تسمع صوت ... لكنها لم تتجرأ الى رفع عينيها اليه , شعرت بأنفاسه الساخنة يكاد صوتها يعلو صوت الموج من خلفها ....
فاكتفت بأن تقبض على حفنة من الرمال البيضاء الناعمة لتجعلها تتسرب من بين أصابعها و هي متربعة أمامه و في مواجهته ... منتظرة مصيرها المحتوم .....
سمعت صوته أخيرا .... خافتا .... خطيرا .... خطيرا بدرجةٍ أثارت الرجفة في أعماقها
( أي عمل تحديدا ؟؟ ......... )
ابتلعت ريقها في الخفاء دون ان تظهر له قلقها .... و دون أن تنظر اليه كذلك , لكنها استطاعت أن تهز كتفيها ببساطة و هي تقول بهدوء
( و كم عملا التحقت به ؟؟ ..... هو واحد لا غيره )
عادت لتتلاعب بالرمال ... و شعرها منساب على كتفيها يكاد يلامس الرمال الناعمة ..... جفنيها مسبلين و كأنها تعرف انها تقدم على فعل مصيبة .... لكنها قوت نفسها و انتظرت ....
سمعت صوت جاسر يقول بصوت أكثر خطورة
( كنت أظنك قد تركته .......... )
هزت كتفها مرة أخرى وهي تقول
( نظرا لظروفي فقد انقطعت عن العمل ..... لكن منذ عدة أيام راسلتهم من جديد طالبة العودة , فجاء الرد بعدها بيومين بالموافقة .... نظرا للعلاقة التي تربط مدير الشركة بعاصم و تقديرا لظروفي الخاصة )
عاد الصمت من جديد .... و كادت ان تنهار من التوتر , الا انه عاد ليقطعه قائلا بصوتٍ غريب ... مخيف
( وما حاجتك الى مثل هذا العمل ؟؟ ......... أنتِ لستِ في حاجةٍ اليه )
قالت حنين بعد فترة بتردد
( لقد كانت هذه الجملة هي نفس جملة عاصم حين قررت أن أعمل و طلبت منه ان يساعدني ..... ربما لن يدر علي دخلا كبيرا .... الا إنه أنا .... به أشعر بالخروج للحياة و تحقيق ما أرغب دون الحاجة الى الطلب من أحد )
قال جاسر بهدوء
( الطلب من أحد ؟؟ ....... هل هكذا تظنين ؟؟ )
قالت حنين بخفوت
( ليس تماما ....... المسألة ليست مادية فقط ........ )
هدر جاسر بصلابة جعلتها تنتفض مذعورة فجأة
( اذن ما هي تلك المسألة ؟؟؟ ............................ )
تجرأت حينها على رفع عينيها الى عينيه الثائرتين .... و أخذت تلهث قليلا من الخوف ... و الغضب ... ثم قالت بتشديد
( وكيف تراها ؟؟ ..................... )
ظل جالسا أمامها كمارد مخيف .... كانا يبدوان كاثنان يمارسان اليوجا على رمال الشاطىء .. الا أنه في الحقيقة , فالهدوء و الاسترخاء كان ابعد ما يكون عنهما .....
لم يرد جاسر على سؤالها المفهوم مغزاه بوضوح ..... و كان يعلم بأنه قد خاض للتو بماءٍ موحل ... فأخذ نفسا عميقا قبل أن يقول بخشونة على الرغم من تشنج كل عضلاته
( اذا اردتِ العمل بشدة فلا مانع لدي ..... تعالي و اعملي معي , كنت أريد فتاة تساعدني في كل الأحوال حتى أنني كنت قد بدأت أبحث عنها ........ )
عقدت حنين حاجبيها و قد بدأ الغضب في الظهور على ملامحها بوضوح ... فقالت بحنق
( أي عمل لي سيكون في مجال الشاحنات ؟؟ ......... )
مال جاسر للأمام قائلا بتحدي شرس
( الأمر لن يتعدى مساعدتي و تنظيم الملفات و الأوراق و بعض المواعيد .... عمل بسيط لن يتعبك ....)
هزت رأسها بغضب وهي تقول
( لا أريده .... أريد العودة الى عملي , لا أملك أي خبرة بغيره ..... لقد اعتدت عليه لسنوات و لا رغبة لي بتغييره .... أنت سرعان ما ستعود لعملك و تستقر بنا الحياة بدون اللهو و اللعب الذي نقوم به حاليا ..... حينها هل من المفترض أن أبقى أنا بهذا المنفى البعيد !! ..... لما لا أشغل نفسي قليلا و ابدأ في العودة لحياتي السابقة بالتدريج )
صرخ جاسر بجنون
( لأن حياتك السابقة انتهت ...... أتفهمين ؟؟ ..... حياتك السابقة قد انتهت .... و آن لكِ أن تقتنعي بذلك أو أن تقحميه برأسك إن تطلب الأمر ....... )
صمتت حنين تماما تلهث بخوف أمام ما تضمنه كلامه من معاني مهينة ...... و ظلا ينظران لبعضهما و قد اشتعل النهار من حولهما .... و تحول البحر الى هائج غاضب غير آمن ........
أخيرا قالت حنين بصوت هادىء تماما .... لا أثر للاهتزاز به
( لا بأس ...... يمكنك أن تمنعني يا جاسر ...... و أنا لن أجادل أكثر , سأبقى هنا في البيت و لن يكون هناك أي خوف مني أو علي ....... لقد حصلت على الإجابة التي أريدها على كل حال ....... )
ثم نهضت من مكانها دون كلمة أخرى لتسير على الرمال الحارقة البيضاء متجهة الى البيت ..... لتصعد مباشرة الى غرفتها مغلقة الباب خلفها .......
و لم تراه طوال اليوم ..... فقط حين كانت تنظر من نافذتها بحنق و بوجهٍ أحمر من الغضب ... كانت تراه يدخل و يخرج من المرآب ..... يعمل طوال النهار بجنون ....
حتى أنها كادت تستشعر البراكين الثائرة المنبعثة منه و التي تصلها في شراراتٍ حتى تخترق زجاج نافذتها ....
.................................................. .................................................. ............................
قاربت الشمس على المغيب ....
و نهضت حنين تاركة حاسوبها .... لتتجه الى النافذة بعد أن هدأت على مدار الساعات الماضية .....
رفعت يدها تلمس زجاج النافذة وهي تجد أن ضوء المرآب قد أشعل ..... و لا تزال الأصوات بداخله تصلها بوضوح ....
ألن يرتاح !! .......
زفرت حنين بنفاذ صبر و استدارت عن النافذة هامسة بغضب
؛( فليفعل ما يحلو له ............ و لماذا أهتم ؟؟ .... أليس كافيا أنني خضعت لأوامره في النهاية ؟؟ ....اليس كافيا أنه يعاملني كالمشتبه بهم و أنا تنازلت و سكتت !!!! ........ هل من المفترض أن أراضيه أيضا !!! )
استدارت حول نفسها بغضب ليدور شعرها من حولها و هي تنظر الى صورتها في المرآة ..... و قد بدت شريرة .... شريرة جدا .....
فهمست بغضب أكبر
( لماذا تنظرين الي هكذا ؟؟ .........المسألة كلها مسألة ثقة ....... وهو اسم واحد سيظل يؤرقه الى يوم مماته .... فما ذنبي أنا !!! ....... هل من المفترض أن أدفن نفسي بسبب خطأ ارتكبه هو !!! ..... )
صمتت قليلا ثم صرخت ملوحة بذراعيها و كأنها تبرر لصورتها في المرآة
؛( و مع ذلك لقد رضخت و امتثلت لأوامره ....... فماذا يمكنني أن أفعل بعد !!! ..... )
أخفضت ذراعيها أخيرا .......ثم همست بفتور
( لن اهتم له ..... )

مرت اكثر من ساعتين اخرتين ...
و كان الظلام قد اصبح شديدا في الحديقة الغير مجهزة بأي اضاءة بعد .... مماجعلها مخيفة قليلا خاصة مع صوت البحر العالي و الأسود برهبة .....
اتجهت حنين الى المرآب و هي تحمل صينية عليها عدة أطباق .....و ما أن دخلت حتى دارت عينيها بحثا عنه , ... الا أنها لم تجده .... فنادته بقلق ....
ليفتح باب قديم لغرفة صغيرة خلفية ملحقة بالمرآب فجأة ... و يخرج منها ...
تراجعت خطوة ..... لكنها ثبتت مكانها بعدها و هي تجده يغلق الغرفة بالقفل .... ثم نظر اليها نظرة مهملة قبل أن يتجه الي شيئ ما ... كلوح خشبي .... أو أي شيء يدعي الإنشغال به
كان يبدو مرهقا للغاية ..... و نفس التعبير الغريب يعلو وجهه .....
اخذت حنين نفسا و هي تدعي القسوة .... و لماذا تعطف عليه .... ثم قالت ببرود
( أنت تعمل منذ الصباح ..... ألن ترتاح قليلا ؟...... لقد ..... لقد حضرت لك الطعام ..... )
ثم انحنت لتضع الصينية على صندوق خشبي قديم .... الا ان جاسر لم يهتم بوجودها لعدة لحظات مما أثار حنقها ...
فاستدارت لتخرج في صمت .... الا أنها سمعت صوته جافا من خلفها يناديها
( ألن تأكلي معي ؟ ........... )
التفتت اليه ببطء .... و التقت نظراتهما ...... الى أن هزت كتفها و قالت بخفوت
( إن أردت ............... )
لم يكن هذا تماما ما نوت نطقه ... الا أنه خرج من فمها قبل أن تستطيع ايقافه ..... فرد عليها جاسر بوجوم جاف
( اجلسي .......... )
أرادت أن تتجاهله و تخرج رافضة صيغة الأمر و اسلوب اللامبلاة الذي لم تعتده منه مؤخرا ... الا أنها كالمنومة
تربعت فوق حجر بناء أبيض مستطيل ملقى بإهمال .... بينما ارتمى جاسر على الأرض بإهمال و بينهما صينية الطعام ......
أمسكت حنين بقطعة خبز ... تدسها في فمها بشرود و بلا شهيةٍ حقا ..... وهي تختلس النظر اليه من حينٍ لآخر ........ و هو يأكل كذلك شارد الذهن دون أن ينظر اليها ....كم اخلتف أكلهما الآن عن افطار الأمس حين أطعمها بيديه ! ......
بل أنه حتى بدا في تلك اللحظة أكبر من عمره الحقيقي بأعوام وهو يفكر بمعضلةٍ ما .... تنغص عليه حياته و تمنعه عن الراحة العذبة التي وجدها بين ذراعيها ليلة أمس .....
فكرت حنين بصمت ... " هل هكذا انتهى اتصالهما الذي اذهلهما معا سريعا !! ..."
هل سيحدث ما تنبأت به و سينتهي الحلم سريعا ما أن أبدت أولى علامات التحرر ....خاصة بعد أن جائت تلك العلامات بعد استسلام و لا أروع .... سيظل حرجه يكبلها طوال العمر و هي التي وعدت بأن تعذبه و ألا تريه الراحة أبدا .......
أخذت تمضغ ببؤس غريب عليها .... يختلف عن بؤسها السابق ... الى أن سمعت صوته يقول بخشونة
( سأخصص لكِ سيارة بسائق ........ لتقلك و تعود بكِ )
رفعت عينيها اليه غير مستوعبة تماما ... فهمست مستفهمة
( تعود بي .... من أين ؟!! ........ )
قال جاسر بجفاء
( من عملك ...... أليس هذا هو ما طلبتهِ ؟؟ )
فغرت شفتيها حيث نست لقمة الخبز بفمها المفتوح ... قبل أن تهمس بعدم تصديق فعلي
( هل وافقت ؟؟ .......... )
قال جاسر بخشونة و أعصاب على وشكِ الإنفجار في أي لحظة
( كنت تطلبين موافقتي ..... اليس هذا هو ما فهمته من خلاف الصباح , أم أنكِ ببساطة تمارسين علي أحد الضغوط النفسية العسكرية التدريبية . لهدف سيكوباتي معين !! ......)
اخفضت عينيها غير مصدقة ..... لقد وافق .... لقد وافق حقا !! ...... و قبل أن ينتهي اليوم !! ......
تسلل صوته اليها بخفوت
( لا تبدين سعيدة ! ............. )
رفعت عينيها اليه ... فرأت تدقيقه بها و كأنه يحاول قراءة كل تعبير من تعابير وجهها .... فهمست بعد فترة
( ليست ...... سعادة , بل هي مجرد حياتي و الرغبة في ..... الإستقرار بها قبل أن يجرفني ال ....... )
همس جاسر باهتمام حين لاحظ توقفها الشارد
( قبل أن يجرفك ال .... ماذا ؟؟ ..... تابعي )
تنبهت لنفسها قبل أن تتباع بحذر بعد لحظتين
(قبل أن يجرفني ال.... الكسل )
نظرته لها أخبرتها بأنه لم يقتنع بأن هذا هو ما كانت تريد قوله .... الا أنه صمت على كلِ حال و اخفض نظره قبل أن يتهور بشيء قد يندم عليه فيما بعد ......
لسببٍ ما لم تقفز بداخلها فرحا و انتصارا كما تصورت .... بل شعرت بقنوط غريب .... و رغبة في أن .... في أن تسترضيه .... أو ربما تعتذر له !!....
استمر صمت مشحون كئيب بينهما .... قبل أن تقطعه حنين هامسة بخفوت
( ألن تأكل ؟؟ ...... ألست جائعا ؟؟ ..... أنت تبدو متعبا للغاية )
ظل الصمت قليلا قبل أن يبتسم بحزن قائلا
( في الواقع لقد شبعت من رائحة يدي النافذة ....... )
نظرت الي يديه الخشنتين ... ثم و دون تفكير رفعت لقمة من طبقٍ وقربتها من فمه و عينيها أسيرتي عينيه الحادتين كعيون الصقر ....
فالتقطها بفمه ... ينظر اليها بصمت , ثم و دون كلام مد ذراعه اليها ..... فاقتربت منه .... تندس مرتاحة الي صدره قليلا ..... ليبدأ هو بإطعامها ..... حتى مع رائحة يده النافذة ....
لكن أيا منهما لم يرغب في الكلام في تلك اللحظة ..... أو حتى في تلك الليلة .....
تلك الليلة .... تلك الليلة و بعد أن تركته لتدخل البيت ... وقفت حائرة أتذهب الى غرفتها ... أم تذهب الى غرفته .......
كانت لديها الرغبة في الذهاب الي غرفته و البقاء هناك لسنواتٍ قادمة ... لم تستطع ان تخدع نفسها أكثر ...
نعم تريد الاستقرار ..... و جاسر لم يكن بعيدا أبدا عن صورة الاستقرار التي بدأت برسمها ....
لكنها لم تمتلك الجرأة ..... لم تمتلك الجرأة على اتخاذ هذه الخطوة بمفردها ... و كأنها طفل يتعلم المشي بمفرده للمرة الأولى ....
لذا اتجهت الى غرفتها بصمت .....و بقت هناك نتنظر ..... و تنتظر ......
الا أن انتظارها طال ..... خاصة بعد أن سمعت صوت خطواته أخيرا .... ثم انغلاق باب غرفته ! .
فوضعت رأسها على الوسادة بصمت و تنظر في الفراغ المظلم الممتد أمامها .....
.................................................. .................................................. ...........................
مرت الأيام التالية بما يشبه الهدوء الحذر ....و الذي يحمل بين طياته عتاب يخالط حزنا ..... و أملا يتسرب و ينمو رغما عنهما ......
كانا يعملان في البيت كل يوم .... تحت انغام المذياع القديم .....
تغافلهما الأعين كي تنظر الى بعضها ..... تستمر أحديثهما بخفوت لدقائق ... و تطول .... ثم تنقطع بعد حين .....
وجهه الخشن لا يزال لطيفا ....حنونا عليها .... لكن الحزن الساكن بعينيه يزداد ....
لم تكن تعلم سببا لذلك الحزن و الألم الظاهرين على وجهه و في صوته .... و كأنه يوشك على أن يودعها ....
كل هذا بسبب عودتها للعمل !! .......
كانت تعلم بأن الأمر سيغضبه .... و بشدة ربما , ... لكنها لم تتوقع هذا الأثر الصامت الحزين , و على عكس ما اعتقدت ....لم يبهجها ألمه كما كانت تتمنى قديما .....
الآن بدأت تشعر بأنها انسانة ..... كانت تخاف من رغبة الغضب و الانتقام العنيفة بداخلها .....
كانت تخاف من أن تكون قد قتلت الانسانة بداخلها ..... لكن مشاعرها الآن و هي ترى حزنه ... اراحتها من جهة حيث اطمئنت أن الرغبة في الإنتقام بدأت تخبو بداخلها ....
تخطف النظر اليه بين حينٍ و آخر ...... و ما أن يضبطها حتى تبتسم له برقة ثم تعود الى عملها ...
كانت تود لو تخبره بأنها غيرت رأييها و لن تذهب للعمل .....لكن ذلك لن يكون الحل
انها تحتاج أن تبتعد عنه في جزء و لو بسيط من حياتها كي تستطيع أن تحلل ما بداخلها ......

و استمر الوضع بهذا الحال الى أن بدأت أول يوم في العمل ........ كان هو أيضا ذاهبا لعمله , فأقلها معه بصمت ......
لن تنسى أبدا نظرته الطويلة لها و لأناقتها الجديدة التي تختلف تماما عن حنين القديمة ..... حتى حذائيها الأسودين المشعين أنوثة بكعبيهما العاليين الرفيعين ..لم يغفلهما بنظرته الصامتة .....
استمرت الرحلة الصامتة و ملامحه الجانبية تؤلمها لسبب مجهول ....
وحين أوقف السيارة أمام عملها ... التفت ينظر اليها بصمت .... فابتلعت ريقها و ابتسمت قائلة بهدوء
( سأراك بعد عدة ساعات .......... )
ابتسم بهدوء و هو يتشرب ملامحهها البريئة ... ثم أومأ برأسه قائلا بخفوت
( نعم ....... سأراكِ بعد عدة ساعات , لا تنسي ذلك ......... )
همست بقصد ؛( لن أنسى ........... )
التفتت الى النافذة الجانبية .... و كأنها مترددة في الخروج , ثم التفتت اليه لتهمس بدون ابتسامة هذه المرة
( حسنا ........ الى اللقاء )
همس هو الآخر بدون ابتسامة و هو يحفظ ملامحها عن ظهر قلب
( الى اللقاء ......... )
ترجلت حنين من السيارة بتثاقل ..... و ابتعدت دون ان تنظر اليه ... و قررت ان تكف عن افكارها الغريبة ...
الا انها ما ان وصلت لباب المقر ... لم تستطع منع نفسها من النظر اليه مرة أخيرة ... فوجدته في نفس مكانه لم يتحرك .... ينظر اليها بوجوم ... فشعرت بشيء قاسي يؤلم حلقها و هي تهمس بداخلها بوجوم يماثل وجومه
" ماذا ؟؟ .... أنا فقط ذاهبة للعمل ... لن أهاجر .... ابتعد .... هيا .... "
ثم استدارت أخيرا متنهدة بصمت و هي تصعد الدرجات القليلة ....
مرت الساعات الأولى عليها و هي تنظر للمكان و كأنه ليس مكانها ... و كأنها لم تعمل هنا لسنوات ...
كانت تشعر بالغربة ... تتلفت حولها و كأنها ينقصها شيء ما .... لا تدري ماهو ...
لم تكن يوما خاملة بهذا الشكل .... كانت تحب العمل و الرجوع و العمل في بيت عمها أيضا ..... فماذا بها الآن ..... حسنا كل ما عليها هو أن تأخذ نفسا و تبدأ .... و كل شيء سيكون على ما يرام ...
لكن وقت الراحة ... لم تستطع الاندماج مع أحد و لم ترغب حتى في المحاولة ... لذا فضلت في الاتجاه الى مكانها القديم كي تحصل على بعض الخصوصية .....
فاتجهت ببطء الى باب سلم الطوارىء ... في طابقها , كي تجلس على درجتها المفضلة ....
تنهدت أخيرا و هي تصل .... الوحدة .... تريد فقط بعض الوحدة في تلك اللحظة ....
لكنها ما أن فتحت الباب و خطت الى أعلى السلم ... حتى تسمرت مكانها و هي ترى عمر جالسا على نفس درجة السلم التي كانا يجلسان عليها سابقا ....
اتسعت عيناها قليلا ... انها تشعر أن دهرا قد مر منذ أن جلست معه هنا آخر مرة ... أوشكت على الإستدارة و الخروج بهدوء حيث أنه على ما يبدو لم يشعر بوجودها .....
لكن شيئا ما جعلها تتردد قبل أن تقترب منه ثم تنحنحت لتنبهه الى وجودها ....
أفاق عمر من شروده ليرفع رأسه متفاجئا بوجودها .... فابتسمت له , و على الفور أشرقت ملامحه قليلا قبل أن يبتسم قائلا
( حنين ...... ماذا تفعلين هنا ؟ هل عدتِ للعمل ؟؟ )
أومأت حنين برأسها قائلة بهدوء
( نعم ..... راسلت مديري منذ عدة أيام و طلبت منه العودة فوافق على مضض ....... كيف حالك يا عمر ؟؟ )
ابتسم أكثر قليلا قبل أن يقول بهدوء
( الحمد لله ..... في خير حال )
ترددت حنين قليلا قبل أن تقول بحذر
( لا أرى ذلك ............ )
لم يرد عمر ... بل أبعد وجهه ناظرا أمامه بشرود ... فترددت حنين مجددا قبل أن تتقدم أخيرا و تهبط درجة كي تجلس بجواره ... و بعد عدة لحظات قالت بهدوء
( كيف حال رنيم ...... لماذا لم أجدها اليوم ؟؟ )
لم يرد عمر للحظة ... لكن ملامحه ازدادت حزنا , قبل أن يقول بخفوت
( رنيم ....... سافرت )
ارتفع حاجبي حنين بدهشة ....لتقول مستفهمة
( سافرت متى ؟؟ ..... و الي أين سافرت ؟؟ )
ابتسم عمر بسخرية مريرة قبل أن يقول هازئا من نفسه
( سافرت للخارج كي تقوم بعدد من جراحات التجميل ...... )
عقدت حنين حاجبيها قليلا ... قبل أن تقول بحذر
( أنت كنت تعلم بذلك قبل سفرها ..... اليس كذلك ؟؟ )
هز عمر رأسه بسخرية قبل أن يجيب
( لقد تكرمت بارسال رسالة لي تخبرني بأنها في الطائرة ..... لقد اعدت كل شيء منذ فترة دون علمي )
فغرت حنين شفتيها بصدمة قبل أن تهمس
؛( و لماذا تفعل ذلك ؟؟ ............ )
لم يرد عمر لعدة لحظات قبل أن يأخذ نفسا عميقا مشحونا حتى انتفخ صدره من الهم و أوشكت أزرار قميصه على الاقتلاع من مكانها ....
ثم تكلم أخيرا بخفوت
( لقد أسأت معاملتها في الفترة الأخيرة ...... رغما عني )
اتسعت عينا حنين قبل أن تهمس
( أنت يا عمر !! ....... لا أصدق أنك قادر على اساءة معاملة أي أحد .... و خاصة رنيم قبل الجميع )
نظر اليها عمر بهدوء وهو يستند بذراعيه الى ركبتيه محملا بهموم عديدة قبل أن يقول
( لكني آذيتك أنتِ الأخرى ......... )
احمر وجه حنين بشدة قبل أن تحيد بنظرها عنه ... و تلعثمت قائلة بعد فترة
( كانت لديك أسبابك .... على الرغم من رفضي التام لها , لكن ..... كنت تظن بأنك ..... تساعدني )
قال عمر بخفوت
( قبل المساعدة يا حنين ..... أنا صدقت حب جاسر لكِ .... بل و ايقنت به , و حين عرفتك ..... أيقنت بأن لا أحد سيسعدك و يستحقك غيره ..... بالرغم من كل رفضي لتصرفاته , .... لكني لم أتوقع أن تسوء الامور الى هذا الحد فيما بعد .......
لم تتسنى لي الفرصة لأعتذر لكِ ...... أنا آسف يا حنين .... أنا حقا آسف ...... )
شردت بعينيها بعيدا ..... قبل أن تهمس مبتسمة باستسلام و خجل
( جاسر لا يحبني ....... انه لا يعترف بالحب أبدا ..... و لم يخبرني مرة بحبه المزعوم هذا.... )
ابتسم عمر قبل أن يقول
( اذن أنتِ عمياء تماما ........ انه يعشقك بكل ذرة في كيانه حتى و إن لم ينطقها ...... )
عضت حنين على شفتيها شاردة في طلب جاسر منها أن تحبه ..... اليس هذا اعترافا بوجود نوع من المشاعر تسمى الحب ...... لماذا دائما تظنه لا يحمل أي نوع من المشاعر الإنسانية ,.....
ربما لأن ما رأته منه كان فوق قدرتها على رؤية أي شيء آخر ......
تنحنحت حنين لتقول بعد فترة
( اذن دعك مني الآن ..... لنعد اليك أنت و رنيم .... هل ستتركها ؟؟... الحق بها لو لزم الأمر .... )
نظر اليها عمر بهدوء دون أن يرد .... فتابعت حنين و هي تستدير اليه
( اسمعني جيدا ...... أنت و رنيم بينكما شيء خاص ... مميز جدا .... شيء ينتشر في الجو من حولكما و دون ارادة منكما ..... لقد لاحظت أنا هذا الشيء منذ اليوم الأول لقدوم رنيم للعمل هنا ....
فلا تهدر هذا الشيء الخاص .... لأنك ستندم فيما بعد لكن بعد فوات الأوان ....
سامحها يا عمر إن كانت قد أخطأت بحقك مرة ..... اليس هذا هو الحب ؟! ..... أن تجد المساحة في قلبك كي تغفر لمن تحبه ؟؟ ...... )
ظل عمر ينظر اليها طويلا .... قبل أن يضحك قليلا قائلا
( ياللهي ....أنتِ نسخة طبق الأصل من زوجك ......)
عقدت حاجبيها بتسائل ... الا أنه نهض من مكانه قائلا باعتذار
( حنين ....... إن تركتك الآن ........... )
قاطعته حنين ملوحة بيدها
( اذهب ..... اذهب ...... أنا سأبقى هنا قليلا ....... )
ابتسم لها عمر قبل أن يخرج مسرعا ..... تاركا حنين و هي تدير عينيها في هذا المكان , و الغريب أن صورة عمر قد تلاشت منه .... لتحل محلها صورة جاسر حين انتظرها هنا ذات يوم .....
الألم هو نفس الألم ...... لكن الوجه قد استبدل بآخر .... اذن لماذا الألم ؟؟

بأمر الحبOù les histoires vivent. Découvrez maintenant