السمفونية الثانية

66 5 6
                                    


تشققت أجفانه معلنة عن خروج تينك الجرمين السماويين الى النور ليحدق في ما حوله بتعابير أقل ما يقال عليها طفولية.

سرير دافئ مريح و ضمادات أحاطت جسده الصغير لتخفي آثار عبث الزمان به.
غرفة جميلة مرتبة علقت على جدرانها لوحات من صنع ريشة فنان يرى العالم ملونا بديعا مثاليا لا كصغيرنا الذي فقدت عيناه بريقها.

شد انتباهه ذلك الصندوق الأسود الضخم الذي وضع في احدى زوايا الغرفة ليتقدم نحوه بخطوات مترددة لكن ما إن لمسه لأول مرة حتى بدأ العبث دون توقف الى أن اكتشف تحرك جزء من غلافه و بالطبع لم يمنعه فضوله الطفولي الى أن يفتحه كاشفا على مجموعة من المكعبات التي لونت بالأبيض و الأسود ليحرك اصبعه نحوه و قد ارتسمت الجدية على محياه و ما ان حط فضوليه الصغير على المكعب العاجي حتى صدر صوت جفل لوقعه الصبي ليتراجع الى احدى زوايا الغرف لكن ذلك الذي يدفعه بكل قوته لم يمنحه ثانية ليفكر فقد عاد الى مكانه مجددا ليجاهد في صعود الكرسي الذي تمركز امام صندوقه المفضل مطلقا انامله مجددا في جولة تفقدية على سطح تلك المكعبات الباهتة غير ملاحض لذلك العجوز صاحب الابتسامة الدافئة الذي وقف في باب الغرفة متيحا المجال للمستكشف الصغير ليحلق في عالمه الجديد راسما اول خريطة له دون مقاطعة من هراوة ضخمة اتخذها العربيد للفتى سوط عذاب.

لكن ذلك السكون لم يدم طويلا حيث انفرج ذلك العضو المسمى فما ليصدر صوتا جفل لوقعه الصغير ليقفز عائدا الى زاويته محدقا بصاحب الإبتسامة الدافئة الذي أعاد بهدوء:
-هل أعجبك؟

لم يحرك المعني بالامر الساكنا و قد حدقت عينيه بالعجوز خوفا ورهبة.
فاقترب الأخير بهدوء ليجلس على الكرسي بهدوء محركا أنامله التي تشققت لتصرخ طياتها بحكايات غدر الزمان على المفاتيح التي سبقتها اليها أصابع صغيرة كانت تعبث بها بفضول قبل لحضات.

فانبعثت من ذلك الصندوق الذي بهتت ألوانه كصاحبه أنغام داعبت أذني الصغير لتتخذ منها طريقها نحو قلبه عابثة به باعثة فيه أملا بغد أفضل و لم تمض ثوان لينضم ذلك الصغير الى رفيقه فجلس بجانبه يراقب تحركاته بشوق لتقليده لامتلاكه تلك الفرشاة. بدوره التي و في نضره كانت قادرة على تلوين زوايا روحه و بعث الحياة فيها.

تتالت الأيام ليكتشف العجوز مأساة الصبي و ليألف الغلام صحبة الرجل الذي و منذ اليوم الذي قرر فيه تعليمه العزف اصبح المعلم و الأب الذي لم يحصل عليه يوما فبشكل غريب كان الرجل قادرا على الحصول على وصاية الصبي بسهولة.

خمس سنواة مرت منذ ذلك اليوم الذي التقت فيه الطفولة بالكبر و بداية الحياة بنهايتها اليوم الذي سجله الصغير كأسعد أيام حياته تعلم فيها الصغير الكتابة و القرائة الى جانب العزف فأبدى موهبة و فطنة نادرة أسعدت معلمه و أثلجت قلبه كما حصل على اسم لم يعد يشار اليه بإبن**** او بالغبي و غيرها من الصفاة التي لا تنطبق عليه.

في يوم شتوي تلحفت فيه الأرض غطاءا أبيض اللون كعروس اعلنت البرد قرينا والثلوج افراحا انطلق مراهق لمعت زمردتيه تصميما منطلقا نحو منزله نعم هو نفسه ذلك الذي مشى الهوينة يوما في نفس الشارع عائدا من المنجم تشابه الكثير و اختلف الكثير لكنه لم يعد الغلام بل اصبح الكسندر الفتى الذي قبل للتو في احسن معاهد الموسيقى بباريس هو اصبح ذاك المتسلح بقوة العلم و نفاذ البصيرة و لم يعد تائها وحيدا اليوم قد سجل انتصاره الاول على الحياة فهاهو يشارك الفتاة التي احب طعم النجاح فيتقدما معا خطوة بخطوة نحو الحلم.

فتح الباب ليصدح صوته المتحمس في كامل ارجاء المنزل باحثا عن معلمه العجوز في كل الغرف رغم ان الخادمة ماديا اخبرته منذ دخوله ان اباه في المشغل.
و اخيرا وصل لوجهته لينزل الدرج مناديا:
-معلمي
للمرة الخمسين في نفس اليوم و بالطبع لم يغفل العجوز عن هذا ليجيب ساخرا:
-ما الامر؟ تبدو كقط متحمس
-بالطبع انا متحمس لقد قبلت معلمي ! اتصدق؟...لحضة انا لست طفلا لتناديني بالقط!!!
و لم يجبه العجوز الا بقهقهت امتد صداها ليشمل المنزل كاملا باعثا موجات من الطمأنينة ثم سال قائلا بعد ان لاحض هدوء الفتى الذي رمقه بنضرات دافئة عطوفة:
-اذن اي نوع من المعاهد هو هذا؟
ليجيب المعني بسرعة فضحت حماسه الزائد:
-معهد رائع يقال ان مؤسسه السيد آلان دوبري فنان مذهل جمع بين العديد من الالوان فقرر انشاء معهد يضم الفنانين الشباب من امثاله.
- وماذا تضن انت عن هذا الرجل؟
-لا ادري انا لا أعرفه في الواقع لا أحد يعرفه كل صوره المتوفرة كانت من شبابه يقول البعض انه اختفى و يزعم البعض موته لكن اضنه متعجرفا كونه منح الموهبة و المرتبة الاجتماعية الرفيعة.
-هكذا اذن على كل اخبرني كل تفاصيل تجارب الآداء.

ليمتد الحديث بالاثنين ويطول حتى اواخر الليل. هكذا عطفت الايام على صغيرنا ليجد الاب الحنون و الحبيبة الشجاعة و النجاح المشهود، تحركت تلك النحيفة على لوحة مفاتيح صندوقه المفضل معلنة نهاية السمفونية الثانية.

صمت عازفحيث تعيش القصص. اكتشف الآن