كانت "عفاف" تخفي في نفسها كثيرا من الإعجاب تجاه الفتى المجنون "كما يصفه النسوة"

960 25 49
                                    

أشارت "شريفة" إلى ابنتها "عفاف" التي بلغت سن الرشد قائلة في سرور: دي عفاف بنتي الوحيدة اللي طلعت بيها من الدنيا، و النهاردة عايزة اخد رأيكم في موضوع بخصوص جوازها.

ردت إحدى النسوة في تلهف: اتفضلي يامدام شريفة.. نفسنا نسمع خبر حلو من زمان.

ارتسمت على وجه اﻷرملة اﻷربعينية ابتسامة زهو و افتخار كمن سطع فوق جبينه القمر في ليلة ظلماء، ثم رمقت صغيرتها بطرف عينها لتداعب الإبنة فستانها ويكتسي وجهها بحمرة الخجل.

بينما واصلت اﻷم حديثها غير مبالية بما أصاب الفتاة من الإرتباك ثم قالت: الخاطبة كانت عندي امبارح وجايبالي تلات عرسان للسنيورة، اتنين منهم ساكنين معانا في العمارة، وواحد ساكن في الشارع اللي جمبنا.. ثم أضافت: أنا ما فاتحتش بنتي في الموضوع ده، ﻷني مش عارفة أجوزها دلوقتي ولا ﻷ، بس قولت افضفض معاكم ولو في حد منهم يستاهلها أجوزهاله!

صاحت أخرى منهن: سلامة الشوف ياشريفة، بنتك احلوت واتدورت وبقت عروسة زي القمر، دي عندها تمنتاشر سنة يعني عز الطلب، واللي في نفس سنها اتجوزوا كلهم، يعني لو اتأخرتي عليها أكتر من كده هتعنس.. ثم مصمصت شفتيها و أردفت قائلة: بس على الله ما يكونش اللي في بالي.

- قصدك مين يامدام فوزية؟
- هو في غيره الواد اللي فاكر نفسه نجيب محفوظ.. كل يومين والتاني يفضل يتنطط على السلالم ويرميلنا الجورنال بتاعه من تحت عقب الباب، وكلامه كله بؤس وكآبة لحد ما زهقنا في عيشتنا.

أطلقت شريفة ضحكة عالية، ثم توجهت نحو "الشيفونيرة" في ركن الصالة البعيد كي تجلب شيئا ما..
بينما بدت على وجه ابنتها علامات العبوس، ومضت تتأفف في ضجر فقد كانت تخفي في قرارة نفسها شيئا من الإعجاب تجاه الفتى المجنون، و باﻷخص كلماته التي كانت حروفها تتساقط كحبات المطر فوق تلال الحزن الممتدة طولا وعرضا في صحراء قلبها الجرداء، فتغسلها من غبار البؤس الذي كان يقتحم واديها بين حين وآخر منذ رحيل والدها.
فما لبث أن جاءها الكاتب النبيل بترياق اﻷمل الذي يبعث فيها حب الحياة من جديد.

كان فارس دائم التلصص على أخبار معشوقته، وكلما ألمت بها نائبة من نوائب الدهر أو أصابتها إحدى حوادثه ساق إليها المزيد من نسائم عباراته، و بمجرد أن تستنشقها حبيبته يُسَرّ قلبها كأن شيئا لم يكن، إلا أنه لم يجرؤ يوما على مصارحتها بما يختلج في صدره.
أما عفاف فكانت تشعر هي اﻷخرى بشيء من الفخر والتميز كونها القارئ الوحيد الذي يعرف عن الكاتب اسمه و رسمه ومكانه.. غير أنها لم تفصح ﻷحد بما استقر في فؤادها من عشق متوهج لجارها المجنون!
ولكن في كل مرة يأت بها الفارس النبيل حاملا جريدته ليمررها من أسفل الباب، كانت تسترق النظر إليه من تلك العين السحرية لتُطفئ لهيب اشتياقها إليه.

و بمجرد أن علمت بأمر الخِطبة خفق قلبها طربا، و أيقنت بأن حبيبها أول الراغبين في الإقتران بها، ولكن أحيانا يُصرف عنا ما نرغب، ويُساق إلينا ما نحن فيه زاهدون، إما بلاءً وإما ابتلاءً والعاقبة للصابرين.

من رواية إيجار قديمWhere stories live. Discover now