معن

55 4 2
                                    

منتصف نيسان قبل عامين كنا نلهو بجانب ساقيةٍ معاً حين سمعنا صراخاً لرجل عجوز كان يركض تارةً ويقع لم تقوى ساقاه على حمله ،تجمع الدم في رأسه ويبدو أنه فقد السيطرة على حركته فيهتز في هرولته .. كان ينوح و يصرخ ويخبط بيديه وساقيه الأرض ليقف بعدها و يجري ، نظرت لمعن لأجده قابضاً كفيه محمر الوجه بارز العروق أشار بأن نتبعه ، فإذ بنا نصل لمنتصف المدينة هناك حيث نصبت منصة الإعدام والتم حشد غفير من الناس ليشهدوا على ظلم سيحصل -دارين منكرين - لحقيقة تلك الجريمة الشنعاء صارخين بأنها عدل وحق وأنها تحقق القسطاط المستقيم مضمرين في نفوسهم حقداً دفيناً ،عادات ورثوها عن آبائهم وأورثوها بدورهم لأبنائهم.

علمت فيما بعد بأن ذلك العجوز والد الفتى وأن قاضي المدينة أمر بإعدامه بقرار جائر أقره في الليلة السابقة، لجرم لم يذكر تحديداً في قرار القاضي وإنما وصف على أنه خيانة عظمى .

كانت ملامح معن تستشيط غضباً ،ملامح لم آلفها منه سابقاً ،حنق شديد ووجع لا ريب فيه ... حين وضعوا الحبل حول عنق الفتى انطلق معن قافزاً بين الجماهير وبطريقة ما وصل إلى المنصة وقطع الحبل بسكينٍ يحمله دائماً في جيبه ،لا أدري أي قوة يمتلكها وأي طاقة متوارية خلف وجهه ذاك ، أمسكه أحد الرجال وضربه آخر بعصاً ثخينة على رأسه ففقد الوعي ، أدخلوه لعربة السجن ذات الهيكل الفولاذي وأقفلوا الباب وتوجهوا به للمحكمة المركزية بينما قام دركي آخر بإتمام عملية الإعدام .

انفض الحشد وبقي ذلك العجوز وحده يصرخ ويلطم إلى أن فقد الوعي وأُخذ لمكانٍ آخر ، كنت أقف في منتصف الساحة كخيال ما لا أحد يلحظه مرت من جانبي امرأة وطفلها كانت تهمس له بصوت سمعته جيداً " هذا جزاء من يقوم بعملٍ سيء هذا جزاء التمرد"

كنت مشدوهاً تماماً بكل ما جرى حولي ولم يعدني لصحوتي سوى نقاش دار بين رجلين يملك أحدهما صوتاً حاداً يثقب الآذان
_ ياله من أحمق

_أعتقد بأنه مجنون أو مصاب باختلال عقلي

_ لا تهمني علّته... نال ما يستحقه ، أدموه وأغمي عليه والله أعلم بما سيفعلون به لاحقاً

_أنت محق لقد تهور بفعلته

أدركت حينها بأنهما يقصدان معن ، صديقي الذي يملك حرفاً واحداً ، إن معن طويل القامة ولكن ورغم طوله لا أدري كيف قفز ووصل لتلك المسافة وكيف قطع الحبل بكل تلك السرعة في تلك اللحظات ولم أعرف ما منعني من اللحاق به ، يال شجاعته ، لكني شهدت اللحظات التالية لذلك حين لفظ الدم وتشبع وجه الدركي وملابسه بلونٍ أحمر ،لا أدري كيف بقيت منتصباً في مكاني وقتها، لقد كنت مشدوهاً .

تسمري في مكاني هذا لن يفيد علي اللحاق بمعن للمحكمة المركزية هذا ما تبادر لذهني ، صحيح أني لا أملك سوى ثلاثة حروف لن أستطيع مهما اختلفت تراكيبها أن تأتيني بجملة تُخرج معن من ورطته ولكنه صديقي و علي اللحاق به .

تلك المحاكمة لم تسر على ما يرام ، كعادة كل المحاكمات التي خاضها ، لا أذكر عددها تحديداً فقد توقفت عن عدها منذ زمن ، وربما يمكننا اعتبار معن أكثر شاب دخل قاعة المحكمة كجانٍ في بلدتنا يليه أنا ، ولم أكن أدخلها إلا برفقته وقلما كنت أحاكم بدون أن يرافقني معن كمخطط ... كان يطلب أن أكتب أشياءً لنشرها وعلى حد تعبيره أنا نصف كاتب أحتاج أن أكتب ما يطلبه مني لأتمم نقصي وكم كان عذراً واهياً في نظري لكنني اشترك في مخططاته لأني أردت ذلك ... لأني أعلم بأنه على حق .

الغريب في محاكمات معن الفردية بأني كنت استيقظ بعدها بحرف ناقص ،بكلمات كثيرة أعجز عن نطقها .

لم أستفسر يوماً فالجواب كان يصلني قبل أن أفكر .. أنت شريك في الجريمة وقد جرت المحاكمة غيابياً.
حسناً هذا منطقي بعض الشيء فمعرفتي بمعن قديمة جداً، وعلاقتي به وطيدةٌ جداً، لذلك فمن الطبيعي اعتباري شريكاً ولكن من غير الطبيعي اقتصاص حرفٍ بلا محاكمة.

ولكثرة دخولنا السجن سوياً فقد كان قاضي المدينة عطوفاً معنا ... وكريماً جداً إذ أنه أخبرنا يوماً بأنه سيبقي على لفظ اسمينا حتى النهاية فيحتفظ صديقي بحروف اسمي واحتفظ أنا بحروف اسم صديقي ... أليس هذا كرماً بالغاً منه؟! بالغاً من الألم مبلغه ..فكأنه بكلامه هذا كان يقول ستجردان من الأبجدية .

واليوم أدركت بأنه لم يكن يكذب فمعن فقد أخر حروفه وهو الدال ، الدال الذي يشكل آخر حروف اسمي .
كنت ورداً
ثم رداً
ثم دال لا فائدة منها.
وأما الآن فلا شيء فقد أصبح معن -وبقرار بُتِّ فيه من قاضي المدينة- أخرساً تماماً .
عدا عن حبسه لثلاثة أشهر لأنه عرقل سير العدالة .

في اليوم التالي استيقظت بكامل حروفي وكم كان ذلك مفاجئاً ...إلى الآن لم أفهم آلية سير القضايا التي نعاقب فيها سوياً ولكني دائماً على استعداد تام لأخسر حرفاً أعرف أنه لن يسترد أبداً مجدداً حين يفقد معن أعصابه.

كان انفعال معن نتيجة الظلم الذي وقع بوالده قبل سنوات ، فقد أعدم في الساحة المركزية تماما كذلك الشاب الذي حاول إنقاذه ، وسط حشد تكاد العين لا تبصر نهاية امتداده، فقد تجمع آلاف الأشخاص في ذلك اليوم ، ذاع صيت إعدامه في أنحاء المملكة ، وانتشرت الشائعات والأقاويل مما أثار فضول العامة لمعرفة جريمته ، ولم تكن تلك الشائعات إلا لعبة للتهويل من فعلته وليكون إعدامه رادعاً وليكون عبرة لمن يعتبر .
كان السيد أدهم والد معن يعمل في السلك القضائي كموظف، رجل ذو أخلاق عالية ومكانة مرموقة ، عاد في أحد الأيام إلى بيته مرتاباً ،في صباح اليوم التالي أُخذ للمحكمة ، حوكم وتم إعدامه في ذات اليوم ، دون أن يتم الإفصاح عن جرمه .

أنا وصديقي الأخرس Hikayelerin yaşadığı yer. Şimdi keşfedin