ما التالي؟

40 3 3
                                    

يولد الإنسان حراً تماماً يصرخ بما يشاء حين يشاء ... ليس حقاً، حين تبلغ من العمر السابعةَ عشر يبدأ الاقتصاص من أحرفك ، ترتكب خطأً ما أو جريمةً ما،تفقد جراءه حرفاً و تزج بالسجن،ينص قانون المملكة على اعتبار الإنسان راشداً حين يبلغ السابعة عشر من عمره، حين تصل سن الرشد تبدأ محاسبتك على أقوالك وأفعالك ، ويبدأ اقتصاص الأحرف من لسانك فتعجز عن نطقها وتقيد استخداماتك لما تملك من حروف، لم أعرف يوماً كيف يجري ذلك يطرق القاضي بمطرقته مصدراً الحكم لتنفذ العقوبة في ذات اللحظة تفقد من معجمك كلمات وكلمات، ورغم اشتراك بعض الحروف بمخارجها- فمخارج الحروف سبعة عشر مخرجاً- إلا أن الأحرف تستأصل بطريقة لا أحد منا يفهم منحاها، عقوبات يقضى بها وتنفذ دون أن يبذل أحدهم مجهوداً في تنفيذها و بدون أن يشعر أحدنا بأي وخز و دون أن يتواجد في مكانٍ معين أو يقوم بفعلٍ معين، دون أن يقترب أحدٌ منك ، دون أن تربط بآلةٍ ما دون أن تصيبك صاعقة كهربائية أو حقنة بسائل ما ،كانت الحروف تختفي وحسب ، وانطلاقاً من هنا خرج الثائرون ، ينددون، يبحثون عن أجوبةٍ لاستفساراتهم ، جمل قصيرة تشرح ما يجري لهم ، كانت العقوبات من هذا النوع قليلة إلا أنها كثرت في العقد الأخير نتيجة تلك الاعتصامات والتنديدات ، بدأنا نفقد الكلمات ، حتى الأحرف التي كانت تبقى في جعبةِ المذنب منّا كانت تقيد باستعمالات محددة ضمن نص العقوبة المنزلة به، أي أن المعاقب يفقد حرية التعبير .
ازداد عدد البكم -المستحدثين- وزاد عدد الغارقين في صمتهم خشية زجر القائمين على إعداد تلك العقوبات.

بعد خروجي من قاعة المحكمة توجهت إلى النهر ، يريحني سماع صوته ، خرير مياهه، لحن واحد غير قابل للتقيد ، أخذت نفساً عميقاً وفكرت ، ما التالي ؟!
_ كتابة اللافتات إهدار للوقت
نظرت إليه متمعناً ، شاب طويل القامة عريض المنكبين بشعر بني وعينان خضراوتان،  إنه جمال حقاً ، نظرت إليه مستغرباً، كان يبتعد عن الاعتصامات و يرفضها تماماً، أجل كان صديقنا لكنه لما يفصح يوماً عن توجهاته لم يوافقني يوماً ولكنه أيضاً لم يستنكر أو يعترض ، والآن يخبرني أنه لا فائدة مما كنا نفعله!.
جلس بجانبي زفر طويلاً وطرح علي ذات السؤال الذي كان يجوب خاطري.
_ما التالي! مالذي تفكر به ؟!
كلانا يعرف بأني لن أستطيع الإجابة دون ورقة وقلم فأنا أملك حروفاً ثلاثة ميم عين ونون ، ما الجمل التي يمكنني تكوينها!
قد يبدو الطريق مسدوداً ، وليس بيدي حيلة الآن فأنا وحدي ، لا يمكنني الاعتماد على أي شخص سوى معن، ورد و معن شكلنا ثنائياً مثيراً للمتاعب بامتياز منذ الطفولة ، لم نكن نفترق ، هل سيغيره فقدانه لكامل حروفه؟ هل ستغيره أشهر السجن؟ ربما علي الانتظار لأعرف ، لكن الأيام لا تمضي بسرعة ، ألن أقوم بأي فعل ؟ ماذا إن لم يكن للساني صوت ، يدي تستطيع الكتابة ، أأتابع ما كنت أفعل ، توالت الأفكار إلى رأسي و تدافعت ، شعرت بأنها تنخره حتى ترسخ لنفسها مكاناً وتفسح الطريق لأفكار أخرى ، أنا غاضب حقاً غاضب لحالي هذا، غاضب لغياب معن !
_أنا معك .
_نعم!
_كما سمعت .
التفت إليه، دهشت بما قاله ، بدت الجدية على محياه ،اتخذ موقفاً بعد سنين من الاختباء، كيف دبت الشجاعة في عروقه فجأة! إنه يعلم العواقب جيداً و رغم ذلك يريد إقحام نفسه ، دون أن يتعرض لحادث يحول موقفه ، معن فقد والده ، وأنا ترعرعت في كنف رجل يملك خمسة عشر حرفاً وموقفاً ثابتاً زرع بذوره في دهاليزي منذ صغري ، لكن جمال ... ماذا عنه! أجاب على ما يدور في دماغي و كأنه يراه :
_ لا تحتاج دائماً ، لصفعة حتى تستفيق، تأمل صفعات غيرك وستحس بالألم .
وقف دون أن يشيح بنظره عن النهر ،رأيت ابتسامة ثقيلة ترتسم على ثغره، جعلتني في حيرة من أمري ،  ثم أدار ظهره وذهب .
الضجيج في رأسي تعالى و ازدادت الجلبة ، تأمل صفعات غيرك ! ألم يتملكه الفضول دائماً ، ألم يفكر سابقاً؟ ألم يتأمل ما يحصل ؟ هل سيقف في صفنا أخيراً كاسراً حالة الحياد التي كان قد تبناها في الماضي، ربما هذا الانقلاب المفاجئ يثير الشكوك، ماذا لو كان القاضي قد كلفه بمراقبتي و معن!  ولكن ولسبب أجهله أنا لا أشعر بالقلق حياله ، هل علي أن أثق به؟ لنفترض أننا سنتابع ما نفعل ، ماذا سنفعل؟! ويعيد السؤال طرح نفسه في ذهني ، ما التالي ؟!
خرجنا في الشهر المنصرم في مظاهرة تندد بما يحصل من ظلم فقد زاد الوضع عن حده ، وربما يكون ذلك لكثرة التساؤلات ، فقدان حرف واحد كارثة ، لو فقد أحدهم تاءه ستتحول جملة' تناولت تفاحة' إلى 'ناول فاحة' ألهذا معنى! تفقد فجأة قدرتك على التعبير ، قدرتك على التواصل ، لا أدري أي نوع من العقوبات هذا ، في كتب القانون القديمة لم يكن لهذه العقوبة وجود ، غرمة سجن إعدام ، عقوبات طريقة تنفيذها واضحة ، كان لدى أبي مجلد عن قوانين البلدان يخفيه في قبو المنزل خشية أن يراه أحد ويبلغ عنه ، قرأته دون الإمعان في دراسته لكني لم أجد حرفاً عن اقتطاع الحروف ، في الولايات المجاورة حين ترتكب جرماً تسجن وتخرج بكامل حروفك ، للموضوع أبعاد كثيرة فالتواصل أساس العلاقات الإنسانية بالإضافة إلى التفاهم مع الآخرين ، حين تتحدث يمكنك نشر فائدة، اكتساب خبرة، إنشاء علاقات سلمية .
القيود الموضوعة لا تسمح بنشر الخبرات عن طريق الكتب ، كما أن محاولة تواصلك مع شخص فاقد لحروفه تضعك تحت المراقبة ، قد يولد شخص ما دون أن تكون له قدرة على الكلام يولد أبكماً يمكنه التعايش مع وضعه فقد ولد به كما أنه لا يحرم من حرية التعبير فيمكنه إشارة أو كتابة أن يعبر عن أفكار ومكنونات خاطره، لكن أن تملك شيئاً ملازماً لطبيعتك التي ولدت فيها ثم يخطف منك بطريقة أو بأخرى ، أن تفقد حرية التعبير نطقاً وكتابة  ، أن تعتاد على شيء ثم تفقده ، أن يسلب منك حقك دون أي اعتبارات إنسانية فتقف في منتصف الطريق لا تعرف ماذا تفعل ،أتندد بالظلم الملحق بك أم تعود أدراجك لتتكور على نفسك وتواسيها بما فقدت، أتلملم ما بقي من آثار ما فقدت من ثناياك وتتخيل احتراقه بغية التخلص منه أم تبحث عن طريقة لاستعادته، يمكنك استعادة مالك ،ولكن هل توجد أي وسيلة تستعيد بها حروفك ؟ تستعيد بها صوتك ؟

أنا وصديقي الأخرس Tempat cerita menjadi hidup. Temukan sekarang