قررت سوزان , رغم كلماتها الشجاعة , أنه من الأفضل أستخدام الماء الساخن , لم تكن ترغب السباحة في نهر له تيارات قوية لعلمها أنها ليست ماهرة في السباحة , ثم أنها لم ترغب بالسير أمام عدوها ملتفة بمنشفة صغيرة.
أنتعشت قليلا رغم ضيق المكان في الخيمة ثم مشّطت شعرها وشدّته قبل أن تضع القبعة , لم تعرف كيف تبدو وأكّدت لنفسها بأنها لا تهتم بل من الأفضل لها لو أنها بدت مخيفة , وخشيت أن يحاول دي ميندوزا أستيفاء أجره قبل الوصول الى ديابلو , وقبل أن تعتمد على حماية مارك.
في الحقيقة , كلّما فكرت أكثر , كلّما توصلت الى الأقتناع بأن دي ميندوزا سيحاول الحصول على ذلك لأنه , رغم عجرفته , ذكي وسيدرك أن أخيها لن يقف مكتوف اليدين متفرجا بينما هي تسدّد أتعاب الرحلة , عليها أذن , ألتزام الحذر طوال الوقت , في الوقت نفسه زرّرت أعلى زر في قميصها.
منتديات ليلاس
شعرت سوزان بتحسن فيما كانت تلف البطانيات حين خطرت في ذهنها فكرة طارئة بأنها تحتقره حين يكون على مبعدة منها , وأقنعت نفسها بأنه أفضل مثل لكل ما تكره من الرجال من عجرفة ورغبات, لم تكن تتحمل هذا النوع من الرجال , إلا أنها لم تنكر قدرته على أنتزاع أعجابها أكثر من أي رجل آخر قابلته في حياتها.
حاول كارلوس , بالأمس , الأعتداء عليها , الأمر الذي قد يتركها مهانة طوال حياتها , إلا أنها قررت أن محاولة كارلوس لم ترك أي أثر في عقلها , أما الذكرى المخجلة في ذهنها فكانت ما حدث لها في أسكانشن من نقاشات في غرفتها مع دي ميندوزا.
سمعت سوزان صوت ميندوزا وهو يقول:
" سوزان , هل ستبقين اليوم كله داخل الخيمة , حان وقت مغادرتنا".
حملت البطانيات بسرعة وخرجت من الخيمة , بدا ميندوزا أشبه بالقراصنة أكثر من أي وقت آخر , أذ أرخى قبعته على عينيه ليغطيهما , ووضع يديه على خاصرتيه , كل ما أحتاجه لأكمال تلك الصورة , صورة القرصان , في ذهنها , هو سيف أو مسدس قديم.
" أن أحتياطاتك فاشلة".
خاطبها ناظرا اليها.
" لم أحاول أي شء".
أجابته بكبرياء وصدق , وأضافت:
" إلا أنني مقتنعة بأنك لا تصدق إلا ما ترغب فيه".
أنحنى أمامها وأشار الى حصانها المعد للركوب , خطت بأتجاه الحصان وبدأت تحدثه بصوت منخفض , ويبدو أن الحصان كان يتوقع الحصول على بعض قطع السكر إلا أنها لم تكن تملك شيئا من ذلك.
تجاوزها ميندوزا حاملا الخيمة.
" سنستخدم حصان كارلوس لحمل المتاع اليوم , أذ لا فائدة أخرى لوجوده معنا".
" لا فائدة من كليهما , إلا أن حصانك جميل لا بد أن سعره غال".
أرادت , بعد أن لفظت تلك الجملة , أن تعض على شفتيها لكي تمنع نفسها من الكلام , خاصة وأن ما قالته بدا وكأنه تساؤل عن مصدر عيشه وسبل حصوله على المال , إلا أنه لم يتأثر بسؤالها.
" نعم كلّفني شراؤه الكثير , أنه يستحق ما هو أكثر من ذلك لأخلاصه وشجاعته , أنه من أحصنة لاينوس , حيث يمكن مشاهدةالأحصنة ذات السلالة العريقة ".
" لاينوس؟".
تساءلت سوزان :
" في مراعينا , تمتد الخضرة أميالا , يختفي العشب لأشهر ويظهر المكان مثل الصحراء , ثم يبدأ النمو من جديد , يقال بأنه مكان يستطيع الأنسان النسيان والعثور على حقيقته".
" يبدو أنك تعرف الكثير عن المنطقة".
" ذلك طبيعي لأنني ولدت فيها".
سألت سوزان .
" هل كنت راعيا للبقر؟".
" نعم كنت راعيا لفترة قصيرة حين تعلمت ركوب الحصان".
فسألت سوزان :
" أتفضّل الآن عملك كراع للبشر عبر الجبال؟".
كان سؤالا غريبا , إبتسمت لتلك الفكرة , يا له من سؤال سخيف.
ثم أضافت :
" لا بد أنك تفضل ذلك حيث الحياة أسهل والأجور مجزية".
نظر اليها بجفاف وقال:
" نعم يا سنيوريتا , ما تقولينه صحيح".
ثم أمتطى حصانه.
شعرت بخيبة أمل , أذ رغبت بإثارة غيظه وظنت أنه سيناقشها مدافعا عن عمله وأسباب أختياره له , ولكن ربما لم يكن في أمكانه الدفاع عن إختياره ففضّل الصمت.
" هل تفضّل العودة الى هناك؟".
قالت تلك الكلمات متسائلة وهي تمتطي حصانها.
" ربما".
فنظرت اليه وهي تقارن مستواه بمستواها.
سألت سوزان مرة أخرى:
" ألأجل أن تنسى ماضيك؟".
" ربما , أو ربما لأجد مستقبلي , من يدري؟".
منتديات ليلاس
لم يكن ذلك هو الجواب الذي توقعته سوزان , شعرت بالغضب وهي تتبعه طوال ضفة النهر , وحين وصلا مكانا أستطاعت الأقتراب منه , لاحظت سيماء العداء على وجهه , ظنت أن أسئلتها دفعته الى أستعادة بعض ذكرياته المؤلمة وشعرت بالأسف لذلك , خاصة وأنه لم يعد يتكلم معها.
أرادت أن تسأله أكثر إلا أنه بدا منغلقا على نفسه بشكل غريب ولم ترغب في مقاطعة أفكاره.
أحاطهما هواء الغابة الرطب من جديد , وتابعا التسلق ببطء وثبات وكان مسارهما عبارة عن سلسلة من المسارات الملتوية مما أشعرها بالدوار , تخلّل ذلك مرورها بأحراش ذات عطور نفّاذة وفكرت أن في أمكانها جني ثروة طائلة أذا ما أستطاعت تعبئة هذه العطور في زجاجات وباعتها في شارع بوند المشهور في لندن.
مضت ساعة على بدء رحلتهما حين أصبح الجو حيا , آلاف الأجنحة الصغيرة المرفرفة وزقزقة وغناء آلاف الطيور الصغيرة.
سألت سوزان فجأة :
" ما هذا؟".
" أنها الطيور الطنانة , هناك الآلآف منها في هذا المستوى من الأرتفاع , حيث الظروف ملائمة لمعيشتها ".
أحست بالأرتياح لخرقها الصمت على الأقل , رغم جوابه المقتضب وأستغربت لتناقض مشاعرها , أذ ربما الأفضل لها بقاؤه صامتا وعليها ألا تسترعي أنتباهه ولكنها علّلت نفسها بأن ما فعلته ناتج عن فضولها في معرفة تغيره المفاجىء.
حوّله صمته الى لغز رغبت بحلّه.
شعرت أن طنين الطيور حولهما إنما هو صدى لحيرتها وأختلاط أفكارها , ورغم إبتعاد ميندوزا مسافة غير قصيرة عنها , لم تحاول اللحاق به معتمدة ملاحظة الجمال الغريب المحيط بها لوقت أطول , الأشجار طويلة , وجذب نظرها حرش معين إكتظ بالزهور المتألقة مثل الشعلة في مكان خافت الأضواء.
" لا أستطيع القول بأنك دليل جيّد يا سنيور".
قالت سوزان, ثم أضافت حيث لحقت به.
" ألا تزوّد زبائنكعادة , ببعض المعلومات عن الظروف الطبيعية المحيطة بهم؟".
فأجاب ميندوزا:
" ما طلبته مني هو إيصالك الى ديابلو يا سنيوريتا , أما أذا كنت راغبة في نزهة أستكشاف نباتية , فكان من الأفضل تقديم طلبك الى شخص آخر".
" آسفة جدا يا سنيور لأنني لم أفعل ذلك".
" وها أنا أشعر بالأسف لأنني لم أترك لرحمة كارلوس , رغم أن أهتمامه بعلم الحياة لا يتعدى معرفته للأسماء منها فقط".
عضّت شفتها , وأثارت جنونها خسارتها الدائمة معه مهما حاولت أثارة غيظه وحذّرت نفسها بأن الأمر أسوأ , أذ أنه مهين لكرامتها أيضا , صحيح أنها أجادت دور الفتاة الجيلدية في لندن , وأستطاعت التصرف بطريقة أوحت ببرودته , كما وصفها ( لي ) وسلوكها المحيّر وساعدها في ذلك جمالها وقامتها الطويلة , مما نجح في دفع أي رجل للتفكير أكثر من مرة قبل التقرب منها , رغم كل شيء , لا يبدو أن دي ميندوزا قد تأثّر في أي شكل من الأشكال.
خاطبته قائلة بإعتدال:
" ربما من الأفضل عقد الصلح بيننا يا سيد دي ميندوزا".
" ولم يتوجب علينا ذلك يا سنيوريتا كريتشتون؟".
" لأنني فكرت بما أن القدر يجبرنا على البقاء معا لبعض الوقت فربما من الأفضل التصرف كأصدقاء".
أجابت رغم عدم توقعها لرفضه.
" هل تحاولين أخباري بأنك رضخت أخيرا لقدرك؟".
" أنني أتحدث عن الرحلة الى ديابلو , وليس عما سيحدث أو لا يحدث حتى تصل هناك".
" كلامك يعبّر عن الشك في نواياي , أذا كان الأمر كذلك , لا تخدعي نفسك , أنني مدرك تماما لطبيعة أفكارك الأنثوية التي تحتل ذهنك في الساعات الأخيرة ".
" لا أعرف ما تعنيه؟".
" كلا ؟ إليك شيء لتفكري به ما الذي سيحدث أذا وصلنا الى ديابلو ولم نجد أخاك هناك؟".
شحب وجهها , ذلك أحتمال تحاشت التفكير به في الآونة الأخيرة لأنشغالها بالحالات التي مرت بها , وواصل حديثه ببرود:
" أحذّرك يا سوزان , لقد وافقت على أخذك الى ديابلو لتجدي مارك , ولكن أذا حدث وأنه لم يكن هناك, فأنني لا أعتبر شوط أتفاقنا منتهية".
" لكن لا بد أن يكون هناك".
أجابت سوزان , فأنحنى دي ميندوزا متسائلا:
" لم ؟ كي تلجأي اليه وتتخلصي مني؟ هل تظنين بأنني سأسمح بذلك؟".
" لا يهمني الحصول على موافقتك , أخبرتك في أسانكشن سبب قيامي بالرحلة , أريد العثور على مارك لأن جدي مريض ويريد رؤيته , ربما كان يحتضر الآن بينما أضيع وقتي في محاولة أقناعك , ذلك سبب مجيئي الوحيد ولن أعود ما لم أحققه حتى لو أقتضاني الأمر الذهاب الى نهاية العالم".
ساد صمت بينهما ثم قال بغيظ:
" كيف وافق جدك على أرسال فتاة مثلك الى رحلة خطيرة؟".
" في الحقيقة أعتقد أنك وجدّي تتشابهان في كثير من الصفات , أنه أيضا يعتبر المرأة آداة للطبخ والتزيين والمتعة".
" لا تهمني قابليتك في الألقاء المسرحي يا سوزان , أنا أبحث عن شيء أكثر أثارة من ذلك".
" سأخيّب أملك أذن".
" لا أتقد ذلك , أذن , أذا كان لجدك نظرياته تلك عن المرأة فما الذي تفعلينه هنا؟ أنا متأكد أنك لم ترغبي المجيء برضاك".
"لم لا ؟ صحيح أن الأحداث أخذت مسارا غير متوقع , إلا أنك لا تستطيع أن تلومني أو تلوم جدي على ذلك , ثم أنني أردت المجيء لأنه طلب مني ذلك , لا أدري أذا كنت رب عائلة يا سنيور , ولكن أذا كان الجواب أيجابا فلا يخفى عليك ما للعائلة من أحترام وحقوق لا تستطيع أيفاءهما بمجرد التهرب, ثم..........".
وترددت فقال ببرود:
" أرجوك , أتمي كلامك".
شعرت بأن كلماتها ربما أذته , خصوصا ملاحظاتها عن العائلة وحقوقها وقالت:
" أنها المرة الأولى التي يطلب فيها جدي أي شيء مني , المرة الأولى التي يعترف فيها بأنني أنسان بدلا من دمية جميلة".
" هل يهمك هذا؟".
أستدار ميندوزا وحدّق في وجهها , ثم أضاف:
" لذلك كنت مستعدة لنبذ كافة الأعتراضات ؟ ألم يخطر على بالك بأنك تعرضين حياتك للخطر؟".
" كلا".
أجابت سوزان بدهشة , ثم أتمت كلامها:
" أهتمامي الوحيد الى جانب أرضاء جدي , هو مهنتي".
" آه , نعم , هل تهمك مهنتك كثيرا؟".
" أنهاتعني كل شيء في حياتي".
أجابت بأختصار.
" كل شيء ؟ أخبريني , ألم تلتقي برجل دفعك للأحساس بأن هناك حياة أخرى أكثر أقناعا من تمثيل حياة الآخرين على المسرح؟".
مرت في ذهنها ملامح ( لي ) ثم أختفت بسرعة , كم شفي جرح قلبها بسرعة بعدما ظنت أنه غير قابل للشفاء , ربما كان جرح كبريائها أعمق من قلبها.
" كلا لم يكن هناك أحد".
قالت ذلك وهي تتعجب من أعترافها بذلك , ربما كان من الأفضل اخباره عن مجموعة من العشاق الوهميين , ألا أنها أضافت قائلة:
" تكلمنا ما فيه الكفاية عني , ماذا عنك يا سنيور ؟ هل لديك زوجة شابة هادئة مخفية في مكان ما؟".
" لم تسألين عن ذلك يا سنيوريتا؟ هل خشيت معرفتها بك وأثارتها الفضيحة لغيرتها منك؟".
" كلا , أطلاقا".
أحست بدقات قلبها تتزايد , وقالت:
" رغم أنني واثقة بأن أي أمرأة حمقاء توافق على مشاركتك حياتك , لا بد أن تكون معتادة على مثل هذه المشاهد".
" في هذه الحالة , لحسن الحظ لا تزال السيدة دي ميندوزا صورة رسمتها في خيالك , يبدو وكأنك أرتحت للفكرة؟ هل تضايقك فكرة زواجي؟".
" كلا , ولم تضايقني؟".
تساءلت سوزان بلا مبالاة.
" لم حقا؟".
وافقها ميندوزا وهو يدير وجهها بأتجاهه , فأستدارت الى الجهة المعاكسة بدلا من ذلك.
" لا تلمسني أرجوك".
" هل يضايقك ذلك أيضا؟".
" كلا , كل ما في الأمر أنني أكره التحديق في وجهي".
" كل هذه الضجة حول لمسي أياك عرضيا , هل تفضلين الأمر أذا أنزلتك عن حصانك؟".
" كلا".
صرخت سوزان صرخة عنيفة تخللها أحساس بالعار.
" لا تثيرينني أذن بتظاهرك أنك لا تحبينني , كلانا يعلم أنك تكذبين , وأن تظاهرك يجعل الأمر أكثر صعوبة لك".
أحست كأن النار تلتهب في داخلها وأمتلأت عيناها بدموع الغضب , كل هذا جاء نتيجة لفقدانها السيطرة على نفسها , لو أنها حافظت على وعيها وصفعته بدلا من ذلك لما كانت في حالتها الحالية المؤسفة , ألا أن الشيطان غرس في نفسها التخاذل والأستسلام فتحوّلت الى لعبة بين يدي هذا الدليل الغامض , أذ ليس من المعقول أن تكون للحظة ضعف واحدة مثل هذه القوة وأن تقودها الى حافة الكارثة تقريبا , الأكثر من ذلك لم تستطع التفكير بأي من صديقاتها.
لم تراودها هذه الأفكار؟
منتديات ليلاس
لم يكن دي ميندوزا مهتما بأحاسيسها , بل كل ما أراده هو خضوعها له ولفترة قصيرة , وشحت متحققة لأول مرة نت مسار أفكارها ولفكرة واحدة بالأخص وهي أنه أذا أستطاع دي ميندوزا التحكم بها فأنه سيستمر في ذلك مرة واحدة والى الأبد , أذ أنها لن تمر معه بمرحلة وسطية , بل سيلي ذلك الفراق وسوف يقتلها الألم , خاصة وأنها ستقع في شباك حبه ولن يكون الأمر مجرد ممارسة للعواطف , بل ما هو مؤكد هو أن لا مستقبل لها مع ميندوزا .
نتيجة لأفكارها المشوشة أرتخت قبضتها الممسكة بلجام الحصان , وكادت أن تقع لولا أن ميندوزا أمسك بها حتى أستعادت توازنها.
قال ميندوزا :
" أسرع طريقة لكسر عنقك هو أن تحلمي وأنت تمتطين حصانك , ربما كنت تريدين ذلك؟".
كانت لا تزال في حالة الدوخة بسبب أدراكها لما حدث , لعله لاحظ أرتباكها .
" كلا , لأنني لا أعتقد أنك أو أي رجل آخر أسوأ من الموت".
فأجاب ميندوزا:
" تذكري أذن أن تحتاطي أذ أن رقبتك المكسورة لن تعيق كل شيء".
فكرت أن ما سمعته يشكل تحذيرا مخيفا فدفعت حصانها الى الأمام محاولة صعود المنحدر.
توقفت لفترة الغداء في ساحة ظللتها أحراش عالية , ألقى دي ميندوزا نظرة سريعة الى جيب السرج ثم جذب بعض الحساء المجفف , وكانت رائحة الحساء المطبوخ مثيرة للشهية , ألا أنها لم تستطع تناول الأناء المقدم لها.
" لست جائعة".
قالت بصوت شبه معتذر , مغطية عينيها تحاشيا لأشعة الشمس , رفعت رأسها ناظرة اليه.
" أظن أن الحادث الأخير أثّر على شهيتي".
كان عذرا واهيا إلا أنها لم تجد عذرا أفضل منه.
" هل تشعرين بالمرض ؟".
قطب جبينه وبدا لها أطول قامة من العادة.
" كلا , أو ربما قليلا , أعتقد أنه الأرتفاع عن مستوى سطح البحر".
" لا أعتقد بأننا على أرتفاع هائل ولكن لا تقلقي فأننا لن نتسلق أكثر من هذا اليوم".
" أنني مسرورة لذلك , قضينا نهار أمس منحدرين وقضينا اليوم كله متسلقين".
" أنها الطرق الجبلية , لذلك نحتاج أحيانا يومين لقطع مسافة تبدو قصيرة جدا على الخارطة".
" وهل يتطلب الوصول الى ديابلو عدة أيام؟".
ولم تحاول النظر اليه مباشرة.
" ألم يقل أحد رجال بلدك أن من الأفضل السفر على أمل الوصول بدلا من الوصول نفسه لذلك لن أفسد عليك الأمر بأخبارك , والآن تناولي الحساء فأمامنا طريق طويل نقطعه قبل فترة العشاء ". ثم وضع إناء الحساء جانبا.
منتديات ليلاس
تنهدت أذ لم تشعر طوال حياتها بمثل هذه الحيرة والخوف.
فكرت بأنها سوزان كريشتون الباردة , ذات الرأس الشامخ دائما والعارفة لما تريده من حياتها وعملها وكيف تحصل عليه , كما كانت تعرف ماذا تريد من الرجال , وتعودت أن علاقتها بأي رجل يسودها الأحترام والصداقة أكثر من أي شيء آخر , كما ستسود المساواة بينها وبين الرجل المختار , لأنها أنسانة تختار ما تريده بدلا من أن تعامل كدمية ترتدي ملابس غالية وجميلة.
ذلك ما كانت تريده لنفسها : أحترام النفس أولا وأخيرا ولذلك لم تنخرط في أي علاقة رخيصة مهينة للذات , أو على الأقل هذا ما آمنت به , والآن ها هي تواجه نفسها , لعلها أقتنعت بآرائها من قبل لأنها لم تمر بتجربة حقيقية , وحتى ( لي ) الذي أرادها له لم يستطع أن يثير فيها أية عاطفة في لقائهما الأول.
أثار أعترافها بالحقيقة خجلها , إلا أنها كانت الحقيقة , فمنذ اللحظة الأولى أثارها حضوره كرجل هي ذات الحياة الأجتماعية والمحاطة بالرجال دائما , رجال مستعدون لتلبية طلباتها حالما تطلب , وأدركت أنها لو حاولت بدء علاقة ما , ربما كانت ستتحول الى علاقة دائمة , حيث سمعت عن علاقات كهذه أنتهت الى زواج ناجح.
(كلا , ليس بهذه الطريقة ) خاطبت نفسها أخيرا.
أنهت تناول حسائها ووضعت الأناء جانبا قبل أن تقف لتتمطى بكسل , كانت ساعات الركوب طويلة وربما لم تكن تبالغ بصدد الأرتفاع حيث أحست بالتعب الشديد , دهشت لمرأى قمم الأشجار الكثيفة وبدا كأنهما من أوائل الرحالة الى هذه المنطقة , حيث لم يعثرا على ما يشير وجود أي حياة أنسانية عداهما , ومنحها الأحساس بالوحدة خوفا مضاعفا.
ربما كانت الأمور بينهما أحسن لو أنهما كانا مجرد رفيقي سفر , إلا أن ذلك كان مستحيلا حيث ساد بينهما التوتر منذ البداية.
حدقت في أسفل الوادي متتبعة مسار النهر الزاحف بعيدا , وأيقنت أنها ستحصل على منظر أفضل فيما لو تسلقت أحدى الصخور , كانت على وشك مناداة ميندوزا المشغول بالأهتمام بالأحصنة , وطلب موافقته , إلا أنها غيّرت رأيها حين رأته مديرا ظهره لها , ثم فكرت بأنها لا تحتاج الحصول على موافقته لكل خطوة تخطوها خاصة أذا كانت مجرد تسلّق صخرة.
منتديات ليلاس
أقتربت من الصخرة ورفعت نفسها فلاحظت وجود مكان كاف لجلوسها في القمة , فأطمأنت وبدأت التسلق , كانت قريبة من القمة وأمتدت يدها لتمسك بالحافة البارزة حيث سمعت خلفها صوت ميندوزا محذّرا إياها , جمدت في مكانها وأدارت رأسها فرأته راكضا بأتجاهها حاملا في يده مدية يلتمع نصلها بفعل أشعة الشمس , للحظة واحدة ظنت أنه أصيب بالجنون ألا أنها سمعت صوتا آخر قريبا منها وكان صوت فحيح غريب.
صاح ميندوزا:
" لا تتحركي أيتها الحمقاء , فقد تكون هناك حية لأنها تفضل مثل هذه الأماكن عادة".
" نعم هناك حية , هناك حية".
كررت ما قالته عدة مرات.
رمى المدية بعيدا , ثم قال:
" أقفزي , أقفزي وسأمسكك".
" لا أعتقد أنني أستطيع الحركة".
أجابته ببطء.
" نعم تستطيعين ذلك , أقفزي , ثقي بي".
أرادت سوزان الضحك للفكرة ألا أنها لم تستطع أطلاق أي صوت , ثم وبدون تفكير تركت نفسها لتنحدر الى أسفل الصخرة , وقعت بين ذراعيه , ألا أنه تراجع الى الخلف بسرعة ممسكا بها بقوة ليحول دون سقوطهما سوية , كان أول شيء أدركته هو أنطراحها فوقه على العشب , سألته:
" هل آذيتك؟".
وهي تحاول الأبتعاد بحركة يائسة.
" أفقدتني التوازن قليلا , أنك أثقل مما ظننت".
أحمر وجهها وبذلت محاولة أخرة للأبتعاد عنه مؤكذة أسفها.
سألها:
" ماذا كنت تفعلين في أعلى الصخرة؟".
" أردت أن أرى المشهد من أعلى وبشكل أفضل".
" كنت على وشك رؤية المنظر الأخير , تذكري أنك لا تتجولين الآن في منطقة البحيرات في بريطانيا , ربما كان زحفك سيثير الحية وهذا أخطر شيء يمكن حدوثه".
شعرت لبقائهما في هذا الوضع وجا لوجه , خفضت عينيها عن قرب الميدالية الفضية التي كان يعلقها حول عنقه , ظنت في البداية أنها مجرد ميدالية دينية رخيصة وقد رأت ما يشبهها في عربات السوق , ألا أنها لم تكن كذلك بل كانت ميدالية قديمة تحمل شكل حيوان غريب.
" حسنا , يجب أن أشكرك مرة أخرى على أنقاذك لي".
أجاب ميندوزا:
" يا لها من جملة".
" آه".
تأوهت سوزان وعلّلت أن صعوبة تنفسها يعود الى وضعها غير المريح , كانت سوزان صامتة تحدّق في وجهه القريب وتلاحظ الكآبة على وجهه , كان فمه جميلا , رغبت في الأبتعاد عنه وهمست أسمه بخفوت.
" أحب أسمعك تنطقين أسمي".
" أن ما يقلقني هو أسلوبك يا سنيور , وسيكون في أمكانك أختيار صحتها تماما حين نصل ديابلو".
نهض واقفا , نافضا الغبار وبقايا العشب عن ملابسه , ثم أبتعد بأتجاه الخيل , تاركا إياها مهجورة لتتعثر وهي تتبعه في تلك الجبال.
أنت تقرأ
حتى تمو ت الشفاه - سارا كريفن - روايات عبيرالقديمة
Romanceحين يصادف الأنسان حلمه أمامه متجسدا في شخص طالما بحث عنه وأنتظره , هل يتركه يتجاوزه , أم يلحقه ويتثبث به كطوق النجاة , وهل يكون خائنا إن فعل؟ ميندوزا عاهد نفسه على الأنتقام من رودريغو الذي قتل والده وبقي باحثا عنه , فجأة التقى بسوزان التي كانت تبحث...