(6)

6K 169 8
                                    

بقلم: نهال عبد الواحد

مرت عدة أعوام وقد كبر الطفلان، محمد يشبه جده أحمد لحدٍ كبير بينما مريم تشبه جدتها هيام وقد أثار ذلك الغضب في نفس عليّة الجدة الأخرى وكأن أمهما هي من فعلت وتحكمت في ذلك!

كان الحفيدان يجلسان مع جدتيهما مناصفةً في الوقت حتى ترتضيان، لكن ليلى قد لاحظت أن وجودهما مع جدتهما عليّة يؤثر سلبيًا في سلوكهما فاضطرت ليلى أن تقلل احتكاك أبناءها بها حفاظًا على قواعد تربيتها لهما وشرحت لعمها أسبابها وقد تقبلها وعذرها.

عادت ليلى لعملها من جديد فكانت تستيقظ منذ الفجر لتعد الغداء نصف إعداد ثم تيقّظ أولادها من أجل الذهاب للمدرسة، تذهب بهما إلى المدرسة بسيارتها وبعدها تذهب إلى عملها، في طريق عودتها من عملها تعود مع أولادها إلى المنزل.

بعد عودتها للمنزل تكمل باقي إعداد الغداء، تعده لأولادها ولأمها التي بدأت صحتها في تدهور فكانت تجلس معها طوال اليوم لتلبية احتياجاتها وتجلس مع أولادها أيضًا في متابعة الواجبات والأعمال المدرسية والمذاكرة وخلافه.

عند اقتراب موعد مجئ زوجها تبدل ثيابها، تتزين وتتهيأ لاستقباله أحسن استقبال، تظل تجالسه وتمازحه وتداعبه و...
ربما يرضى ولكن...

مرت الأعوام وكبر الأولاد، زادت مسؤوليتهما عليها وحدها فأحمد اكتفى بدور البنك الممول وتلبية الاحتياجات المادية لكن لا علاقة له بأولاده...

ولا حتى بزوجته فلا زال دائم الصمت، متقوقعًا في حياته بعيدًا مهما تحدثت إليه لا يرد عليها إلا بالكاد، مهما مازحته أو دللته فكأنما لا تفعل شيئًا.

تجده في عالمه الخاص لا يأبه لها في أي وقت فعلاقته بها مجرد علاقة احتياج، إشباع جسدي ليس إلا.

ولا زال لديها الأمل أن يبادلها حبه، يتغير معها ويشاركها حياتها التي تشعر بالوحدة فيها، فلا يشاركها إلا ذلك الصداع الملازم لها، بالطبع من المجهود الشاق وقلة الراحة.

مرت الأيام وزاد المرض على هيام وصارت ليلى شبه مقيمة معها أكثر الوقت حتى إنها كانت تذهب لها ليلًا لتتأكد من أنها تحتاج شيء أم أنها نائمة.

في تلك الفترة عاد أولادها من جديد إلى المكوث طيلة الوقت مع جدتهما عليّة، قد ظهر الفارق السلوكي سريعًا على أولادها حتى إنهما لتغيرا عليها لكنها الآن مشغولة بمرض أمها، حتى أحمد أصبح ماكثًا عند أمه بصورة شبه دائمة.

ذات ليلة تسللت ليلى إلى أمها، فأحمد صار هو وأولادها مقيمون في بيت جدتهم ولا زالت تبث سمومها فيهم، كانت هيام نائمة فجلست ليلى جوارها تنفست بعمق، تفكر في حالها تارة وتنظر لأمها تارة، لا زالت ترن في أذنها كلماتها  «إن لم تجدي من يحبك وتحبيه فامكثي دون زواجٍ أفضل.»
ونزلت دمعة حارة مسحتها سريعًا حتى لا تستيقظ أمها على غفلةٍ وترى حالتها هكذا، لكن هيام كانت تشعر بابنتها وحالها الذي تخفيه خلف مزاحها وضحكاتها المزيفة.

رأت هيام نفسها تفتح عينيها لتجد نفسها متوسدة صدر رجالي، تشعر بيدٍ تطوقها وأخرى تتلمس وجهها وشفتيها، ابتسمت فهي تعلم من يكون، لن تنسى يومًا إحساسها به وبلمساته تلك كانت محفورة داخلها.

فهمست بسعادة: أحمد الحبيب، أخيرًا قد عدت، اشتقتُ لك كثيرًا.

فأتاها صوته العاشق: بل أنا من اشتاق لك أكثر حبيبة العمر، هيا بنا أعطيني يدك.

تحرك ليقف ممسكًا يدها لتنهض معه حتى نهضت.

فتحت ليلى عينيها لتجد نفسها نائمةً وهي جالسة فحركت رقبتها يمينًا ويسارًا، دلكتها وهي تتأوه ببعض الألم من أثر النومة الخاطئة.

نظرت في ساعتها فوجدتها السادسة، فصدرت منها شهقة!  لقد نامت ثلاث ساعاتٍ متواصلة عليها أن تستيقظ، الوقت قد أزف لتلحق صلاة الفجر قبل شروق الشمس ثم تيقظ أمها لتحممها، تصلي وتفطرها، تصنع الغداء، ترى إن كانت ستذهب لعملها اليوم أم لا حسب حالة أمها.

نهضت بالفعل، توضأت، صلت ثم اتجهت نحو أمها، لاحظت شحوب وجهها وشفتيها البيضاء وبشرتها شديدة البرودة، مهما نادت عليها ليلى أو هزتها لا ترد أو تستجيب، حاولت أن تشعر بنَفَسها أو بنبضات قلبها لكنها لا تسمع شيئًا ولا تشعر بشيء فتوجست خيفة، خطر ببالها أمرًا ما لكنها حاولت أن تطرده عن مخيلتها.

خرجت من شقة أمها مهرولة، نادت على زوجها بصوتٍ عالٍ وشديد، وجدته يخرج من شقة أمه متأففًا، صاح متذمرًا: ماذا هناك؟ يا فتّاح يا عليم يا رزاق يا كريم! ماذا جري لتصيحي هكذا في الصباح الباكر؟! لقد أفزعتيني!

صاحت فيه بانفعالٍ هيستيري: أمي يا أحمد! أمي لا تجيب ولا تتنفس ولا أشعر بأي نبضٍ لها.

مد ذراعيه بطولهما إلى جانبيه بتكاسلٍ وهو يتثآب مجيبًا بتبلّد: وماذا أفعل لها؟ أقيل لكِ أني طبيب لأفحصها؟!

-إذهب وتحرّك وأحضر طبيبًا فورًا!

بالفعل ذهب يبحث عن طبيب ثم أتى به، ما أن رآها الطبيب، فحصها حتى أقرّ بوفاتها.

كانت الصدمة شديدة على ليلى فهي وأمها لم تنفصلان طيلة حياتها، لا حتى بعد زواجها، لقد لحقت بأبيها لتصبح بلا أمٍ ولا أب.

عاشت ليلى فترة في أحزانها وحدها فلم يشاطرها أحدهم فيها، فمنذ متى وأحمد وأولاده مقيمين مع عليّة تاركين ليلى بمفردها، لا أحد معها لا أحد يخفف عنها، لا أحد يجبر خاطرها وكسرة فقدان الأم سوى عمها وصديقتها منى.

إن أولادها قد تغيرا عليها كثيرًا أما أحمد فلا يحتاج لتغيير فقسوته وتبلده قد اعتادت عليها منذ زمن، وإن كانت تستطيع في السابق التعامل معه بتسامحٍ ومعاملة بالحسنى ومهما تبلد كانت تزيده حبًا وحنانًا.

لكن الآن لا طاقة لها لأي شيء فهي التي تحتاج لحنانٍ واحتواء الآن لكن لا أحد حولها ولا حتى أبناءها.

كانت تذهب، تجلس في شقة أمها حيث أجمل ذكريات حياتها، صور والديها، رائحتهما تشعر بها تملأ المكان، كم عاشت أمها على ذكرياتها الجميلة! والتي لم تكف عن حكاياتها طوال حياتها حتى باتت ليلى تحفظها عن ظهر قلب.

فما أجمل هذا البيت! المملوء بالحب والود والراحة حتى بعد مغادرة أصحابه، وما أصعب الوحدة التي صارت تحياها ليلى!

أقسى أنواع الوحدة هي تلك التي تصيب الفرد وهو وسط أهله وآخرين محيطين به... لكنهم مجرد أعداد!

........................................

NoonaAbdElWahed

(قبل نهاية الطريق)   By : Noonazad Where stories live. Discover now