70.( أبو يوسف يعقوب المنصور الماريني)

72 6 0
                                    

" الرجل الذي أنقذ تراث الأندلس" (أبو يوسف يعقوب المنصور الماريني)

{إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
(اللَّه)


كنت واقفًا على قمة أعلى نقطة في مدينة مالقة الإسبانية، في قلعة يقال لها (القصبة) (Alkazaba)،  هناك كنت أتأمل بهذه المدينة الحصينة وأتساءل في قرارة نفسي: كيف لمدينة بهذا التحصين الطبيعي العجيب أن تسقط من أيدي المسلمين؟! فمالقة التي كانت المدينة القبل الأخيرة التي تسقط بيد الجيش القشتالي، ما هي إلا مدينة محصنة بالجبال الشاهقة من ثلاث اتجاهات، وبالبحر الأبيض المتوسط من الجهة الرابعة، ولكنني عند قراءتي لتاريخ آخر ملوك الأندلس، أصبح سؤالي الذي أسأله لنفسي: كيف للأندلس كلها ألا تسقط وبها أناسٌ بهذا الشكل؟!! ولا أقصد بهذا السؤال آخر ملوك بني الأحمر وحسب، بل أقصد الشعب الأندلسي قبل قادته، فلقد وصل المسلمون في تلك الفترة إلى مرحلة قصوى في حب الدنيا، وعندما يصل المسلمون إلى هذه المرحلة، لا بدّ معها أن ينهزموا، بل لا بد معها أن يُذلوا، ليحق اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وعده الذي ذكره في سورة التوبة، فهذه الكلمات تصف حال المسلمين في الأندلس قبل سقوطها بشكل يدعو المرء للاعتقاد بأنها نزلت في أهل الأندلس بالتحديد! فيقول تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التوبة: 38، 39]، أما رِضى الأندلسيين بالحياة الدنيا فقد كان، وأما استبدال اللَّه قومًا غيرهم فقد كان أيضًا، وأما يعذبكم عذابًا أليمًا فقد كان أعظم وصف لمحاكم التفتيش!
وبطلنا الآن ظهر في المغرب قبل سنيات قليلة من سقوط الأندلس، ولكنه ظهر أيضًا في نفس العصر الذي ظهر فيه (محمد الفقيه) أحد ملوك بني الأحمر، وواللَّه إنني لا أعتبر محمد الفقيه ملكًا مجرمًا ضيع الأندلس فحسب، بل إنني أعتبره شخصًا مسكينا لأبعد الحدود، فهناك من البشر صنفٌ غريبٌ للغاية، ملأ قلبه بحب الدنيا لدرجة الجنون، فأصبح كالمعتوه الذي يجري في الشوارع يمنة ويسرى يريد أن يلحق بالدنيا، فلا هو الذي كسب شيئًا من تلك الدنيا, ولا هو الذي كسب آخرته، ولا هو الذي كسب بياض الوجه في صفحات التاريخ, ومحمد الفقيه ينتمي لهذا الصنف من البشر!
فلقد قام هذا الملك ومن قبله من ملوك بني الأحمر بأفعال مخزية، كان لا بد معها أن تسقط فيها الأندلس بهذا الشكل الدرامي، ففي ظل كل هذه الهزائم والانكسارات انشغل بنو الأحمر ببناء "قصر الحمراء" الذي يعتبر وبحق أجمل شيءٍ مكانٍ رأيته في حياتي عند زيارتي لغرناطة، فقد احتجت لخمس ساعاتٍ من المشي في هذا المبنى الضخم للمشي في طرقاته وحدائقه فقط، حينها نظرت على جدران هذا البناء فوجدت أن بني الأحمر قد نقشوا على كل حجرٍ من حجارة الجدران والسقف عبارة "لا غالب إلا اللَّه"، فابتسمت في قرارة نفسي لعلمي بتاريخ هؤلاء الملوك المساكين الذين كانوا يتحالفون مع النصارى على بعضهم البعض ولسان حالهم يقول: "لا غالب إلا ألفونسو! ". وفي ظل ذلك الانحطاط الأخلاقي الذي وصل إليه المسلمون في الأندلس، كان لا بد للنصارى أن يتوجهوا بجيوشهم لاحتلال باقي مدن الأندلس، والتي لم يبق منها إلا "إشبيلة" و"غرناطة"، فما كان من محمد الفقيه ملك غرناطة في ذلك الوقت إلا أن يتوجه بجيشه ليساعد الصليبيين في حصار شيوخ ونساء وأطفال أشبيلية، وفعلًا سقطت إشبيلية بفضل خيانة بني الأحمر، فكافأه الصليبيون بأن توجهوا إلى مدينته لينتزعوها من حكمه، فلم يستطع هذا الملك الخائن أن يحاربهم، فشعبه تعود على السهر على ألحان "زرياب" الموسيقية، وقصائد الغزل الأندلسي، فأنى لشابٍ تربى على الأغاني الماجنة أن يحمل السيف في سبيل اللَّه، وأنى لشيخٍ تعود لسانه على قول: "أيها الساقي اسقني لا تأتلِ" أن ينادي حيَّ على الجهاد؟! عند ذلك استغاث محمد الفقيه بملك المغرب، وهو البطل المجاهد (أبو يوسف يعقوب المنصور الماريني)، فانطلق هذا البطل الإِسلامي المؤمن إلى نصرة إخوانه في الأندلس، فاستطاع هذا القائد الإِسلامي البطل بخمسة آلاف جندي مغربي أن ينتصر على جحافل الصليببيين في غرناطة، ليس هذا وحسب، بل استطاع أن يعيد تحرير إشبيلية أيضًا، وصدّق أو لا تصدق. . . . استطاع أن يحرر "قرطبة" والتي كانت قد سقطت قبل ذلك بعشرات السنين!!! كل هذا بخمسة آلاف مجاهد تربوا على الإِسلام الحقيقي، أما الذين تربوا على الرقص على ألحان زرياب، فقد ذهبوا مرة أخرى للصليبيين لكي يتحالفوا معهم لطرد القائد أبي يوسف يعقوب المنصور الماريني الذي جاء أصلًا لنجدتهم!!!! فانتصر أبو يوسف يعقوب المنصور الماريني على تحالف الصليبيين ومحمد الفقيه، ولكنه كعادة العظماء عفا عن محمد الفقيه، وترك له كل الغنائم التي غنمها من النصارى، وترك أيضًا حامية من مجاهدي المغرب الأشداء لكي يدافعوا عن المسلمين في الأندلس وقت الحاجة، وكعادة الجبناء خاف محمد الفقيه على ملكه، فتحالف مرة أخرى مع النصارى ضد تلك الحامية، ومرة أخرى أبحر إليهم أبو يوسف يعقوب المنصور الماريني لينتصر عليهم، واستمر الوضع كذلك ما بين خيانة الفقيه مع النصارى، وانتصار الماريني عليهم، ثم عفوه على الفقيه، حتى أدرك القائد المجاهد أبو يوسف يعقوب بن منصور الماريني أن الوضع ميئوس منه في تلك البلاد، أو كما نقول نحن الفلسطينيون بلهجتنا "صارت الحكاية مهزلة! "، ففي آخر انتصار له على النصارى عرضوا عليه الأموال والجزية، فرفض ذلك، وطلب منهم أن يعطوه كتب المسلمين التي استولوا عليها بدلًا من الأموال، وفعلًا تم له ذلك، وبذلك استحق أبو يوسف يعقوب المنصور الماريني أن يُكتب اسمه في سجل العظماء إلى يوم القيامة. وفعلًا ما هي إلا سنوات قليلة حتى تحققت رؤية هذا الصقر المغربي، فسقطت الأندلس، وأحرق المسيحيون كل كتب المسلمين، بعد أن حوّلوا مكاتبهم إلى كنائس!
ولعل البعض قد تساءل عن سر تكراري للاسم الطويل للقائد (أبي يوسف يعقوب المنصور الماريني)، والحقيقة أنني فعلت ذلك لغاية في نفسي، فلقد ظهر قبله بعشرات السنين، ومن نفس بلاد المغرب، عظيم آخر من عظماء أمة الإِسلام المائة، فكان -للمفارقة- بنفس الاسم الطويل ولكن بلقبٍ آخر!
يتبع. . . . .

100 من عظماء أمة الإسلامحيث تعيش القصص. اكتشف الآن