الفصل السادس

6.1K 154 3
                                    

الفصل السادس

ومضات .....
فرنسا ...
داخل المهجع الخاص بالطلاب والذي كان مخصص للمغتربين وهؤلاء الأجانب القادمون من خارج البلاد، كان ضوء الغرفة المشتعل يتحدى ظلام الليل الدامس وقد أشعله سلطان ليتابع مذاكرته فوق منضده قريبة من النافذة، كان يركز في السطور الفرنسية المعقدة ليزفر بقوة نازعاً نظارته وقد بدأ الصداع يزحف على أعصابه وصدغيه، نظر للساعة المعلقة والتي تشير للتاسعة مساءاً ليدرك أنه كان جالسا هكذا لأكثر من عشر ساعات ومن حقه أن يأخذ بعض الاستراحة، لذلك استدار بالكرسي يبعد نظره عن المكتب وبدلا من ذلك نظر للغرفة البسيطة حوله وقد كانت شحيحة الأثاث، فقط فراشين وطاولة ودولاب واحد بجوار باب الحمام وأباجورة طويلة للإضاءة في ركن الغرفة، أنها الغربة الموحشة، حتى وأن كُنت في أفضل بلاد العالم يظل طعم الغربة حنظلا مريراً لا يُحليه شيء، لا بديل عن فراشك ودفئ طعام البيت، وعلى ذكر طعام المهجع امتعضت أنفه وفمه على ذلك المعجون الغريب المسمى بالطعام وكذلك قرقرت بطنه بجوع فوضع كفه عليها وهو يهمس لنفسه:
-والله عرفت مقدار قيمتكِ يا أم السعد.
فُتح باب الغرفة مقاطعاً اشتياقه المرير ليطل وجه زميله العربي من خلفه وهو يبتسم بعبث:
-أبو السلاطين.
ابتسم له سلطان وهو يشبك يديه معا ويضعهما خلف رأسه بينما يرتاح أكثر في كرسيه:
-مرحبا طلال.
أقترب طلال بملابسه التي تدل أنه سيخرج لقضاء ليلة أخرى من ليلاته المثيرة ثم جلس على طرف مكتب سلطان:
-ألن تغير رأيك وتأتي معنا؟ سوف نذهب لنادي مشهور في المقاطعة المجاورة.
مسح سلطان على شعره وهو يستدير لزميله مشيراً بعينه للكتب المفتوحة على المنضدة:
-لا أذهبوا أنتم فمازال هناك بحث يجب علي انهاؤه قبل يوم الخميس.
-يا رجل أنها عطلة الأسبوع أرح نفسك قليلاً من المذاكرة.
ثم همس له بعبث وهو يلاعب حاجبيه:
-صدقني ماثيو يقول أن هذا النادي مليء بالصواريخ الجوية؟
مط سلطان فمه بتفكير وسأله:
-قلت صواريخ ها؟
هز طلال رأسه وهو يبتسم بمكر:
-أجمل مما تتخيل أخي.
مد يده وأغلق الكتاب المفتوح أمامه:
-أظن أن البروفسير أعطانا مهلة للأسبوع القادم من أجل هذا البحث.
-هذه هي الروح المطلوبة.
صاح طلال وهو يرفع يده في الهواء ليضرب كف سلطان الذي أسرع ينزع ملابسه ويستبدلها بأخرى
........
كان أحد النوادي المشهور وقد كان مظلما إلا من أضواء ملونة متراقصة، تزاحمت الأجساد شبه العارية على حلبة الرقص غير مبالين بالعرق ولا رائحة الخمور فقد كانوا في عالم آخر والموسيقى العالية تهز الجدران.

كان يجلس على أحدى كراسي البار وأمامه كأس من عصير فوار ليشعر بذراع طلال المتعرقة، بفعل رقصه مع الفتيات، تلف على عنقه من الخلف وهو يصرخ حتى يسمعه من الموسيقى العالية:
-هل ستجلس طوال الليل هنا يا رجل؟
ألتف له واقترب من أذنه ليصرخ له:
-لا تشغل بالك بي طلال، أنا مرتاح هكذا.
هز طلال رأسه بمعنى على راحتك ثم ألتف لساقي الحانة وصرخ طالباً كأسين باسم غريب لخمر فرنسي وعندما حصل على طلبه رفع الكأسين وصاح له:
-متأكد أنك لا تريد الغرق في هذا النعيم هناك؟
وأشار لمجموعة من الفتيات شبه متعريات فرفع سلطان كفه يصر على الرفض، ولم ينتظر طلال بل أسرع للفتيات التي استقبلوه بصراخ وضحكات مائعة، ابتسم سلطان بخفة وهو يرفع الكوب لفمه وكاد يغض فيه بسبب تلك اليد الناعمة التي مسدت كفه من الخلف، وقد كانت لمرأة فاتنة بمنحنيات سمراء مغرية، انحنت عليه وهمست بفرنسية مغوية:
-لما تجلس هنا بمفردك؟
رد عليها سلطان بفرنسية سليمة:
- شكراً .. لا أريد.
للحظة امتقع وجه الفتاة لتعاود الصراخ له ليسمع:
-لقد فهمت الأمر بشكل خاطئ أنا هنا مع صديقاتي من الجامعة لقد أوصاني صديقك بك.
وأشارت لبعض الفتيات الملتفين حول طلال والذي كان يرمي عليهم المال الأن، لم يرد سلطان لكنها دعت نفسها بنفسها وجلست على الكرسي المجاور له وهي تخبره بنبرة مغوية:
-ألن تطلب لي شيئا؟
حرك سلطان فمه بعدم رضا، ولكن لم يستطع التملص منها لذلك غمغم ببعض الملل:
-أطلبي ما تريدين؟
ألتفت للساقي بوجه متجهم من صده لها وهي التي عرضت منحنياتها بسخاء عليه:
-واحد من مشروبي المفضل ريو.
أخبرت الساقي الذي كان يلهث عليها وأسرع يصب لها مشروب وردي غريب، وعندما غادر عاودت سؤال سلطان:
-من أين أنت؟
أغمض سلطان عيناه للحظة ليستدير لها وأخبرها بجدية:
-يا آنسة لقد أخبرتك منذ البداية أنني غير مهتم لكن يبدو أنكِ لم تفهمي.
نهض تحت أنظارها المتسعة بحنق ووضع بضعة ورقات نقدية أمامها ليخبر الساقي:
-هذا حساب مشروبي أنا والآنسة.
ثم ألتف مغادرا المكان بخطوات غاضبة، نعم غاضبة من كل شيء، فمنذ جاء لهنا منذ عدة أشهر وقد تعاهد مع نفسه أنه لن ينزلق لهذا المنحدر الخطر، ولن يضع نفسه في منبع الشهوات كي لا تُزل قدمه، لكن ما رآه في الداخل كان فوق الطبيعي وضغط على أعصابه بطريقة لا يصدقها، وشعر بالفعل أنه سينزلق في هذه الهوة ولذلك أسرع يتدارك نفسه قبل أن يحدث ما لا يحمد عقباه.
خرج من النادي ليقف في نصف الطريق المظلم لاهثاً بقوة، وكأنه كان يصارع قوى شريرة كادت تتغلب عليه، شعر باهتزاز الهاتف داخل بنطاله فأخرجه ليجد اسم ياقوت ووجهها المبتسم ينير الشاشة، وكأنها لطف من الله ينزل عليه، حاول أن يعدل من هيئته قبل أن يرد على مكالمتها المرئية بوجه مبتسم:
-أهلا بأميرة عمها.
ظهر وجه ياقوت الطفولي مبتسم له بقوة وهي تلوح بيدها وعلى ما يبدو أنها في صالة البيت:
-أهلا عمي كيف حالك؟
ابتسم وهو يقترب من أحد الأرصفة ليجلس عليها غير مهتم بابتلاله:
-أنا بخير صغيرتي، كيف حالك أنتِ؟
كادت ترد لولا صوت أم السعد الذي وصل له:
-ياقوت هل هذا سلطان؟
رفعت ياقوت عيناها لأم السعد واجابتها:
-نعم أنه هو .
رأى الصورة تدور أمامه قبل أن تظهر له أم السعد بشكل مقلوب وهي تقترب من الكاميرا بشدة وتسأل ياقوت:
-لما عمك مقلوب في الهاتف؟
شخر سلطان بتسلية من أم السعد، وحتى ياقوت ضحكت وهي تساعدها في إعادة الهاتف لوضعه الصحيح وحينها هتفت أم السعد:
-أها هكذا.
ثم أبعدت الهاتف بصورة مبالغ بها:
-هل تراني يا ولد؟
قهقه سلطان وهو يهتف لها:
-قمر يا أم السعد.
ابتسمت ثم كشرت وهي تسأله بحدة:
-هل تتناول الطعام في بلاد الكفار هذه أم أنك جائع يا حبيب قلب أم السعد؟
قلب شفتيه كأنه طفل رضيع وهو يشتكي لها:
-الطعام هنا لا يسمن ولا يغني من جوع، أين روائع يديكِ.
-يا حبيبي، والله عند أول زيارة لك سوف أعيدك محمل بأطنان من الطعام.
دمدمت بفزع عليه لتسحب منها ياقوت الهاتف وهي تقول بحنق:
-هاتي يا أم السعد أنا المتصلة به أساسا.
رفعت أم السعد حاجبها بشدة وهي تحاول أخذ الهاتف منها صارخة بها أن تعيده لترفض ياقوت، بينما سلطان جلس هناك في شوارع فرنسا الباردة، فوق أحد الأرصفة المبتلة من مياه المطر، جالساً بروح منهكة وابتسامة خفيفة يشاهد العراك بينهما متمنيا أن يكون معهم هناك ...في الوطن.

توبة شهريارWhere stories live. Discover now