الفصل الواحد والعشرون "قبل الأخير"

3.3K 119 8
                                    


نحن في هذه الحياة ليست صدفة
وجودنا ما سيكمل الحكاية لأننا من ننسج خيوط النهاية
ولن تكتمل الحياة دوننا
قد يعبر شخص واحد بحياتك ليعلمك درس
فقد يعلمك الحب حتى لو لم تكتمل الحكاية معه
وقد يُعلمك الصداقة حتى لو كانت النهاية فراق
قد يكون وجوده في الوقت الخاطئ لفترتك القاسية ورحيله مناسب لحياتك القادمة
ويجعلك تؤمن أن الحياة تستمر حتى مع رحيل الجميع
وقد يكون نصيبك درساً قاسياً بمرورك أنت في حياة أحدهم
لكنك بالتأكيد
لن تدخل ولا تخرج من الحكاية خاسر
..
وصلت غسق لشقتها القديمة وحين فتحت بابها عاصفة من الذكريات ارتمت بوجهها، هذا البيت الصامت دون حياة كان يومًا يضج بالحياة..
بأبيها بأخيها وبأمها من قبل وكانت هي شعلته، هذا البيت كان يوماً دافئ فما له بات بارد كالصقيع هكذا؟!
هل تتغير البيوت عند رحيل سكانها، هل يحدث أن تصمت الجدران التي كانت تضمك من قبل.. هل يحدث أن تموت الحياة من بيتك وأن يضحى سكنك غربة.
وتقدمت تدور بعينيها في الأرجاء إلى كل ركن وزاوية وحين سكنت قدماها عند غرفة محمد وجدتها فارغة من كل شيء؟
مجردة من أساسها وكأنهم اغتالوها كما اغتالوا أخيها
وجمعت ما جاءت من أجله بعض من أشيائها الغالية عليها وأغلقت الباب خلفها للأبد ورحلت.. كانت الشمس قد توسطت سماء المدينة المزدحمة..
..
جلست غسق أمامه فكان يصغرها بالعمر لكنه كبقية رجال الجزيرة ثقة مفرطة تخالطها بعض الحدة ولكنها وبسبب ما كانت تكرهه ربما لعلاقته بقضية محمد..
"سمعت عن تركك للجزيرة!.. ألم تخافي أن أبلغ عنك شهاب الدين وبالأخص إنه صديقي؟ "
تحدثت بخفوت مقنع:
"لو أراد شهاب الدين أن يأتي بي كان سيفعل قبل أن تطأ قدمي أرض المدينة..."
"إنه ينتظرك"
زاغت نظراتها تصرف تفكيرها عن شهاب الدين الآن وهتفت بجدية:
"أعلم أنك تعرف الحقيقة كاملة وأعلم أن شهاب الدين من منعك من إخباري بها كما منع الجميع وأعلم أن شهاب الدين هو -القاتل-"
عقد غمار حاجبيه وأقترب من الطاولة يشبك يديه:
" ماذا تريدين يا سيدتي؟! "
هتفت بلوعة مكتومة:
" أريد معرفة سر أخي إنه من حقي"
زفر غمار بقوة، فتهتف غسق بالمزيد:
" ربما تبدو عديم المشاعر لإخفائك السر عن أخت قلبها مكلوم على أخيها... وربما أكرهك حقاً منذ الحكم بالقضية.. وأكثر بعد ما حدث بشقة محمد.. لكن تعلمت شيء من مكوثي مع شهاب الدين... حين يعطي ثقته لأحد فهو أهل للثقة..... "
" اسمعيني هذا الأمر لا يخصني؛
تقاطعه غسق بانفعال قاطع ضاربة بالطاولة
" أنا الآن أريد أن أعرف.. ماذا فعل أخي حتى يقتله شهاب الدين؟!..." ثم يخفت صوتها وتتجمع بعينيها غشاوة من دموع الرجاء "هذا حقي......"
يقف غمار حاسماً للأمر رغم تذكره لتلك التي سبق وتوعدته بالموت إذا أخبر أحد لكنه يرى الأمر من مكانه هذه الجالسة من حقها معرفة من يكون أخوها
"تعالي معي..... إلى القسم هناك سوف اطلعك على كل شيء "
....
جلست غسق وقلبها يخفق بخوف ها هي على شفى حفرة من الحقيقة أعطاها غمار كأس من الماء وجلس بالمقعد الذي يقابلها يناولها ملف ضخم وهذا القرص المدمج الذي سبق وعثرت عليه بشقة محمد
بينما تقرأ المكتوب كانت الدماء تنسحب من أوردتها مع صوت غمار الغاضب:
"اكتشفنا من مدة طويلة أن محمد للأسف واقع مع أحد العناصر الإرهابية... الأمر صادم لكِ أعرف لكنه ربما هو الآخر مجني عليه.. هؤلاء المجرمون يقومون بغسل أفكار ومعتقدات الشباب بأسماء عديدة قد يكون باسم الدين أو الوطن..
فما بال بلقمة سائغة لا يمكن الشك به كمحمد؟.. يعاني من الرهاب الاجتماعي لذا فمكوثه طوال اليوم بغرفته بين أربعة حيطان ينفذ خططهم عن طريق شبكات التواصل الاجتماعي وقد ينفذ بعض العمليات السهلة كوضع حقيبة بها متفجرات في محطة الاتوبيس ليلة حفلة تخرجك.....!!!
أو كصداقته لشهاب الدين لأجل تفجير آخر للجزيرة والتي مسموع كلمتها في مجلس البلد"
ما بال دموعها تتجمد ما بالها لا تصدق كلامه ولا تصدق كل الأدلة التي أمامها ما بال قلبها يكاد يتوقف!!
" لا أعلم بالضبط كيف ومتى استدرجوا أخيك لكنه نفذ لهم عمليتين وسهل لهم الكثير "
وتتذكر غسق العديد والعديد من تصرفات محمد الغير مفهومة والغريبة ليلة تركها في حفل تخرجها هل هو حقاً من قام بتفجير محطة الأتوبيس؟؟ .. والانفجار الذي تحدثت عنه فاطمة هل كان سبب به؟
"هذا القرص المدمج الذي أمامك يحتوي على أسماء العمليات التي شارك بها أخيك وأخرى كان يخطط لها.. وآخرها ما تصدينا لها في الجزيرة منذ أربع شهور لولا عثورك على هذا القرص بمساعدة شهاب الدين كان حدث تفجير جديد وضحايا آخرون حتى بعد موت محمد العمليات مستمرة"
وتكتم غسق صرخات بصدرها كادت تنفجر في المكان هتفت بحروف ضائعة:
" قتله؟ "
" نعم قتله شهاب الدين..... دفاعاً عن أرضه حاول أن يزجه عما يفعله وعندما لم يستسلم محمد طعنه شهاب الدين ولم يقصد قتله كان يريد فقط توقيفه.... لكن الفأس وقعت بالرأس نُفذت المهمة وقُتل أخيك وأصيب الكثيرون وسجن شهاب الدين "
" آسف لقول هذا لكِ"
آه يا محمد
آه يا أخي
لماذا فعلت هذا بنفسك؟
لماذا فعلت هذا بي؟
" كيف... كيف.... لم ألاحظ أي شيء على أخي؟؟.... كيف.. "
ولأول مرة يرق غمار لما تمر به هذه المرأة، الحقيقة المرة التي يخبرها إياها عن أخيها تكسر الظهر
ويهتف برفق شارحًا لها:
" غسيل الدماغ عملية تتم منذ زمن طويل يا سيدتي.. تغيير فرد عن قيمه وقناعاته وسلوكه... وتحرير فكري إقناع خفي وتلقين مذهبي وفرض عليه مبادئ جديدة لجماعة ما
كل هذا يقومون به ويستهدفون فئة معينة من الشباب يتم عزلهم عن المجتمع فما بالك بأخيك المعزول إجتماعياً دون جهد منهم كان لقمتهم السائغة "
...
وفي المدينة وحيدة بزحمة وضوضاء وإضاءة أعمدة وأصوات سيارات وفي لحظة تغيب معالم كل شيء تجلس على قارعة الطريق بفوضى وفي لحظة تريد أن تهرب بجنون إلى الجنون!
استنزفت كل ما تملك للبوح ولم يسعفها تحملها للوصول لأي مكان للانهيار..
رجوع الذكرى كعيش الحدث من جديد لكن بعين أخرى عين أشد قسوة للحقيقة التي لا مفر منها...
"شهاب الدين!!! "
هكذا هتفت بإسمه بهاتفها تصلها أنفاسه المتقطعة:
"غسق....."
وتهتف ضائعة مجروحة بحروف من الخزي يخالطها قهرها:
"ليتني ما عرفت"
ويدار جنونه به فيدور حول نفسه على صوتها :
"أين أنتِ...... سآتي لكِ في التو لا تخافي..."
"أخي كان......"
فيصرخ شهاب بها يقاطع حروفها:
" لم يكن خائناً ، كان أخوك فقط وليس شيء آخر"
وسمع صوت بكاءها المرتفع يعلو عن ضجيج المدينة وكأنه يصله من السماء :
"لم أعد أريد أن أعرف لماذا قتلته.."
صمتت تشهق بقوة وتسترسل بالنحيب
" لا أعد أريد أن أعرف من بدأ بالصداقة من خان الآخر منكما لم أعد أريد أن أعرف أي شيء... لن اسأل ثانية عن أي شيء "
ليتها أمامه في تلك اللحظة ليته يستطيع لمسها تقبيل دموعها إخفاء ألمها ومحو صدمتها بحضن طويل لا ينتهي ويهتف شهاب الدين كصرير الرياح من حوله يضرب بقلبه
" ارجعي لي يا غسق... ارجعي"
" لا تبحث عني.. انتهت الحكاية يا شهاب الدين يا كبير جزيرة السلاطين"
وضربت الكلمة بقلبه كما لم تفعل غسق به من قبل، فطعنات سكينها لم تكن أكثر ألماً من طعنات كلماتها
الثوب الأخضر وسلسالها
الجزيرة بكل ما بها ومدرستها
جواده أصيل وبحيرته وغروب الشمس
وليلة حلم بها برفقتها على ضفة البحيرة حتى طلوغ الفجر
الشيخ وليّ وقصة حبه وسهام دعواه
حفل الحصاد وقبلة البرتقال
فاطمة المحبة لها
وليلة أمس التي ادخلته فيها الجنة وايقظته على جحيم فراقها
-هذه هي غسق الغناتي الجنة والجحيم الحب والثأر كل شيء ونقيضه-
..
ولا تعرف كم مرت الدقائق وهي في هذا المكان أمام قبره..
لا تعلم هل يُعذب؟
هل غفر الله له؟
لماذا لم تلاحظ أي شيء لماذا لم تنقذ أخيها لماذا كانت عمياء وغافلة؟
"غسق...."
ارتعش قلبها للصوت ونهضت واقفة تدرك أن الليل بدأ بالحلول وأنها منذ ساعات على هذه الحالة
وارتجفت شفاهها
"أبـ......... ـي"
والخطوة التالية كانت ترمي نفسها بين ذراعي أبيها
"محمد يا أبي.... لن تصدق ما قالوه عنه؟؟؟"
ويربت أبيها عليها
"لماذا كُنتِ عنيدة يا غسق أخبرناك لا تبحثي عن سر أخيكِ لكنك ما سمعت لأحد...."
ابتعدت غسق ترفع رأسها المتعب لأبيها وتمسح الدموع عن وجهها بينما يخبرها أبوها بما لا تعرف
" هذا الرجل يحبك يا غسق.... وما كنت لأتركك معهم إلا أنني كنت مطمئن عليكِ برفقتهم.... شهاب الدين حفظ السر وفعل المستحيل حتى لا يشوه صورة أخيك بعينيك لأنه يحبك بصدق....
وجده جلس معي قبل أن نكتب كتابك وتحدثنا بشأنك..
جميعنا أردنا حمايتك وألا نجرحك يا غسق...  "
مسح أبوها على رأسها برفق
" هذا بلاءنا يا غسق رحمة الله على أخيك وغفر له "
نظرت غسق لقبر أخيها تودعه بدموعها وتردد على دعاء أبيها..
وعلى مشارف المدينة سألها أبوها للمرة الأخيرة
" لا زلت على قرارك يا ابنتي ؟"
أومأت غسق برأسها
تنظر للطريق الذي يؤدي إلى الجزيرة والطريق الآخر
وتهتف بقلب مكلوم
" سأرحل معك "
" حين كلمني شهاب هذا الصباح يخبرني أنك تركت الجزيرة أخبرته أن يمنعك لكنه طلب عودتي.."
ابتسم أبوها
"يبدو أنه كان يعلم ماذا ستختارين.... يبدو أنه يعرفك أكثر مني"
وانتهى اليوم وكانت غسق راحلة عن هذا البلد إلى بلد أخرى..
بلد الحب والدفء.. بلد ترميم الجروح!
………..

إذا كنت قاتلاً لا تحب Where stories live. Discover now