القطعة الرابعة و الأخيرة 🧩

10 0 0
                                    

عيناه الكستنائيان لم تفارق تلك البقعة الصفراء الباهتة التي عمرت عدد أيام عمره على ذلك الجدار المتصدع.


هالة من الحزن أحاطت به وجعلت الجو كئيبا وخانقا. عزفت أوتار الشجن موسيقى صاخبة تصم الآذان، والوحدة اكتنفت جنبات هذه الغريفة المعتمة. جعبة وجهه كانت خالية من التعابير، وشفتاه انفرجت ليتجلى صف من اللؤلؤ المكنون. كان في مرحلة متقدمة من السرحان، لدرجة أنه لم يعد يتفاعل مع المؤثرات الخارجية.


هو لم يزل على هذه الحالة منذ آخر محاولة له على الاِنتحار. سعت والدته لإخراجه من قوقعته كالعادة، لكن هذه المرة لم تكن كسابقاتها. لم تستطع استمالته بدموعها المفترات ولا بتوسلاتها التي كانت تحاول استعطافه بها عبثا. حتى طرف أخيه ماجد السامجة لم تعد تستجدي تمعره.


أمه تخاله مجرد شاب دمث، خجول، مترهل وضعيف الشخصية. وكذلك الكل أبصره من تلك الزاوية.


هم لم يدركوا أنهم أغفلوا جوانبًا في غور شخصيته، هو نفسه لم يتبينها .


وبينما هو سابح في ملكوته الخاص الذي اتخذه لذاته سبيلا للخلاص من عذابه النفسي، إذ بظلمة تغشاه وتطبق جدرانها عليه. لم يكن مجرد عطب في الإضاءة كفيلا بأن ينتشله من قعر شروده، إلى أن اخترق طبلة أذنه نشيج طفولي خافت. هذا الأنين الباكي أيقظ كل ذرة إحساس خبت فيه، انتفض على إثرها منقبا عن مصدره.


خطى وسط الظلام يقدم رجلا ويؤخر أخرى، إلى أن ساقه حدسه نحو حجرة أكثر دهمة. هناك علا النحيب وتسارعت معه وتيرة نبض فؤاد الشاب. وفي الركن انكمش طفل على نفسه، وظهره يهتز مع كل شهقة تنسل من وجدانه.


وعلى حين غرة رفع رأسه، ليفصح عن جذوة من نار أوقدت بمقلتيه اللتين تقاطرتا حممًا.


كان الصبي يرمقه شزرا، وسهام نظراته تكاد ترديه صريعا. لم يتمكن عناد من استيعاب الموقف إلا عندما وجد الصغير يمسكه من تلابيبه. وقف يحدق فيه بذهول؛ إنه يشبهه بشكل كبير وكأنه نسخة مصغرة منه. حتى ندبته التي على جبينه الأيسر، شاكله فيها. كان ذلك الصبي نحيلا و شاحبا لدرجة أن عظامه تبرز من تحت طبقة جلده الرقيقة.


هو مازال حاليًا في حالة الصدمة، التي مُحِيت حين خُدش وجهه من طرف مخالب الطفل، لتحدث جرحا عميقا بجانب حاجبه. انسحب عناد بسرعة جنونية ضامًا يديه إلى رأسه والدماء تهرق منه بغزارة، ثم صاح بانفعال:


- أنت متوحش، شرس. لا عجب أنك نبذت لوحدك في مثل هذا المنفى !



جحده الطفل بنظرات ساخطة أتبعها بزمجرة حادة:



- أنت هو الوحش الحقيقي الذي أحالني لهذه الحالة. أنت من صنعت مني غولا يتوارى خوفا من أن يتهكم الناس على بشاعته. أنت من دفنتني في جب النسيان وردمت قبري برمال الخذلان. كنتُ كزهرة ربيع، فبعثت إلي بزعزعان انكسارك لتزيل رونقي وتصرمني.

You've reached the end of published parts.

⏰ Last updated: Jul 26, 2020 ⏰

Add this story to your Library to get notified about new parts!

أُلَمْلِمُ شَتَاْتَ رُوْحِيْWhere stories live. Discover now