البَرْدُ، والسَّارِقُ

369 13 20
                                    

ما يميزُ مقهى الأجل من بينِ كل بقعِ البلدةِ أن قلبها يكمن فيه. لا يرتاد الأضداد هذا المكان لطيبِ مطعمه، ولا حلاوة مشربه، أو حتى لبساطة تكلفته؛ وإنما لأن القومَ حدث وأن يلتقوا هنا.
ولكنَّ ابنَ آلِ وحيدٍ لم يجرَّ قدميه إلى هذه الأرض ليلتقي بفلانٍ ويضحك مع علَّان، وإنما ليواجه الفَنَاء. والفَنَاء، اسمٌ صعب يحمله شخصٌ أصعب... عُرِفَ الرَجُلُ بعِلْمِه، وخاصَّةً فيما يتعلق بما وراءَ هذا العالم.

"ولربما يريد الفَنَاءُ أن يُطْرَبَ ببعض الغناء؟" سَألَ ضِدِّيٌّ شاب بصوتٍ كخرير الماء وأذنٍ واحدةٍ طويلة مدببة خلف رأسه، عيونه بلونِ ورقِ الجَرائد، كبيرةٌ ناعسة كالدمى. هذا الشابُّ من آل أسوَدْ. أدركَ ابنُ آلِ وحيد.
"ألا نملكُ غيرَ ابنِ الأسوَدِ ذاكَ مغنِّيَا؟ إن حدَثَ ونطقَ هذا الجدارُ ورائيَ بجملةٍ واحدة، سيخبرنا أن قد مل" تذمَّر رجلٌ برجلٍ واحدة بيضاءَ مكشوفة بلا أعين، ولم يحتج ابن آلِ وحيدٍ أعين الرجلِ ليدرك أنَّ انتباهه كان مرتكزًا على الفَنَاءِ الجالس بجانبه، فتذمره لم يستهدف به ابن آل أسودٍ فعلًا وإنما لكي يجذب انتباه الرَجِلِ الذي أسرَ اهتمام الحضور.
عَبَسَ ابن آلِ أسود، واقتربَ من الفَنَاءِ بخطواتٍ رقيقة متمايلة ليجلسَ أمامه "إن نطقَ هذا الجدارُ وراءنا، وقالَ أن قد مَلْ، فهو لأمرين، تذمرك، ورائحتك"

وسطَ رميِ الجملِ المتذاكية بين الضِّدَّين، وَجَدَ ابن آلِ وحيدٍ نفسه يبحلقُ بالفَنَاءْ، الذي بدا مسترخيًا يحدِّقُ في الاثنين بعيون متمعنَة. رغم انجذاب الأضداد العجيب للفَنَاء، إلا أنَّ ابنَ آلِ وحيدٍ عَجِزَ عن إيجاد الملفت في مظهره، هو قصير بعينين بلونِ ذرَّةِ الرمل الباهت، و.... لم يعلم، فقد كانَ هذا، ومخالبهُ المبرودة، كلَّ ما يميزه.

"اسمي ابنُ آلِ وحيد"

ولذا... لذا لم يعرفِ ابنُ آلِ وحيدٍ كيف يواجهه. فلم تبدُ عليه أي سماتٍ سهلة الفهم وبدء المواجهة منها غير أن الناس يعرفونه بعلمه عن ما وراء العالم، ما وراء قومِ الضد.
وأبسط فاتحة محادثة هي التعريف.

قَفَزَ قَلبُ ابنِ آلِ وحيدٍ عندما رَفَعَ الفَنَاءُ رأسَه، "اسمي ابنُ آلِ وحيد، وقد جئتُكَ بطَلَب"، أضافَ بمزيجٍ غريبٍ من الحزمٍ والذعر، بظهر مستقيم.
لم يُجِبِ الفَنَاءُ بصوته حتى مع مخاطبته، بل اكتفى بوضع رجلٍ قصيرة مستورة ببنطالٍ أبيضَ فوقَ رجله الأخرى، ريشُ معطفِه الأسودِ يتمايل مع الحركة.
ارتشفَ القصيرُ من كأسه، ولم يبعِد نظرته التي وصفها ابن آلِ وحيدٍ بينه وبين نفسه بالإبرة الثاقبة.
لم يستطع ابنُ آلِ وحيدٍ إكمال التواصل الغريب بين عينيه وعينيِ الفَنَاء، فوجَدَ بصره يجوبُ أنحاء المكان. لاحظَ أن قد صَمَتَ الكل، وأصبح هو محطَّ الأنظار.
أعينٌ من كلِّ نوعٍ تحدِّقُ فيه منتظرة، متربصة، أعينٌ بأجفانٍ وأعينٌ بدونها، أعينٌ تبرق، وأعينٌ تعتم، وهنا أدركَ ابنُ آلِ وحيدٍ أن الحضور، وإن لم يجلسوا أنفسهم في نفس الجلسة التي تضُمَّ صحبةَ الفَنَاء، حواسهم جلست، كل حركة يقوم بها الفَنَاء تهمُّهم وتدير أعينهم تجاهها.
أعادَ ابنُ آلِ وحيدٍ أعينه إلى ملكِ الجلسة، وتفكَّرَ بنفسٍ مرتعشة، كيف أنه يقف أمامَ كائنٍ من بعدٍ آخر مختلف عنه.

ابنُ آلِ نَفَسٍ |حيث تعيش القصص. اكتشف الآن