١٢

122 18 0
                                    

قصة 《 الباحثة عن الحقيقة 》 الجزء /12

فابتسم قائلاً: إن صحتي هي من أجل فائدتكم يا ولدي.قال هذا، ثم اعتدل في جلسته، و بدأ بالحديث قائلاً:
-لقد انتهى بنا الحديث في جلستنا السابقة إلى ذكر ترابط الموجودات و وحدتها، و شعور الإنسان تجاه إحساسه بهذا الترابط و بهذه الوحدة. فاعلما يا ولدَيّ أن الإنسان عندما يحس أنه جزء لا يتجزأ من هذا الوجود الرحب؛ نعم، جزء قد شد إلى الأجزاء الباقية كما شدت الأجزاء الباقية اليه؛ هذا الشعور، شعوره بالإنسجام الكامل مع ما حوله، يجعله يستشعر السعادة نتيجة إحساسه بأنه مسنود من قوة هائلة هيأت له كل هذه الأسباب و شدته إلى جميع هذه الموجودات، كما شدت جميع هذه الموجودات إليه. و لهذا، فهو لن يشعر بالغربة، و لن يحس الضيعة و الوحدة، ما دام قد عرف حقيقة و أسباب الإتحاد في المخلوقات التي حوله.  و على العكس منه ذلك الذي لا يعلم لماذا جاء و لماذا هو موجود، و ما هي أبعاد علاقته مع هذا الوجود الواسع الذي لا يكاد يساوي هو ذرة من ذراته. إنه، عندما يعلم مثلاً أن هذه الشمس الهائلة،  بكل ما فيها من عظمة و شموخ، إنما هي مسخرة للحفاظ على مصلحته، و هو عندما يعرف أن هذا الثبات الدائم في مستوى حرارتها البالغ ( اثني عشر ألف درجة فهرنهايت ) إنما كان من أجل الحفاظ على الحياة التي يحياها هو وسط هذا الكوكب الحي، و هو عندما يجد أن هذا البعد الذي يفصل أرضه عن الشمس و الذي يقدر بما يقرب من ( 000، 000، 39 ) ميلا، لم و لن يدخل عليه أي زيادة أو نقصان حرصاً على سلامة حياة كرته الأرضية التي يعيش عليها، لأنه لو نقص هذا البعد بمقدار النصف لاحترق جميع ما على هذه الأرض من شجر أو مدر، و لو تصاعد هذا الفاصل الذي بين الشمس و الأرض فصار ضعف ما عليه الان لكانت البرودة التي تنتج عن ذلك كفيلة بالقضاء على الحياة في الأرض؛ إنه حينما يعرف هذا، يشعر بالسعادة لتحسس أهمية وجوده في الحياة. و كذلك حينما يجد أن هذه الأرض التي تدور حول محورها مرة في كل أربع و عشرين ساعة، أن دورتها العظيمة هذه إنما صُممت خصيصاً بشكل يُمكّنه من الحياة، لأنه لو فرض أن هذه السرعة كانت قد انخفضت إلى مائتي ميل في الساعة لكان معنى ذلك هو أن يطول الليل و يطول النهار عشر مرات بالنسبة لما هو عليه الآن، فما الذي كان ينتج عن ذلك؟الناتج هو أن تحرق حرارة الشمس كل شيء فوق سطح الأرض؛ حتى و لو تبقى شيء لم يحترق، فإن برودة الليل الطويلة كفيلة بالقضاء عليه؛ إذن فإن توقيت حركة الأرض و تحديد زمان دورتها ما نظم بهذا الشكل إلا من أجل الإنسان؛ فما هو شعور الإنسان تجاه معرفته لجميع مقدمات الحياة الجبارة التي وُضعت من أجله؟ثم، البحار، هذه البحار التي تملأ ثلاثة أرباع الكرة الأرضية، لو حدث و كانت أعمق مما هي عليه الآن، و لو بضعة أقدام، فماذا كان سيحدث؟
لانجذب ثاني أوكسيد الكاربون و الأوكسجين نتيجة امتصاص الماء لهما. و ماذا يعني انجذاب ثاني أوكسيد الكاربون و الأوكسجين؟
إنه يعني الإختناق للإنسان و الحيوان. إذن فان هذه البحار الجبارة حُدد عمقها من أجله هو و من أجل سلامة وجوده في الحياة.  ثم هذه الأرض التي يعيش عليها الانسان و لا يكاد يحس بها سوى أنها أرض حجرية أو ترابية صلبة، و لكنه عندما يدرس أبعادها و يتابع خطوطها الجغرافية، يأخذه العجب لسعتها و قوة تحملها لما يرسو عليها من جبال شامخات و هضاب راكنات و لصمودها أمام جميع ما امتلأت به رقعتها من ماء البحار و الأنهار؛ ثم ماذا؟ لا شيء سوى أن ينصرف عن هذا التفكير إلى سواه، وقد امتلأت نفسه بالهيبة و الإعظام. فكيف به إذا علم أن هذه الأرض التي بهرته بعظمتها و صمود قشرتها قد صُممت قشرتها خصيصا بشكل يلائم مصلحته هو؛ فهو محتاج إلى نسبة معينة من الأوكسجين الموجود في الهواء؛ فلو كانت قشرة الأرض أكثر سمكا بمقدار عشرة أقدام مثلاً، لانعدم الأوكسجين من الهواء، إذ أن القشرة الأرضية كانت ستمتصه كله.و مثل آخر، عندما يرفع الإنسان رأسه إلى أعلى، ماذا سوف يرى؟ لا شيء سوى الغلاف الهوائي الذي يحيط بالأرض، فتسحره الزرقة الهادئة التي يعكسها هذا الغلاف في النهار، و تبهره الروعة المنيرة التي تبرز من خلال الكواكب في الليل .

الباحثة عن الحقيقة Where stories live. Discover now