نشروان

(3)

السكون يعمُّ عقلي، بطريقة ما أو بأخرى أكرم محق في حديثه، من الممكن أن تكون مجرد هلاوس فقط، أن تكون مجرد روح ابتدعها عقلي للخروج من صدمته.

شعرت بحركة مريبة خلفي، الطريق خالٍ إلا من بعض المَّارة، وجدتُها تسير بجواري، تنهدت بثقلٍ لم يعد وجودها يُقلقني تعوَّدتُ عليها كأنها إنسان حيَّ.

تنقلتْ عينياي على ضفاف النهر، مشهد الشمس وهي تميل للغروب يأسرني، نظرتُ لها وابتسمتُ بسخرية من الذي سيُصدق أن هناك جنيُّ أو روح تسير بجواري الآن والنهار باسطٌ كفيه، المريح في الأمر أنها كانت جامدة دون ملامح، والأهم أنها لا تبتسم..

جلستُ أُراقب السماء بهدوء، أغمضتُ عيناي ومُن ثُم قلتُ:

-لِمَ أنا؟

ليست المرة الأولى التي أُحادثها بها أيضًا، وكالعادة لا يوجد رد على أسئلتي سوى الهدوء، لكن هذه المرة سمعتُ صوت حشرجةٍ أثارت قلقي، التفتُ لأجدها تقف معطيةً إياي ظهرها وهي تُشير لنقطةٍ ما.

وقفتُ في عجلة وسارعت ناحيتها، ماذا! إنها تبكي!

يدها ترتجف، الدموع تملأ عينيها، هالتها المخيفة اختفت، عينيها الباهتة باتت تلمع، تشير لمكان ما، نظرتُ لعينيها يوجد بهما شيء غريب على غير العادة، تنقلتْ عينياي بين تلك النقطة وبينها، سارعتُ بالمشي حتى وصلت بينما هي خلفي متلهفة بصورة لم أعهدها.

كانت تُشير لحديقةٍ شبه خالية إلا من امرأة تجلس هي ورضيعها في زوايةٍ منها، صوتها يترنم بأنشودة هادئة والطفل يتبسم، نظرت لها فَلم أجدها، أعدتُ النظر للفتاة لأجدها تقف بجوارها، عيناها لا تتزحزح عن المرأة خصيصًا.

تراقبها وهي تغني لطفلها، ثُمَّ تبسمتْ!

دقَّ قلبي بعنف وسارعتُ لها، توقفتْ قدماي عن السير عندما وجدتها ترفع يدها في وجهي كي أتوقف، حالت بنظرها إليَّ وتحدثتْ لأول مرة:

-لا تخف، لن تمت. 

تصنمتُ في مكاني، هي تست.. تستطيع أن تتكلم!

نهضتْ الفتاة من مكانها ولم أسلم من نظراتها الغريبة، راقبتُها حتى اختفت من بعيد، جلستُ مكانها ونظري يتركز على نقطةٍ ما، نظرت لها فوجدتُها تجلس صامتة وعينيها اغرورقت بالدموع، هدوء عمَّ المكان حتى أخذت نفسًا طويلًا:

-سأجيبُكَ على أسئلتكَ.

وبدأت تسرد بصوت خافت.

                                     ***
   
١٨ مارس ١٩١٩.

نشرتْ الصحف خبر مهاجمة الثوار للقطار القادم من العاصمة، وكان به بعض الضباط والجنود ومن ضمنهم بعض أسر الضباط، فكان هجوم الثوار، وبلغ عدد القتلى الكثير.