الفصل الثالث

97 5 4
                                    


الفصل الثالث

*********
الهزيمة ليست قدراً كتب على المهزوم ،أو نصيباً لابد له أن يتجرع نتائجه رغماً عنه ..
ولا تقع مصادفة على حين غرة .. انما الهزيمة من صنع يد المهزوم .. أو بقيادة سلبيته العارمة .
انتفضت خلاياها .. ولأول مرة تشعر بالخزي يعربد في البهو الممتد .. لا تصدق أن أبيها يقف في سدة البهو بجوار المدفأة المغلقة .. غالباً ينتظرها .. فقلما يتواجد في البهو .. دوماً في هدوء غرفة مكتبه .
تجمدت مكانها .. تجذب أطراف ثوبها لأسفل .. حدقت في الدرج الذي يستوطن أبيها الفارع الطول يمينه .. مطرقاً برأسه نحو البوابة المعدنية الذهبية المتعلق بها باصابعه التي لا تكف عن الحركة بانقباض منفعل .. بينما يده الأخرى تتحرك بذات العصبية خلف ظهره .. بحثت عن أحد يحمل عنها ضغط الموقف .. فلم تجد إستدركت أن هناك أوامر من والدها أن ينفرد بها .. نعم ربما يتركهم يفرجون عن آرائهم الخاصة .. لكن بالنهاية هو شخص متحكم فخور بطريقته .. مثل جاد ربما هذا أحد الأسباب التي جعلته تمقت زوجها .. لا يترك شاردة أو واردة إلا عقب عليها .. نعم تبحث الآن عن ما جعلها تبغض جاد .. تنفست ببطء مطلقة الزفرات الحارقة التي بقيت لها في قلبها .. بعد ان أفرغت كل ما في قلبها من حقد على جميع رجال العالم على كتف صديقتها الأقرب لها شاهي .. صديقة طفولتها ، ومن علمت بكل مخططاتها الجنونية .
تخطت البهو أخيراً فقد بدا لها دهوراً من الأعوام ما تحركته ببطء حتى تصل للدرج .. متجاوزة مكان أبيها .. هرولت كطير له أجنحة عشرة تحملها لأعلى حتى لا يوقفها أمامه.
صدح صوت أبيها بنداء حاق بقلبها الإضطراب من مجرد سمعه :" انتظري ".
إنبرت نحو الرجل الذي ما زال لا يوليها جزء من إهتمامه .. فهتف في ضيق أكثر من واضح :" لقد تجاوزت حدودك كلياً ! ما هذه الحقارة ؟؟".
ثم استطرد يتمنى أن تتحدث حتى يطلق غضبه عليها :"من هذه اللحظة لن تغادر القصر .. اعتبرينه سجن لك جزاء رخصك ".
متهورة دوماً كمان كانت دائماً.. تحركت الدرجة التي كانت تعلق عليها قدم واحدة ..عادت تهبط توليه كل نظراتها .. هامسة :" أبي .. أسمعني ".
رنا نحوها بنظرة استهزاء محتقرة ثم ابتعد عنها مستطرداً:" لو لم تصعدي حالاً.. سأستدعي الحارس يحملك لغرفتك ويغلقها عليك ".
هتفت به في ضيق :" ناد الحارس .. لم أفعل شيئاً.. كنا نتحدث كما في أي مكان .. فحضر جاد وقام بالعرض الذي طالما تمناه حتى يأخذ ابنتي من أحضاني.. اسمعني أبي ".
طوح لها باصابعه مشيحاًالنظر كما هو يكشها كحشرة :" وأنا لا رغبة لي في الكلام معك فهو بلا جدوى تذكر".
تحركت بجرأة نحوه .. قابضة على يده القابضة على البوابة المعدنية .. نظر لكفها الصغير محدقاً.. وجد ظل يدها الناعمة عندما كانت وليدة تقبض على ابهامه تمر أمام عينيه.. سحب يدها كأنها مصدر للنجاسة .. متحركاً بعيداً .. همست في غمغمة مؤلمة :" جاد السبب .. كم كرهته .. لم يكن خياري .. كان خيارك انت ".
هتفت بحقد :" كم كرهته .. وكرهتك ".
حدق بها في صدمة تجتاحها عينيه الرمادية معقباً:" لقد فشلت في تربيتك ".
بدأ يتخطى الدرج يرتقيه لكنها قررت منعه .. صعدت في هرولة جنونية تقف أمامه تمد ذراعيها في استقامة تسد الطريق معترضة :" لن أتركك قبل أن نتكلم معاً".
قبض على معصمها يريد ازاحتها بهدير صاخب :" ابتعدي .. لن اتحدث معك .. لن اترك آذاني تتلوث بقذارة مبرراتك .. مثل لم أفعل شيئاً.. ضعي نفسك مكان جاد .. بادلي معه الأمكان حتى تعلمي الإجابة ".
تذكرت ضيقها الذي عانق حوفها من وجوده داخل الشقة خشيت أن يكون بالفعل قد حضر مسانداً لزوجة عنان بناء على طلبمنها .. اشتعلت الغيرة في قلبها لمجرد ظنها أن هناك علاقة خاصة بينهما .
ارتخت يده المهتزة بانتفاضة حول معصمها .. لكنه لم يفلتها .. استطرد :" لن تخرجي من هنا إلا في حالة واحدة .. ان يكون لك زوج ".
عملت على سحب معصمها من قيد يده القوية بقسوة مذعورة هاتفة :" لا .. لم أكن مع عنان في فراش .. ولم أخون جاد .. ولن أطلب من عنان أ إرتباط ".
رفع كفه الأيسر نحةو أعلى .. لم تتفادي تلك الصفعة التي هوى بها على وجهها ..، فطوحت وجهها الجهة الأخرى .. كانت قوية لدرجة جعلتها تترنح حتى جلست على الدرج .. بينما نشيجها يقتات على الدمعات .. في حين مال عليها في ضيق ومازل معصمها في قيد يده :" أنت في حكم الجميع خائنة .. قمامة النساء .. لا يحق لك الإعتراض .. وحتى شريك جريمتك لن يرتضي بك زوجك .. قد يسير معك .. تدفئين فراشه .. يبصق عليك غرائزه .. إنما زواج .. ويمنحك أسمه لا تحلمين ".
طوح يدها بعيداً ، ارتطمت بالحاجز المعدني الجانبي للدرج .. صدح صوتها بصرخة ألم .. جعلت امها التي كطانت بالقرب .. تسير في رعب .. تفرك كفيها .. تركت مكانها لتهرول نحوه تحمي ابنتها هاتفة :" سيندم جاد على فعلته بابنتي .. ولولاك ما كانت ابنتي عاشت تعيسة ".
هبطت نحوها تقبض علي كتفيها ترفعها .. تحميها من ابيها ثم تردف منهية الحوار :" سيأتي عنان ويطلبها .. ونحن من نحدد شروطنا لتكون ابنتنا سعيدة ".
سخر منها بصوته المشقوق الروح :" سأصفق لك لو حضر بزهوة أمه ليطلبها .. لكنك لا تعلمين حتى صديقاتك ".
سارت مبتعدة بابنتها تهتف في ضيق :" سترى .. سيأتي .. لكن دعني أنا انفذ هذا الأمر بطريقتي ".
وقف جامداً في مكانه يحصي خسارته وكيف ينجح بإنقاذ سمعته .. تمتم في تأكيد :" افعلي ما تريدين .. لكنها لن تخرج من هنا إلا وهي زوجة .. تعود لجاد أو تتزوج عنان .. لم يعد اهتمامي بها .. وبعد هذا اليوم لن تصبح ابنتي ".
وقفت عاجزة أمام ابيها لترى خطاياها تدور حوله بدأ من هرولتها خلف عنان .. والإنصات لصوت الشيطان الكامن في صوته .. حتى أخر شيء هو ارسال رسالة لزوجته .. استدركت شيئاً.ز هتفت به في انتفاضة :" هاتفي .. معه ".
حدقت أمها بها وهي تأخذها لأعلى تهمس في آذنها :" هيا يا صغيرتي .. أمك ستحل لك جميع مشاكلك ".
تمتمت في ضيق من نفسها .. كيف نسيت هاتفها كل هذا الوقت .. فبه كل احاديثها المكتوبة والصوتية .. سحبت نفسها من يد أمها .. تهرع للخارج .. بينما امها تصرخ فيها :"أين ذاهبة ؟!!".
خرج صوتها خائف :" سأعود .. هاتفي معه ".
انطلق صوت أبيها في صراخ حاد :" أرأيتي ابنتك .. تربيتك يا هانم ".
خرج صوتها بقسوة :" هذا بدلاً من ان ترسل خلفها أحد يرعاها بدلاً من ان يستغلها احد ".
تحرك للصعود دافعاً إياها بظاهر يده .. فهذا الدلال الذي جعل الخراب يحط عليهم .. متمتماً:" هي من تستغل الجميع .. ابنة عاقة .. حقيرة .. سترى في الغد أن لا رجل سيحترمها ".
يعلم أن هناك صفوف متراصة من الكلمات تقف كحد السيف المسموم تقف على حافة لسانها تتمنى إطلاقها عليه لتبعدها عنها .
***************
بعد طعام العشاء**
دلف زين قاعة الطعام التي تحولت لقاعة اجتماعات في جزء خلفي منها .. حيث تم تهيئة الوضع لمنضدة عملاقة يشغل رأسها جاد العزازي بهيئته الوسيمة ، وهيبته المفرطة بدون ان ينازعه عليها احد .
تحرك نحو أخيه ساحباً مقعد بقوة زمجرت معه قوائمه احتكاكاً مع الأرض الرخامية المصقولة .. جعلت أخيه يرنو إليه في تحدى هاديء .. مال على اخيه يهتف في ضيق :" القاعة صارت نظيفة من الفوضى .. نظفتها بنفسي لأن هذا مكاني ".
امتدت أصابع جاد النحيلة يسحب المحرمة الورقية المطوية بعناية جوار طبقه .. فضها يمررها على شفتيه بهدوء ناعم .. دلالة على إنهاءه الطعام .. والإجتماع أيضاً أن صح التعبير .
بدأ جميع المدراء ينهجون نفس السلوك إلا زين سحب محرمته ليضعها على قاعدة ساقيه .. فيما صفق بكفيه بعناد طفولي مستدعياً الخدمة .. نظر الجرسون نحو كبير الخدمة .. الذي نظر بدوره حتى ينال الأمر من جاد الرئيس الجديد للمكان .. ، فأمره بايماءة قصيرة .
تقدم نحو زين منحنياً بتهذيب .. مدركاً ان قواعد القاعات في مواعيد الوجبات معروفة .. بل مقدسة كتقليد شامخ لدى كل القرى التي تحترم روادها .. ويعلم ان اليوم هو استثنائي لوضع الإدارة .
طوح زين له يده بكبرياء متعنت ، وعناد متعجرف .. كان جاد يحاور المدراء في الترتيبات الجديدة بينما عينه تلتقط ما يحدث من أخيه بصمت :" أحضر لي قائمة الطعام ".
مال الرجل الأصلع الرأس المهندم الزي الرسمي .. ثم مد يده نحو الخلف .. أحضر له أحد مساعديه القائمة وضعهل في يده .. حركها نحو المنضدة هامساً:" سيدي ".
اخذها زين .. بدأ النظر فيها .. ثم اختار شيئاً مانحاً رئيس الخدمة القائمة الورقية الفاخرة:" أجلب لي طبق فوتوتشيني بالجمبري .. وحساء الفطر ".
تحركت عينا الرجل في محاولة البحث عن إجابة :" هذا الطبق غير متواجد بالمطعم حاليا حالياً سيدي ".
نزع زين المحرمة ملقياً إياها باندفاع نحو المنضدة الممتدة ..مهدداً بصوت خفيف حمله الضيق بعد تأكده من قلة النزلاء المتواجدين بالقاعة .. أغلب العملاء يفضلون العشاء في المطعم الأخر حيث الموسيقى الصاخبة ..:" ماذا تقترح على أي عميل عندما يطلب طبقاً ، ولا يجده .. هل تقترح مثلاً أن يغادر المكان ليحجز في مكان أخر ".
أجابه الموظف :" سيدي اليوم عشاء خاص بناء على طلب السيد الرئيس .. اعددنا أطباقاً خاصة .. وموعد المطعم هنا ينتهي من ساعة ونصف .. لوائحنا معروفة .. لا مجال للخطأ في عملنا .. نحن محترفين ".
وقف زين في محاولة لإثبات نفسه في المكان :" لا أظنك تقصد أننا نحن الغير محترفون .. نحن العنصر الجديد هنا ..أليس كذلك ؟!!".
انحنى الرجل أكثر في تمتمة معتذرة :" لا سيدي .. لا أقصد هذا .. بل . بل ".
رفع جاد في هذه اللحظة اصابعه نحو العامل حتى يغادر .. شاكراً إياه :" شكراً لك .. أنتم بالفعل محترفون .. ونحن نفخر بوجودكم معنا ".
هتف زين بغضب :" لا .. لن يغادر .. فليبلغني ما يقصد بالضبط ؟!!".
حرك جاد عينيه في عدم راحة .. مال نحو أخيه :" اجلس وتعامل بهدوء ".
ارتفعت حدة غضبه :" أي هدوء هذا .. تنصف عامل علي صاحب المكان ".
ارتفع جاد على قدميه واقفاً ..منتصباً بقامته الفارعة .. اغلق ذر سترته المفتوح بتهذيب .. ثم أطلق تنبيهه للمدراء :" اعذرونا يا سادة .. جيد أننا انهينا الخطوط الرئيسية .. في الغد أريد الحسابات على مكتبي وأيضاً كل فكرة ستكون قابلة للطرح والمناقشة .. نريد أفكار تنفيذها يكون أكبر امكانية على أرض الواقع ".
تجاهل أخيه وتلك التصرفات الصبيانية .. جعل الحريق لا يخمد في قلب أخيه .. بل وقف ندا لجاد .. المقارنة حتى في المظهر أتت ظالمة لزين .. بياض بشرته ونعومته جعلت جاد يبدو أمامه كطود من جلمود أثمد فخور بذاته على بريق بشرته الحنطية ..
انتفض صوته محذراً:" لابد ان نحل موقفنا وهذا الرجل يغادر المكان ".
مال عليه جاد مضيقاً عينه فقد بلغ الزبد الربى في هذه اللحظة .. هدر مهدداً بصوت هامس :" لا .. لن يغادر .. الأمر لي .. هو لم يخطيء أنت من حضرت في وقت بعد إنتهاء العشاء ".
استقام بهدوء .. مصفقاً بيديه .. يفض المكان .. بالفعل بدأت الأقدام تتحرك مغادرة .. ربما لم يعلمون طريقة قيادته .. لكنه منذ وضع قدمه في المكان .. أثبت للجميع أنه جدير بالقيادة .. ثم معه تفويض إداري من صاحب المكان الأصلي .. فكيف يعارضونه .
وقف زين ندا لأخيه الأكبر .. الأطول ببضع سنتيمترات لكنها لاحت للجميع حتى له .. اشعرته تلك المسافة الصغيرة بالتقزم أمام أخيه .. هتف بضيق :" كيف لك لا تطرده .. لقد تعمد ..أم أنك أنت من أردت صنع هذا العرض ؟!!".
ابتسم جاد فاتسعت شفتيه لتطل اسنانه البيضاء مغيظة أكثر لزين حيث بدت كقرش صغير مستعد ليلتهم أخيه .. تمتم من بين اسنانه :" لا تفعل الصغائر ثم تلقي على غيرك باللوم ".
هتف زين في القاعة الخالية إلا منهما :" كان لابد لك من نصرتي ليغادر ".

أسميتها وطن  (نصف الفصل الرابع كل اربعاء)Where stories live. Discover now