2

504 32 1
                                    

فى هذا اليوم كان على عبد الدايم أن يبيت في المشرحة، ففي تلك الأيام كان النظام المتبع، أن يبيت أحد عمال المشرحة فيها كل ليلة طالما هناك جثث بها .. لذا كان العمال يتناوبون المبيت فيها .. ظل هذا الأمر معمولاً به لسنوات طويلة، حتى انتهى الأمر بعم منصور إلى المكوث بالمشرحة بصورة دائمة، حينها انتهى نظام الدور مكتفين بوجود عم منصور..

كانت ليلة صيفية أخرى، وكانت الساعة قد تجاوزت العاشرة مسا ء .. مازالت حرارة الجو مرتفعة، والرطوبة في عنفوانها خانقة لاتمرح .. كان نهار ذلك اليوم شديد الحرارة، ويبدو أن هذا القيظ سيستمر هكذا طوال الليل..

خلع عبد الدايم جلبابه وصار بملابسه الداخلية .. أخد يدندن بعض الأغاني النوبية، وهو يُعد لنفسه كوباً آخراً من الشاي الثقيل .. انتهى منه، ثم خرج من المشرحة متجهاً نحو الحديقة الصغيرة الموجودة خلف المشرحة، متلمساً في فضائها المفتوح بعض النسمات الباردة ..

بدت السماء حالكة السواد صافية، وتناثرت في أرجائها الكثير من النجوم دون أن يسطع قمرها .. إنه آخر يوم في الشهر العربي فلا تنتظرن قمراً يافتى ..

وجلس عبد الدايم على كرسي خشبي جلبه من قلب المشرحه .. وضعه في منتصف الحديقة، وأخذ يرشف الشاي الساخن باستمتاع وتلذذ ، دون أن يلتفت إلى الناموس الصغير الذي يلسعه من حين لآخر .. هذه أشياء اعتاد عليها مُذْ كان في بلاده أسفل الشلال، فلم تعد تؤرقه أو تثير انتباهه..

غاب في تأمل السماء الصافية، وهو يتذكر الليالي النوبية الحارة، تذكر جلسات السمر الصيفيه الليلية حول الأخشاب المشتعلة التى كانوا يشوون الذرة الخضراء في قلبها، وعادت لذاكرته الحكايات التي لاتنتهي عن الأجداد وبطولاتهم، وحكاياتهم عن القبائل الزنجية الهمجية القادمة من الجنوب، والتي طالما دارت بين قومه، وتلك القبائل المعارك العظيمة والتي كانت تنتهي في الغالب بانتصار قومه، ودحر الغزاة مرة أخرى نحو الجنوب ..

لقد ولّت أيام البطولات الحقيقة الى الأبد ولم يعد باقياً إلا الشتات.

تذكر داره الطينية الصغيرة التي تلاشت هي وقريته كلها الآن؛ لأن بحيرة السد قد غمرت وأغرقت كل شيء خلفها .. لقد تم ترحيل أبناء النوبة إلى أماكن جديدة شمالاً .. لكن أي مكان، ومهما كان حلواً ، لم يكن ليعوض أي منهم عن بلادهم السمراء الذهبية التي امتدت حكاياتها وجذورها لآلاف الأعوام.

استغرق حيناً في تأملاته .. لكنه خرج منها حين لمح بطرف عينيه ظلاً ما يتحرك خلف الباب الزجاجي للمشرحة.

نبض قلبه بقوة .. ودون أن يشعر حبس أنفاسه بترقب، وهو يتطلع إلى الظل البشري الذي بدا واضحاً من انعكاسه من خلال الزجاج الداكن لباب المشرحة ..

ألجثة ألخامسةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن