الفصل السابع

13.4K 814 84
                                    


تنحنح بصوت أجش قبل أن يدخل عندما سمحت له مرحبة ..فرغم رفقة كلبه الهادئة إلا أنها كانت تخافه .. دخل مباشرة إلى الحمام وغاب لحظة.. ثم عاد متجها نحوها لتدرك أنه حتى لم يغير بنطاله الذي كان ما يزل أثر البلل ظاهرا عليه ..
مد كفه أمرا : يااللاه ع الحمام .. الحمد لله أن السخان رغم أن مفيش كهربا بس لسه محتفظ بشوية ماية سخنة .. غيري هدومك.. أنا چبت لك هدوم نضيفة ..
حاولت النهوض متحاملة على قدمها المصابة .. خطوة والثانية ..ولم تستطع أن تعقبها بالثالثة .. ما دفعه ليقدم ذراعه لتستند عليها وهمست متسائلة : أنت ليه بتعمل معايا كل ده !؟
هتف في لهجة باردة ووجه يحمل قسمات صلبة : عشان أنتِ ضيفة عندنا .. وإحنا بنكرموا ضيوفنا يا دكتورة ..
وصلت لباب الحمام وتحاملت على نفسها حتى دخلت وأغلقت الباب وذاك الكشاف الذي وضعه بداخله قد أضاء جوانبه ما جعل أمر بقاءها به محتمل ..
دقائق وخرجت وقد أصبحت أفضل حالا .. وخاصة بعدما استشعرت الدفء يسري بأوصالها بعد حمام الماء الساخن والملابس الجافة النظيفة التي تحمل عبقا عجيبا ..
تحاملت قليلا متخذة الجدران سندا حتى استطاعت الوصول لموضع جلوسه أمام الركوة بصحبة كلبه..
جلست وعلى الرغم من إدراكه لحضورها  إلا أنه لم يرفع ناظريه إلى موضعها وكأنما يتحاشى النظر إليها .. كان هناك أمر ما غريب تدور رائحته بالمحيط حولهما .. لقد رحل عنها بوجه .. وعاد من البيت بالملابس والكشاف بوجه أخر مغايرا تماما..
هتفت تسأله : هي الدكتورة سميحة فين!؟
أكد في هدوء محاولا جذب ناظريه بعيدا عن محياها : نايمة .. واخدة حباية منومة ونايمة من حوالي ساعتين ..
هتفت متعجبة : الهدوم دي بتاعتها .. مش كده !؟
لم يرد على سؤالها بل دفع لها بكوب من شراب دافئ كان يحضره على الركوة أثناء تواجدها بالحمام لأن الموقد الكهربائي بالمطبخ لم يكن صالحا للاستخدام ..
هتف في هدوء مصطنع ورغم اضطرابه الذي كان يحاول جاهدا إخفائه بمهارة شديدة والذي استشعرته بحدس أدهشها : أعتبريها بتاعتها ..
هم بالنهوض ليزيد من فحم الركوة .. فسقطت عيونه عليها وهي ترتدي هذه الملابس .. ليدرك أنه ما عاد يحتمل البقاء هاهنا ..وأنه يشعر باختناق عجيب ..
فاندفع في اتجاه الباب مغادرا وهتف وهو على أعتاب الإستراحة : أنا بره يا دكتورة لو عوزتي حاچة ..
خرج صافقا الباب خلفه في عنف .. كأنها تتعقبه وهو يحاول الهرب منها .. أغضبها الخاطر المزعج وآثار حنقها .. لكنها تحاملت قدر استطاعتها وهي تدخل لحجرة النوم وتغلق عليها بابها حاملة ذاك المرهم والرباط الضاغط اللذان احضرهما معه لتعالج بهما قدمها الملتوية ..
جلست على الفراش تدهن المرهم وتلف الرباط الضاغط على موضع الإصابة وأخيرا تناولت حبة المسكن التي تملك بحقيبتها وتمددت تفكر في هذا الرجل العجيب الذي تستشعر بحدسها أنه يخفي سرا عظيما..
           ****************
رفع الغطاء الصوفي عن قدمه لتصل إشاعة الشمس الشتوية الدافئة إلى عظامه الواهنة ..
شاركته زهرة المجلس وهي تضع أمامه صينية الشاي وبعض قطع من كيك "الرواني" .. ربت على كفها المحازية لكفه وساد صمت ناعم بينهما ..
تطلع إليها عندما وجدها تضع كفها على موضع قلبها فهتف متسائلا : إيه في !؟ .. تعبانة ولا إيه !؟
هتفت تطمئنه : لا متقلقش ..دي نغزة خفيفة كده .. وراحت لحالها .. تلاقيني منمتش كويس إمبارح ..
هتف متطلعا نحوها : تلاجيكي شايلة الهم زي عادتك ..
ابتسمت له ليستطرد متطلعا إليها في محبة : فاكرة لما دخلت عليك فمرة لجيتك بتبكي.. عشان حال مهران .. وأها .. بفضل الله مهران حاله زي الفل ..وبعدها على حال ماچد واللي چراله .. وأهاا كمان ماچد تمام وهو مرته كيف الجط والفار ..
ابتسمت لتشبيهه ليستطرد مكملا : وسندس يا عاصم .. والبت يا عاصم .. وأهاا .. چالها واد عمتها المچنون ..وخدها وخلفوا شوية مچانين .. وراثة من سهام اختي ربنا يديها الصحة وتچنهم كمان وكمان ..
قهقهت زهرة على أقواله ..ليستطرد معاتبا: دلوجت شايلة هم مين واچع جلبك غيري يا چميل !؟ ..
ابتسمت متنهدة : طب بزمتك ..حال عاصم عاجبك !؟ ..
تنهد بدوره وهو يتطلع لحفيدتهما زهرة التي ظهرت بمجال رؤيتهما ملوحة لهما من بعيد وهي في طريقها لغرفة القراءة وهتف متحسرا : يا عيني عليك يا ولدي .. جلبه مكسور يا زهرة .. أني واعيله .. بيموت من چواه ولا يبين .. بس إيه اللي بيدنا .. الجلوب وما تريد .. وكله نصيب ومتجسم .
هتفت زهرة متحسرة : صدقت يا عاصم .. ربنا يريح باله .. ويجبر بخاطره ببنت الحلال ..
همس عاصم : يسمع منك ربنا ..
مدت زهرة طبق الحلوى لعاصم ليتناول قطعة هاتفا : هاتي .. اهو نحلو مرار العلجم اللي فحلجنا على الجلوب اللي كاويها العشج .. وكله فاكر نفسه حويط ومداري ..
هتفت به زهرة : اديك انت اللي شايل الهم أهو !؟
أكد عاصم وهو يلوك قطعة من الحلوى : طب نعملوا إيه بس !؟ .. والله لو كان بيدي لأجوزهم واللي يحصل يحصل .. بس لا هي هتهون عليا ولا هو هيرضاها على نفسه ..
هتفت زهرة : كله بالرضا يا عاصم .. مبقاش الغصب ينفع اليومين دول .. أيامهم غير أيامنا ..
تطلع عاصم نحوها هامسا في مشاكسة : بس كان أحلى غصب فالدنيا .. تنكري !؟ .
قهقهت مؤكدة : هنكر بعد إيه بس !؟ .. بعد ٣ عيال و٨ أحفاد .. ده أنا أبقى ضلالية..
تعالت ضحكات عاصم وشاركته إياها في محبة ..غير مدركين أن صاحب حديثهما يقف في لوعة متطلعا من نافذة حجرته المشرعة إلى حيث مجلسها المعتاد وكأنه طقس لتعذيب الذات .. طالت وقفته لكنه ترك موضعه خلف النافذة وجلس على حاسوبه وبدأ ينقر على أزراره في قوة:
" قلبي .. ذاك الجرح النابض الحي بين حنايا صدري والذي اذا طاب وسكن .. مات" ..
                          شيخ العاشقين..
اغلق الحاسوب متنهدا، ربما تهدئ تلك الكلمات التي يطرحها من جوفه بعض من تلك النيران المستعرة بين جنبات روحه ..
           ***********
خرجت سجود من الحمام الخاص بالغرفة هاتفة بنوارة التي كانت تعدل من فراشها قبل أن تدخله : إيه الهدوم الغريبة اللي أنتِ غسلاها فالحمام دي يا نوارة !؟ .. دي مش هدومك !؟ .. جبتيها منين وليه بتغسليها أصلا !؟
تنهدت نوارة وهي تدخل تحت الغطاء الوثير هاتفة : دي مش هدومي فعلا .. ولازم أرجعها مغسولة بعد ما لبستها ..
هتفت سجود في فضول : طب مقلتيش هدوم مين !؟ وإيه اللي خلاكي تلبسيها !؟
تذكرت نوارة ما حدث معها البارحة واستشعرت دفئا عجيبا يسري بأوصالها ما أن تذكرت كيف كانت محمولة بين ذراعيه رغم بللها والصقيع الذي كان ينخر عظامها.. وكيف دثرها واهتم بكل كبيرة وصغيرة حتى التواء كاحلها .. رغم غرابة هذا الرجل .. إلا أن بعض من إنسانية تختبئ خلف هذا المظهر المتعجرف والصوت الأمر والوجه العبوس ..
هتفت بها سجود ربما للمرة الثالثة لتوقظها من خواطرها .. تنبهت نوارة أخيرا لتهتف بها سجود في تخابث طفولي : لا الموضوع فيه إن ولازم أعرفها ..
هتفت نوارة وهي تجذب الغطاء عليها جيدا مستمدة الدفء: لا إن ولا أخواتها .. مفيش موضوع من أساسه .. كل الحكاية إني وقعت فالطين .. ودي هدوم من الدكتورة سميحة بدل هدومي اللي اتبهدلت مش أكتر.. أي سؤال تاني يا غلباوية !؟
تعجبت سجود هاتفة : بس دي هدوم شبابي شوية على دكتورة سميحة دي !! أنتِ مش قلتيلي فمرة أنها تقريبا فالخمسينات ..
تنبهت نوارة لهذه النقطة ..كيف لم تفطن لذلك !؟ حتى رائحة العطر التي كانت تفوح من الملابس .. مختلفة عن ذلك الذي تستخدمه الدكتورة سميحة فعلا ..
لم ترد نوارة على تساؤلاتها بينما شعرت سجود بالإحباط .. فقد اعتقدت أن فالأمر حكاية عاطفية تشبع نهمها لحكايات القلوب العاشقة .. لكن كيف لهذا أن يأتي من جانب هذه الجزارة عديمة المشاعر!! 
هكذا نعتتها سجود كالعادة وهي ترحل مبتعدة عنها عائدة لفراشها .. وفتحت إحدى أغانيها العاطفية تردد معها في انسجام تام.. تاركة نوارة تدعي الخلود للنوم لكن عقلها ما يزال واعيا تماما.. يعيد كل لحظاتهما معا .. منذ أن هل عليها بعد انقطاع التيار الكهربائي بلحظات .. حتى رحلت صباحا مبتعدة بعد أن وصلها عبدالباسط بالسيارة أخيرا عند فتح الطريق  بعد ذاك الحادث المؤسف ليلا.. كان جالسا على صخرة ضخمة جوار باب الاستراحة وقد راح في سبات عميق مسندا رأسه على حائط وقد بات ليلته هنا بالقرب منها حتى لا تشعر بالذعر .. لكنه نهض راحلا عند بزوغ الفجر .. رأته من شباك حجرة نومها عندما قلقت فجرا .. لتجده على هذه الحال .. بعدها بدقائق شاهدته ينهض راحلا قبل أن يعِ أحدهم اين بات ليلته .. أغمضت عينيها.. وراحت مع كلمات الأغنية الحالمة.. ليسبقها محياه لأحلامها ..عنوة.
              **************
همست سعيدة التي كانت تتمدد على مرتبتها الموضوعة أرضا بأحد أركان تلك الحجرة الوحيدة التي تجمعها وبناتها مستفسرة : البيه حسه حلو جوي يا سماحة ..
كان يونس يشدو في أريحية وهو يتطلع لتمام القمر بدرا بسطح البيت مترنما :- عنيكي تحت الجمر.. كيف الكلام والخوف
فيهم كلام للجدر.. مداري مش مكشوف..
بودى أزرع شجرة.. شجرة حنان وضل
ترخى عليكي يا سمرة.. وتلم شمل الكل ..
همس سماحة متنهدا : إيوه ياما .. عاشج وبيحلا له سهر الليل يفكر فاللي ناسيه ..
همست سعيدة مهمهمة : عاشج !؟.. طيب .. ربنا يجرب بعيده ..
همس سماحة متمهدا: رفضته ياما .. طلبها وجالتله لاه.. وچه هربان على هنا ..
همست سعيدة : ومين يجدر يهرب من جلبه!! ..هيروح فين ووچعه مرافجه يا ولداه ..
تنهد سماحة : نامي ياما .. ربنا يريح جلبه وجلوبنا...
همست سعادة متخابثة : وانتِ جلبك ماله يا سماحة!
تنهد سماحة مؤكدا : جلبي !؟.. جلبي مدفون ياما تحت هم كيف الچبل ما بيتزحزح .. عرفتي جلبي ماله ياما !؟
تنهدت سعيدة في حسرة : ربنا يعين ويساعد.. نام يا سماحة .. نام ..
أدارت سعيدة ظهرها لسماحة الذي ظل متمددا على ظهره يتطلع لسقف حجرتهم المعرش بأعواد الخشب الصلبة يتناهى لمسامعه شدو يونس الذي ما زال يترنم وحيدا على سطح الدار ..
       ********************
الرفاق حائرون .. يفكرون .. يتساءلون في جنون .. حبيبتي أنا !؟ ..من تكون حبيبيتي! من تكون حبيبتي !؟ .. حبيبتي أنا !؟ ..
هتف بالأغنية الشهيرة أحد الضباط من أصدقاء منتصر متهكما عليه محاولا مناكفته.. وبدور تمر بالبوابة مصادفة مع إحدى صديقاتها ..التي ابتسمت لذاك الضابط في خجل ابتسامة على استحياء ..
تنبهت بدور لتلك الابتسامات المتبادلة فهمست لصاحبتها : هو فيه إيه !؟ .. أنتِ تعرفي الظابط ده !؟ ..
هزت الفتاة رأسها إيجابا هامسة في وله: أه.. بنحب بعض وهايجي يخطبني أول ما أخلص الترم ده ..
هتفت بدور مشاكسة : والأغنية اللي اطربنا بها دي ليكي !؟  متخليهوش يغني تاني وحياتك ..
قهقهت كلتاهما لتنفى الفتاة مؤكدة : لا مش ليا .. ده بيغيظ صاحبه اللي جنبه ..
تنبهت بدور .. فقد كان منتصر هو صديقه الذي يرافقه والذي تعمدت تجاهل وقوفه بالبوابة من أساسه كأنها لا تعرفه ..
وهتفت في فضول قاتل : ليه !؟ هو صاحبه بيحب واحدة ومداري عليهم ولا إيه !؟
أكدت الفتاة : محدش عارف .. بس اللي حصل يوم المظاهرة بيقول كده ..
هتفت بدور في صدمة : ايه اللي حصل يوم المظاهرة !؟
هتفت الفتاة في حماسة : بيقولوا أن الظابط ده اختفى في عز المظاهرة من بين القوات.. ولما سألوا عرفوا إنه خرج بعرببته وساب المظاهرة عشان يلحق بنت كانت معاه فالعربية .. البنت دي محدش عرف هي مين .. بس الكل من ساعتها بيقول إنها حبيبته اللي محدش يعرف عنها حاجة ولا هو لمح حتى إنه بيحبها ..

زاد العمر وزواده .. ميراث العشق والدموع ٤ Where stories live. Discover now