الفصل العاشر

522 44 1
                                    

الفصل العاشر

بموعد الزيارة الأسبوعية كانت "مريم" تجلس بمفردها في غرفة الانتظار بانكسار لأول مرة، فلطالما اعتقدت أن حياتهما سويًا تهمه كثيرًا ، إلا أنها كانت مخطئة في حكمها على البشر لأول مرة  فهو لم يكترث لحديثها ذلك ولا لمحاولاتها بالعبور بحياتهما لبر الأمان، أخبرته المكان والموعد إلا أنها وحدها كما كانت دائماً، لتتمرد دمعة خيبة الأمل منزلقة إلى وجنتها تاركة ندبة جديدة بقلبها،  تنهدت بقوة تأسر جيش العبرات المندفع وهي تهمس لذاتها محفزة : اجمدي يا "مريم" محدش يستاهل دموعك دي، زيارتك دي تخصك إنتِ وبس  لازم تِخِفي منه، ومن حبه اللي أمتلك روحك، اجمدي يا "مريم".
ليأتيها صوت مساعدة الطبيبة وهي تردد باسمها بابتسامة عملية : أستاذة "مريم" الدكتورة في انتظارك.
تنهدت "مريم"  بقوة وحسم وشموخ وهي تنهض من مجلسها ملتقطة حقيبة يدها قاصدة غرفة الطبيبة "صفا".
ولجت "مريم" إلى الداخل ولم تستقبلها "صفا" كعادتها بل كانت تحتل مقعدها بابتسامة واسعة وهي تشير نحو المقعد المقابل لها مرددة بجدية : اتفضلِ يا "مريم".
جلست "مريم" بابتسامة خفيفة، لتستطرد "صفا" بود كبير : إيه الأخبار؟
أومأت "مريم" برأسها برضا وهي تردد : الحمد لله، بس أنا عايزة أنهي الجلسات بتاعت "يحيي".
قطبت "صفا" جبينها بدهشة مرددة : ليه؟!
أجابتها "مريم" بانكسار قوي غلف أحرفها : مش هدخل حرب أنا الخسرانة الوحيدة فيها يا دكتورة.
ضيقت "صفا" عيناها بتساؤل هامسة: يعني إيه؟
تنهدت "مريم" بأسى مرددة : مش مهم الحرب الجاية هتكون أقوى بكتير، هتحتاج مجهود أكبر مني ومن حضرتك.
حركت "صفا" رأسها باستفهام  وهي تلهو بقلمها الجاف مرددة بهدوء : مش فاهمة يا "مريم" تقصدي إيه؟
تمردت دمعة حارقة من أحداق "مريم" وهي تردد بوجع قوي : هحارب عشان أخف من "يحيي" يا دكتورة، عشان أنساه حتى لو هدوس  على قلبي.
لتجد من يردد بعتاب قوي : عايزة تخفي مني يا "روما"؟
حركت رأسها يمينًا ويسارًا تبحث عنه بلهفة، لتجده يحتل تلك الاريكة بابتسامة عاشقة، لتنهض من مقعدها بعشق جارف وينهض هو أيضاً فيلتقيا سوياً بعتاب عاشق وهي تردد بوجع : قلبي وجعني منك يا "يحيى" لو كملت معاك وأنت كده هموت كل يوم وكل...
لم يُمهلها تُكمل كلماتها فأطبق على شفتيها بسبابته مرددًا بفزع عاشق : بعد الشر عليكِ  يا نبض قلبي.
طوفت معالمه بأشواق عاصفة وهي تُزيل سبابته عنها مرددة ببكاء : بحبك قوي يا "يحيى" بحبك قوي.
وألقت بجسدها بين ذراعيه متشبثة به بقوة وهي تردد بتوسل : متسبنيش يا "يحيى" مش هقدر أكمل من غيرك، والله ما هقدر. 
حاوطها "يحيى" بذراعيه بعشق وهو يدمغ قبلته على رأسها مرددًا بوعدٍ صادق : عمري ما هسيبك لو آخر نفس في عمري.
هنا حمحمت "صفا" بحرج شديد وهي تطرق رأسها أرضًا لينتبه "يحيي" " ومريم" التي دفنت رأسها بين أضلعه بخجل شديد، لتردد "صفا" بجدية : بعد ما  أنا واستاذ يحيى اتعرفنا على بعض، ها يا أستاذ" يحيي" نقدر نبتدي الجلسة دلوقتي.
ارتسمت ابتسامة "يحيي" بجدية وهو يربت على كتف "مريم" متجهًا صوب طاولة مكتب "صفا" ليجلسا مرددًا بترحاب : أه طبعًا، اتفضلي اسألي كل اللي يخطر على بال حضرتك.
حركت "صفا"  رأسها برفض وهي تحتل مقعدها هي الأخرى مرددة : أنا هنا عشان أسمعك، وأكيد عشان أناقشك في كل اللي بتقوله، شوف تحب تبدأ منين؟
مط" يحيى" فمه بلامبالاة مرددًا : عادي، أي حاجة من هتفرق.
لتستقر أنظاره نحو تلك التي ترمقه مستجدية رفقه بها وبقلبها النابض بأحرف اسمه، ليرسل لها ابتسامة مطمئنة وهو يعود بأنظاره نحو الطبيبة مرددًا بهدوء : "نجاة".. أو ده الإسم اللي اديته ليها، ماهي كانت ليا طوق نجاة في أصعب أيام حياتي، إنسانة لا أعرف اسمها ولا شكلها طبطبت عليا وخدت بإيدي في عز ما كنت بغرق  الموضوع ده ابتدآ من بعد وفاة أمي بأيام  كنت متحطم، يائس، كاره الحياة بدون أمي. أمي اللي  لو كانت طلبت عمري كله كنت اديه ليها بطيب خاطر، أمي اللي قصرت معاها وملحقتش أكون جنبها في آخر أنفاسها في الحياة، اللي معرفش تعبت وهي بتفارق ولا روحها طلعت بسلام، بس أنا متأكد دلوقتي إنها ارتاحت بسلام، ما هي كانت ست مؤمنة، محافظة على كل فرض ونافلة، وبتصوم اتنين وخميس طول السنة، وتزكي وتتصدق، ومع كل ده ربت طفل يتيم لوحدها.
أبويا عمل حادثة ومات وهي في الشهر السابع، تخيلي اللي عاشته وشافته عشان تعمل راجل زيي.
كانت "مريم" تتابع حديثه بعبرات منهمرة كسيل جارف، وبقلب تمزق إربًا، تود أن تضمه إلي صدرها علّها تخفف عنه آلامه وأوجاعه.
بينما كانت "صفا" تتابع حديث "يحيي" وانفعالات "مريم" النفسية استرسل هو بوجع تمكن من أوتاره الصوتية: مكنش هين اللي عاشته، ومكنش سهل عليا أعيش من غيرها، فكرت في الانتحار وفشلت،  خوفت من ربنا وغضبه، في الوقت ده كانت بتوصلني رسائل كتير على الماسنجر من أكونت اسمه زهرة الصبار  وشرد "يحيي" بتلك الأيام.
 
أيام كان المُخيم الأساسي بها الحزن والوجع، الاشتياق واللوم، اليأس والقنوط، كانت هيئة "يحيي" مثيرة للشفقة فلحيته أطلق لها العنان هي وخصلات شعره ليشكلا نموذجاً حياً لإنسان الغاب البدائي، وثيابه  العفنة التي لم يبدلها لأيام طويلة، رائحة بقايا الطعام التي جذبت الحشرات إليها كفيلة أن تسبب اختناق قوي لأي بشري، إلا أنه اعتاد عليها  كالهواء المعبأ بدخان سجائره الكثيف.
استلقي "يحيي" بفراش والدته الذي لم يبدله منذ وفاتها ليدوي هاتفه باستلام الرسالة المائة من تلك "زهرة الصبار " ليزفر زفرة ساخطة وهو يرمق هاتفه بطرف عينه مرددًا بغضب قوي :
- زن زن زن.. ده إنتِ لو مراتي مش هتبعتي كده، أنا هعمل بلوك.

بقدر الحب نقتسم... كاملة . لولو الصياد حيث تعيش القصص. اكتشف الآن