١٠_الفصل العاشر (نزال متكافئ.. قليلًا)

4.8K 189 29
                                    

"نعم إنها هي، والدة سيلا هي نفسها حبيبة خطيبك السابق!"
حدقت به بصدمة للحظات وهي تحاول استيعاب العبارة التي ألقاها بمنتهى البرود حالًا، وعندما استطاعت العثور على صوتها أخيرًا تساءلت بخفوت:
_ماذا تعني؟!
لكنه لم يرُد مُقررًا إعطاءها فرصتها كاملة حتى تدرك حقيقة الأمر، فتابعت هي مُتسائلة بهدوء شديد يحمل تحفزًا واضحًا رغم الذهول البادي على محياها:
_أتعني أنك تزوجتني أنا بالذات كي تثأر من رمزي؟
صمتت قليلًا ثم شَرَدَت بعينيها مُستأنفة:
_أتعني أنني لم أكن بالنسبة إليك وسيلة لدفع ثمن سرقته للملف فقط؟، بل كنت البديل العادل؟!
ثم صمتت مرة أخرى وحاجباها يرتفعان في ذهول من بدأ يدرك الوضع حقًا مُرددة بِهمس سمِعه بسهولة:
_هو أحب زوجتك فأخذت أنت خطيبته!
وعلى الرغم من شعوره للتو ببعض الندم، على الرغم من أنه بدأ يُدرك_فقط_ هذه اللحظة أنه رُبما تسرَّع قليلًا، وعلى الرغم من أنه الآن بدأ يرى الأمر بعينيها هي؛
وبالرغم من الرفض الذي صرخت به دواخله لِما تفوهت به؛
والاعتراف الصامت المقترن بالتكذيب بأنه لم يتزوجها لذلك السبب الذي يبدو أكثر الاعتقادات بديهية؛
فإنه لم يكن ليتراجع؛
ولم يقوى على الرد بالإيجاب كاذبًا، أو بالنفي لشيء لايزال له مُبهمًا!
فغِرت فاها دهشة ثم نظرت له مُتسائلة بخفوت:
_أنا كنت مجرد بيدق في لعبتك مع رمزي؟
وتابعت بنبرة أعلى قليلًا وهي تقترب أكثر:
_أنا كنت كغنيمة حربك ضده؟
ووقفت أمامه تمامًا مُحدِّقة به بِغضب قائلة:
_لقد كنت أحاول كتم صوت صراخ كرامتي التي تبكي كوني رضخت لابتزازك وأخبرت نفسي بأن فِعلة رمزي جعلتك تخسر الكثير بِعَمَلك وأنا مُضطرة أن أنقذ عائلتي بزواجي منك، والآن تخبرني بكل بساطة أنني كنت مجرد بدل؟
لكنه_راغبًا_ في محو هذا الألم الذي انتشر على وجهها اتخذ قرارًا متهورًا لم يكن بحسبانه..
وحفاظًا على صورته أخفى انفعالاته وابتسم بسُخرية ثم قال بتشديد:
_بالنسبة لفِعلة خطيبك فهي قد جعلتني أخسر الكثير حقًا، لكنني لا أُلقي بالًا لتلك الأمور، الماديات يمكن تعويضها.
سكت هو وانتظرت القادم بقلق فتابع بكل قسوة:
_لكن ماذا عن طفلتي التي تسبب هو في تخريب حياتها؟ ماذا عن طفلة تؤمن بأن أمها لا تحبها؟ وماذا عن خيانته لي؟ وبالطبع لا أعني خيانة الأمانة بالعمل!
ازدردت لُعابها وهي ترمقه بضياع تُقلب كلماته بِذهنها؛
ماذا يعني أن رمزي هو من تسبب بتخلّي والدة سيلا عنها؟
لقد.. انفصل رمزي عن حبيبته منذ سنوات..
وبحساب بسيط تستطيع أن تدرك أن ذلك الانفصال كان قبل ميلاد سيلا بعام على الأقل؛
وهو حتى وقت قريب كان سيتزوج منها هي لكنه اكتشف أنه لا يستطيع الارتباط بسواها..
هذا معناه أن...!
يا إلهي!!
وبأنفاس مُتسارعة سألته وتكاد تتوسله ألا يُجيبها:
_متى طلقت زوجتك ثائر بك؟
جمدت نظراته فارتعشت دقات قلبها بِرهبة ثم تابعت بتوضيح أكثر:
_قبل أم بعد أن قابلتني؟
لا تُجِب!
أرجوك لا تُجِب!
لا أريد أن أعرف..
لا أستطيع أن أتخيل انحدار رمزي إلى ذلك المستوى؛
لقد اتهمته بالخيانة لكنها عَنَت خيانة الأمانة؛
لقد ظنت أنه أنهى ارتباطه بها لأنه لا يستطيع التخلي عن حب الأخرى، وللسخرية.. شعرت عليه بالشفقة!
لكن.. يبدو أن الأمر ليس بأكمله نظريًا، ويبدو أنه لم يكتفِ بالحب عن بُعد!
لم تعتقد مُطلقًا أنه قد اتخذ خطوة في ذلك الطريق المُدنس!
لم تعتقد أن رمزي حينما أنهى ارتباطه بها، كان زامعًا على إحياء ماضيه!
_يوم أن تقدمت إلى والدك طالبًا الزواج منك!
شحب وجهها أكثر وعقلها يصرخ بها أن تغلق الأبواب أمام القادم؛
سيل مثل هذا إن انحدر سيجرف الجميع معه.. وهي بالمقدمة!
لكن السيل لم يكن ليمنحها فرصة للابتعاد قبل أن يجتذبها أولًا، لِذا اقترب أكثر قائلًا بتشديد:
_لكن أعتقد أن السؤال الذي لا تريدين إلقاءه هو.. لماذا طلقت زوجتك؟
وبشبه ابتسامة تابع:
_أليس كذلك؟!
هَزَّت رأسها نفيًا.. ورفضًا..
كالمغناطيس تجذبها عيناه؛
وكالحديد تحدق به بثبات؛
أيذوب المغناطيس؟!
أيحترق المغناطيس؟!
أيتألم؟! أيتوجع؟!
أيخجل؟!
لاعنًا نفسه حاول مجددًا السيطرة على  انفعالات انتصرت عليه ثانية، متمنيًا ألا تكون قد لاحظتها! ولما واصلت هز رأسها رفضًا تجاهلها قائلًا بلهجة تتقتر الحمم أسفل قشرتها الثلجية:
_لقد طلقتها لأنها لم تحب سوى ذلك اللص، ولم ترد أن تعيش معنا، بل ولقد انفصلنا فعليًا منذ ثلاثة سنوات عندما اكتشفت أنا ذلك، يوم أن فَقَدت صوابها تمامًا لمَّا رأته أمامها مُصادفة!
وأضاف بكلمات لامبالية ظاهريًا، جامدة، هادئة أكثر من الطبيعي:
_ثم اتفقت هي معه على أن يسرقا أحد الملفات من الشركة كي تساومني على طفلتي، ولم يتردد ابن عمك المحترم!
تخشبت مكانها لِوهلة، ثم تراجعت إلى الخلف بخطوات مُتثاقِلة؛
وللمرة الأولى تهرب من النظر بعيني أحدهم؛
للمرة الأولى تخاف من عيني أحدهم؛
لكنها.. يُسْر!
على الفور عادت بنظراتها المهتزة إليه ثم أومأت برأسها ببطء هامسة:
_الآن فهمت!
والرفض تعاظم بِداخِله، لن يسمح لها أو لِسواها بالشفقة عليه، هو ليس بِضعيف ولا يحتاج لذلك.
لِذا هتف بحنق تراه لأول مرة:
_لم تفهمي شيئا، لستُ مولَعًا بانتقام تافه أو ما شابه كما قلتِ، لأن الانتقام للضعفاء وأنا لست بضعيف!
وعاد الثلج.. وانطفأت الحمم، وبعنفوان مهزوم استطرد مُشددًا:
_ أنا وهي كنا سننفصل بالأصل وتأخَّر الأمر كثيرًا، وسيلا بالفعل تحتاج إلى من تحتل مكانها، ثم ظهرتِ أنتِ فرأيت أنكِ مناسبة، أنتم مدينون لي على أي حال!
تفهمت حنقه؛
تفهمت تحرُّجه؛
تفهمت الضربة التي تلقاها في كرامته، ورجولته؛
مثلها هو؛
يُطابق كبرياؤه كبرياءها؛
يُماثِل اعتزازه بنفسه اعتزازها بنفسها؛
وإن كانت هي قد تضررت كرامتها بسبب نبذ رمزي لها وهو مُجرد خاطبها ولم تشعر تجاهه بأي شيء مميز؛
بِمَ يشعر هو بعدما نبذته زوجته أُم ابنته من أجل آخر؟!
لِذا هو لا يحتاج إلى تعاطف، ولا إشفاق، بل يحتاج إلى نِد له، وهذه هي مهارتها وصنعتها الأثيرة..
وهنا ؛
في بيته؛
ستكون حَلَبَة تنافُسهما!
وبلحظة استعادت قِناعها البارد المماثل لخاصته، مُتسائلة بهدوء:
_ألا ترى أنك تصوغ الأمر بطريقة منمقة زيادة عن اللازم؟
ثم أضافت السُخرية:
_قُلها ثائر بك ولا تشعر بالحرج!
وعادت للاقتراب، باستيعاب كامل للصورة هذه المرة:
_أنت احتجت مُربية لابنتك ووجدتني بطريقك فاختصرت الوقت والبحث، مُربية وزوجة في وقت واحد، لن يضيرك الأمر، ربما كي تدرك زوجتك السابقة أيضا أنك قد تخطيتها سريعًا.
سكتت ثم مطت شِفتيها وقالت بتمهل:
_مكاسب على جميع الأصعِدة!
هدوؤها يستفزه؛
برودها يُثير أعصابه؛
لامبالاتها تسعى لاستخراج أسوأ ما به!
هل يدعها تنتصر؟
لن يكون ثائر الجوهري إذن!
بادلها اقترابها بمثيله.. وبادلها برودها بأشد منه..
وزَفَر ببطء قائلًا:
_ليس بالضبط، أنتِ هنا مسئولة عن سيلا فقط، دورِك يقتصر على الاهتمام بها ورعايتها، لا أريد أي شكوى منها بسببك، أنتِ لستِ سِوى.. مُربية بِعَقد شرعي!
والابتسامة الساخرة سرقها منها مُردِفًا عامدًا إلى محو برودها واستقطاب غضبها، متجاهلًا الرفض الذي تصرخ به خلجاته بتحذير:
_أما بالنسبة إلى دورِك كزوجة فأنا أعفيكِ منه، لا أحتاجك على الإطلاق، ولست المرأة التي بإمكانها أن تثير اهتمامي، ستكون علاقتك هنا بِسيلا فقط.
و الضربة وجهها إلى كبريائها كما أراد بالضبط؛
وإلى أنوثتها كما أراد أيضًا؛
لكنها.. يُسْر!
ولن تشعر باحترامها لذاتِها إن سمِحت له بالحصول على انتصار مبكر في هذه المعركة المفاجئة؛
لِذا بمنتهى البساطة ابتسمت بفرحة مفتعلة وهي تزفر بارتياح قائلة:
_جيد إذن، لِمَ لم تقل هذا منذ البدء؟ لكُنا وفرنا الكثير من القلق وسوء الفهم!
انعقد حاجباه بتوجس، فتابعت بلا اكتراث:
_أنا أيضًا أود اقتصار دوري على سيلا فقط، ولا أريد أية أثقال إضافية لحياة زوجية خانِقة لا آبه بها كثيرًا، شكرا ثائر بك!
وتجاوزته متسائلة بنبرة مُرتاحة أثارت غيظه هو:
_أين هي غرفتي؟
ونظرته المشتعلة التي نسى إخفائها بجليد عينيه رطَّبَت بعض الشيء على كبريائها المهدورة، فتقدمها إلى الخارج هاتفا بِحَنق فشل في مداراته أخيرًا:
_اختاري أي واحدة وأنا سأنتقل إلى الأخرى!
**********
وكعادتها كلما تعقدت أمورها تقف أمام المِرآة تواجه نفسها
وتُحلل ما آلت إليه أمورها بتركيز...
"دَين آخر؟!"
هكذا فَكَرت بألم؛
"أنا أُسدد الآن دَين آخر؟!"
هكذا شددت على نفسها بِصرامة؛
"إلى متى سأظل أسدد دُيون الآخرين؟!"
وهكذا تحسَّرت!
دمعتان فقط انحدرتا من كل عين فَنَهرت نفسها بقوة حتى لا تفقد سيطرتها على تماسُكها...
لقد وصلت الآن إلى مرحلة لا عودة منها؛
لم يعد هناك أي مجال للتراجع؛
هي هنا الآن...
زوجة اسمًا؛
ومُربية بِعقد شرعي فعلًا كما أوضح!
على أي حال كانت تحمل همًَّا لمُستقبلها معه، وكانت تحمل همًَّا لحياة زوجية تهابها..
أبِها عطب ما؟!
ألا تفرح كل الفتيات بليلة زواجهن؟!
لِمَ لم تشعر هي بأية فرحة قبل الزفاف؟
لِمَ لم تشعر بأي حسرة بعد فشله؟
لِمَ تشعر وكأن الأمر لا يعنيها على الإطلاق؟
ولِمَ يتركز شعورها الآن في خاطرين،
أولهما:
سيلا المسكينة بمعاناتها التي أدركت الآن جميع جوانبها؛
فالأم لم تنبذ طفلتها سأمًا أو ضَجرًا أو حتى اختلافًا مع الأب؛
لكن النبذ كان من أجل رجل آخر!
فتصِل بهذه النقطة إلى الخاطر الآخر:
ثائر القاسي البارد عديم الإحساس وشعوره عندما تركته زوجته من أجل نفس الحبيب السابق!
بالتأكيد مهما حاوَلَت تصور معاناته لن تستطيع؛
فليعينها الله على محاولة إصلاح ما فُسِد في الطفلة على الأقل!
**********
مُستنِدًا بساعديه على رُكبتيه؛
مُطأطئًا رأسه أرضًا، مُحاولًا السيطرة على شعور غريب بالخواء!
مُستعيدًا كلِماته التي ألقاها على مسامعها، مُستعيدًا ردودها...؛
ومُستعيدًا لقائهما بمكتبه؛
مُتأكدًا أن لا علاقة بزواجه منها هي تحديدًا بما اعتقدته هي!
يعلم أنه جرحها عن عَمْد، وكان على استعداد لِتقبُّل دفاعها عن نفسها؛
كان على استعداد لِتقبُّل غضب، صياح، ثورة؛
لكنها كعادتها جاءته بما لم يتوقع؛
إنها سعيدة!
سعيدة بعدم اهتمامه بها؛
وربما تنفر هي منه!
لقد أوضحت بكل هدوء أنها لا تهتم البتة بزواج صوري..
بل لقد أعلمته وكأن عبئًا ثقيلًا تكرهه تلاشى فجأة..
تُرى أهذا هو شعورها لو كان الزوج خطيبها السابق؟!
لولا ما حدث لكانت زوجة الآخر الآن، هل كانت ستفرح إن ابتعد عنها أم كانت ستتمسك بحقوقها به؟
زَفَر بإرهاق وهو يهُب واقفًا ليستعد للذهاب إلى ابنته كي يُعطيها قُبلة ليلية تساعده على تحمل بؤسه وحياته القاتمة!
**********
يُدير الحلَقة الفضية بين إصبعيه مُتمعِّنًا في اسمها المحفور عليه بِغِل واضح، يضغط أسنانه بِغِل واضح، والقهر يرتسم في عينيه بإصرار واضح!
لو كانت تمزح معه لِما اهتم، فقد اعتاد على ثقل مزاحها؛
لو كانت تتعمد إثارة غيظه لِما اهتم، فهو خير من يعلم أن رأسها الجميل بإمكانه تدبُّر أسوأ المكائد نِكاية به وحده؛
كان ليعطيها أعذارًا مهما اختلفت أسبابها؛
لكن مُصيبته أنها لم تكن مازِحة!
هذا بالفِعل هو سبب فِراق سنوات...!
هو ليس بامرأة ولن يتشدَّق بأن بإمكانه الشعور بِما أحسَّت هي عندما رفضتها أمه لسبب تافه مثل ذلك؛
لكن ألم يكن حُبها له وقتها شفيعًا له؟
ألم تجد أي مزايا أخرى تتحمل من أجلها الجَرح الذي لا يد له فيه؟
هو يعرف أن تلك المشكلة كانت تُثير حُزنها وتُقلل من ثِقتها بنفسها منذ مُراهَقتها، لكنه لم يهتم مُطلَقًا بذلك!
أيصِل بها الأمر إلى أن تبتعد عنه دون إبداء أسباب؟
أيصل بها الأمر إلى أن تتعمد إحراجه وإهماله لسنوات بعدها؟
لقد اعتقد أنها قد بدأت تشعر بالحَرَج منه فابتعد عنها حتى تُنهي دراسَتها العُليا؛
لقد اعتقد أنها تتدلل عليه بِتعمُّد وحاول التقرٌّب منها فآثر التقدم لِخِطبتها رغمًا عن تقبل والدته، لِتصدِمه ... وأمام الجميع!
**********
وبينما كان هو يحاول إقناع عقله بالمعلومات الجديدة..الصادمة؛
كانت هي أيضًا غارِقة في بحور من الألم، والقهر، والندم!
لطالما سمِعت تعليقات تخبرها أنها جميلة
ملامحها جميلة؛
روحها جميلة؛
لكن فجأة تتداخل تعليقات أخرى..لاذعة!
تعليقات زعزعت من ثِقتها بنفسها؛
حاولت التجاهل والتظاهر فنَجَحت؛
على الأقل أمام الجميع؛
لكن عندما تعلَّق الأمر به هو استحقت وقفة!
منذ أربعة أعوام
جلست أمام السيدة المُسنِة التي تتفحصها بتدقيق مُستفز وكأنها تراها للمرة الأولى!
نقلت نظراتها بضيق إلى أمها لتجدها ترمُقها باعتذار نيابة عنها فزفرت باستسلام،  وانتبهت إلى عبارة أم تميم التي يبدو عليها الغيظ جليًا:
_وما فائدة الدراسات العُليا يا سُهيلة؟ بالأخير ستتزوجين وسيقتصر اهتمامك على بيتك وزوجك وأطفالك.
استدعت صورة تميم بعقلها لتكتسب هدوءًا من أجله وحده، وضغطت أسنانها بِحَنَق ثم قالت:
_لا أجد تعارضًا بين الأمرين خالتي أم تميم، أستطيع موازنة شؤوني جيدًا.
مطت السيدة شفتيها بامتعاض مُتمتمة:
_بنات آخر زمن!
لم تستطع يُسْر منع نظرات الغيظ التي وجهتها إلى السيدة وهي تهتف:
_أعتقد أن تميم لا يرى في الأمر أية مُشكِلة يا خالتي!
حدجتها أمها بِنظرة مُحذرة وهي تأمرها بنبرة ذات مغزى:
_تعالي معي يُسْر كي نُقدِّم الحلوى للرجال.
ضيقت يُسْر عينيها بغيظ ثم قامت بتنفيذ أمر أمها رغمًا عنها ولحِقتها، وما إن خرجتا حتى التفتت والدة تميم إلى سُهيلة متسائلة بعينين خبيثتين:
_أخبريني يا سُهيلة، كيف فعلتِها؟
عقدت سُهيلة حاجبيها لتستفهم باستغراب:
_ماذا فعلت؟
والغيرة بعيني المرأة ظهرت أخيرًا وهي تقول لها بسَخط واضح:
_كيف جعلتِ تميم لا يرى سِواكِ طوال الوقت، ولِم هذا الإصرار عليكِ أنتِ بالذات ؟
أخفت سُهيلة دهشتها جيدًا من صراحة المرأة ثم تساءلت بِحَذر:
_وهل لي أن أفهم ما وجه اعتراضك على زواج ابنك مني يا خالتي؟
هزَّت أم تميم كتفيها بلامبالاة ثم قالت بلهجة ذات مغزى والنظرة مُنذِرة:
_لا! ليس لدي اعتراض بالطبع وإلا ما كنت أتيت، تميم _وحيدي_ لا يُقدم على شيء أرفضه مُطلقًا مهما كان يريده، وإن أنا أمرته بعدم الزواج منك باللحظة الأخيرة لكان تركك دون تردد وبلا ندم.
ارتفع صدرها وهبط في تنفس سريع؛
مهلًا سهيلة!
لا تتعجلي!
ربما عندما تتاكد أنكِ لا تُشكلين خطرًا على اهتمام ابنها بها دعتكِ وشأنك.
من أجل تميم تحملي!
وما بين السطور رأته سُهيلة بوضوح، والرسالة المخفية قرأتها سُهيلة على الفور!
لِذا ردَّت بصلابة:
_أعلم أنكِ ربيتِ تميم جيدًا خالتي، وأعلم أنه نشأ مُطيعًا لكِ وبارًا بِك، وهذا أكثر ما أحبه به.
والغيظ اندلع بِعيني المرأة على الفور، فهتفت بسرعة:
_كيف فقدتِ وزنك سُهيلة؟!
هذه المرة ألجمتها الصدمة وتوردت وجنتاها على الفور..
لا خجلًا من حماتها المستقبلية؛
ولا خفرًا مما هي مُقبلة عليه؛
بل حرجًا، وشعورًا بالنقصان.. والمَذَلَّة! مَسَّدت على جِذعها بتوتر واختارت التظاهر بعدم الفهم كي تتراجع المرأة عن سؤالها الوقح، فسألتها وهي تشيح بوجهها بعيدًا:
_ماذا تعنين خالتي؟
وأدركت أم تميم أنها وجدت نقطة ضعف أخيرًا فضغطت بكل قوتها مُتسائلة بابتسامة خبيثة:
_أعني أنكِ مررتِ بفترة أهملتِ بها نفسك وجسدك حتى بِتِ تجدين صعوبة في إيجاد ملابس ملائمة لكِ، حتى جمالك لم يكن شفيعًا لكِ حينها.
وأضافت بتشفِ:
_كنت بنفسي أسمع تعليقات البعض المشفِقة عليكِ، وبالطبع كان لديهم وجهة نظر!
فغِرت سُهيلة فاها دهشة والمرأة تتابع بِحِقد انفلت منها ولا ترغب بالسيطرة عليه:
_لا أقصد إزعاجِك لكنني أريد الاطمئنان أن ذلك لن يحدث مستقبلًا، أنتِ تعرفين أن المرأة بعد الزواج والإنجاب تـ...
لا خجل، ولا خفر، ولا شعور بالنقصان والمذلة سينفعونها الآن؛
ربما قد أخطأت لأنها تراجعت عن قرارها بإغلاق هذه القصة منذ الإهانة الأولى؛
والآن فلتبيدها عن آخرها!
هبَّت سُهيلة واقفة فَبَترت المرأة عبارتها بدهشة، لكن الأولى اكتنفها الغضب وهي تهتف بها:
_اطمئني خالتي، لن يكون هناك زواجًا بالأصل!
وقبل أن تستفهم منها المرأة عن قصدها اندفعت إلى الخارج فلحِقتها بِقلق...
وبينما كان تميم على وشك الحصول على موافقة كمال الشفهية وجد سُهيلة تقف أمامه، ليقِف هو أيضًا مبتسِمًا بِفرحة هرِبَت على الفور حينما رأى نظرتها..
المتألمة!
اللائمة!
_اعذروني جميعًا، أحببت أن يعلم عمي تميم برأيي مني شخصيًا!
هتفت بها سُهيلة أمام أبيها وأمها وأختها؛
أمام عمها مصطفى وابن عمها رمزي؛
أمام تميم و.. أمه!
حدَّق بها بدهشة مُتمتِمًا:
_عمي؟!
ابتسمت سُهيلة بسُخرية قائلة بلامبالاة لم تكن تدري بقدرتها على الحصول عليها من قبل ثم قالت:
_بالطبع عمي، ألست ابن عم والدي؟! إذن فأنت كَعمي مصطفى تمامًا!
وقف كمال والدهشة تعلو وجهه_كما الجميع_ مُتسائلًا:
_ماذا حدث سُهيلة؟
لم تتحرك عيناها عن تميم الذاهل وهي ترد بنفس اللهجة:
_لم يحدث شيء أبي، أنا فقط مُندهشِة من سبب الزيارة!
هنا عَقَد تميم حاجبيه عابِسًا وهو يُخاطبها بتحذير:
_هذا ليس وقتًا مُناسِبًا لمزاحك الثقيل يا سُهيلة.
والألم اختلط بالبرود في نبرة صوتها وهي تُشدد بكلمات من بين شفتيها المرتجفتين، أسفًا، وخوفًا، وخسارةً:
_ لا أمزح، الآن أنا جادة كما لم أكن قبلًا!
وعيناه توسلتاها؛
وعيناها رفضتا؛
والوداع كان تلك اللحظة؛
والعذاب ابتدأ تلك اللحظة؛
والفِراق النهائي كان موعده.. تلك اللحظة!
نقلت سُهيلة نظراتها بين أبيها وبينه قائلة بنظرة جامدة برغم صوتها الذي ارتعش بوضوح:
_آسفة أبي، آسفة عمي تميم، أنا لا أريد الزواج بك على الإطلاق!
ما تتذكره بعد ذلك مُبهَمًا..
غضب أبيها؛
غضب أمها؛
عتاب أختها اللاذع؛
هياج أمه؛
وانكسار قلب تميم الذي جرحت شظاياه قلبها هي!
**********
ابتسمت يُسْر بوجه حماها الذي بدأ معها حديثًا جانبيًا وِديًا منحها بعض السلام بعد ليلة مؤرقة قضتها في تخيل كيفية طبيعة حياتها بِهذا القصر، انتقلت بنظرها إلى حماتها وهي تولي جل اهتمامها إلى سيلا التي تعلَّقت عيناها بأبيها، وبجانبها يجلس عمها، بينهم لكنه يبدو بعالمٍ آخر تمامًا، تعلم هي أنه رافض لِتلك الزيجة منذ البداية، زَفَرت بِضيق وهي تدرك أنه ربما لديه بعض الحق!
ثم انتقلت بنظراتها إلى ... زوجها!
هل يمتلك ملامح دافئة مُبتسِمة كأي إنسان عادي يجلس بين أفراد عائلته ويتناول طعام الإفطار؟!
أليس لديه أية تعابير بَشَرية أخرى؟!
وكانوا يتهمونها بالبرود؟ إنها تشع حرارة مُقارنةً به!
هذا الجِلف الذي لا يلاحظ حتى نظرات طفلته المبهورة إليه؛
الطفلة مُستسلمة بفم مفتوح لجدتها التي تضع اللُقيمات بِفَمِها بينما عيناها لا تتحركان عنه!
يا بارد!
يا جاف!
أعطِ ابنتك حتى نظرة!
حَولَقَت سِرًا وهي تعود بِنظراتها إلى حماها مُتسائلة بِهمس تلقائيًا:
_اعذرني حاج محمد، هل يُعاني ابنك من إصابة بِفَكُّه؟! ألا يبتسم مُطلقًا؟!
وارتفعت قهقهات حماها فابتسمت رغمًا عنها وهي تُخفِض أنظارها قلقًا، وبينما تطلعت إليه نظرات الجميع بِدهشة سألته زوجته بابتسامة فُضولية:
_شاركنا الضحك يا مُحمد!
ليرد زوجها من بين ضحكاته:
_مُبارك ابتسام! لقد فُزتِ بِكنة ذكية، تفهم بسرعة شديدة!
وعاد الجميع إلى حالتهم قبل الفاصل، فمال عليها حماها هامسًا:
_سيكون هذا سرنا، الإصابة ليست بالفك، الإصابة هنا!
وأشار إلى رأسه فانفلتت ضحكة رقيقة منها جَعلت ثائر يرمُقها بتدقيق مُخفيًا دهشة، وبعضًا من الإعجاب، و.. الغيظ!
لكنها لملمت ابتسامتها بسرعة مُستكمِلة تناول طعامها.
وبعد قليل هبَّ ثائر واقفًا وهو يهتف بأخيه نزِقًا بشدة:
_هيا بنا يازيدان!
عض زيدان على شفتيه وتأفف أثناء وقوفه قائلًا باعتراض:
_لا داعِ لِذهابك إلى العمل صبيحة عُرسك يا ثائر، باسل ورَغَد هناك وأنا سأذهب حالًا.
رد ثائر على الفور وهو ينظر إليها مُتعمدًا إزعاجها:
_لا أجد أن هناك شيئًا مميزًا في صبيحة عُرسي يستدعي تكاسُلي عن العمل.
وشهقة حماتها المُتحرِّجة وصلتها؛
واتساع حدقتي أخيه المُستنكر وصلها؛
فَهَل تترك له الجولة؟!
_معك حق ثائر، أنا بالأصل لديّ ما يُشغِلني ولست متفرغة، وهو بالتأكيد أهم من البقاء كعروس مُدللة بلا مَنفَعة حقيقية طوال اليوم!
الوقِحة.. عديمة التهذيب!
وأين تلك الـــــ " ثائر بِك" التي كانت تُناديه بها حتى الليلة الماضية؟
ولِمَ اكتشف لِتوه أن اسمه مُجردًا بإمكانه أن يُصبح على ذلك القدر  من الـ..فخامة؟!
وابتسامة أبيه أغاظته؛
وابتسامة أمه أغاظته؛
والنظرة المُتحدية بعينيها الجميلتين أغاظته؛
ليندفع إلى الخارج صائحًا في شقيقه الذي ينقل نظراته بينهما بتوجُّس:
_هيا زيدان! كفى هدرًا للوقت!
**********
"هل علِمتِ أن ثائر وَصل لتوه؟!"
هتف باسل بالعبارة وهو يدخل إلى غرفة مكتبها مُلقيًا بعض الأوراق فوق سطحه فنظرت له رَغَد متسائلة بلا تصديق:
_وَصَل إلى الشركة؟!
ثم ارتفع حاجباها باستغراب وهي تمُط شِفتيها قائلة:
_لن يكف عن إثارة دهشتي!
عادت إلى عملها بتركيز لِثوان ثم رَفَعت رأسها عاقدة حاجبيها مُتسائلة بِقلق:
_لِمَ أنت واقف هكذا؟ سأراجعهم وسأخبرك.
بان التوتر على ملامحه وهو يتهرَب من عينيها بينما جلس أمام مكتبها قائلًا بتردد:
_كنت.. كنت أود أن أسألك عن شيء ما.
أومأت برأسها تحثه بصمت، فحمحم بخشونة مُتسائلًا:
_هل يُصادف أنك تعرفين بعضًا من المدعوين بالأمس؟
ضيقت عينيها بتفكير ثم هزَّت كتفيها قائلة:
_أعرف الكثير بالطبع، الغالبية لهم علاقات بأبي، وعلاقات بالشركة.
اعتدل في مقعدة مُتسائلًا بِلهفة:
_إذن هل تعرفين فتاة جميلة كانت ترتدي ثَوبًا أزرَقًا ولديها عينين بلون الفيروز؟
حدَّقت في وجهه بِعَدَم فَهم ثم سألته بِحيرة:
_وما هو لون الفيروز ذلك؟
امتعضت ملامحه على الفور وهو يهتف بها مُستنكرًا:
_هل أنتِ فتاة بالفعل؟!
ثم زَفَر بِضجر قائلًا:
_إنه أحد درجات الألوان ما بين الأزرق والأخضر.
مطت شِفتيها بلامبالاة مُرددة بِهدوء:
_لا! أعرف الأزرق والأخضر بالطبع، لكن ذلك الفيروز لا أعرفه!
وصمتت ثم تابعت بسُخرية:
_ولا أعرف الفتاة، لِمَ؟ هل ستترك العمل وتبدأ في شق طريقك بِمجال الإعلانات؟
عَبَس بِحنق واضح فابتسمت مُستدركة:
_حسنًا لا داعِ للغضب، من هي؟
ازداد عبوسه وهو يهتف بها مستهجنًا سؤالها:
_لو كنت أعلم لِمَ سأسألك بالأصل؟
زَفَرت بِضيق ثم تساءلت بضجر:
_وبِم أذتك صاحبة العينين بلون الفيروز؟
فجأة ابتسم واتخذ وجهه ملامح هائمة بعض الشيء ثم شَرَد هامسًا:
_لقد أصابتني بقلبي!
فغِرت رَغَد فاها دهشة وهي لا تصدق ما سمِعت فعقَّبت:
_عفوًا؟!
انتبه إلى حالته فهبَّ واقفًا والحرج يتملك ملامحه قائلًا:
_لا عليكِ رَغَد، سأذهب إلى العريس الأكثر صلابة على وجه الأرض كي يُخرِجني من حالة هذياني بتعذيبه المستمر لي!
خرج من غرفة مكتبها بينما ظلت هي للحظات مُحدِّقة في إثره بتوجس، وما إن همَّت باستئناف عملها حتى وجدت زيدان أمامها.
وعلى الفور قَنَّعَت وجهها باللامبالاة وهي تتظاهر بالتدقيق في أحد الملفات قائلة:
_إن كنت تبحث عن باسل فقد ذهب إلى مكتب ثائر الآن.
اقترب من مكتبها قائلًا بهدوء:
_لا رَغَد، أنا أريد التحدث معِك أنتِ.
لم ترفع عينيها إليه وهي تُعلِّق بنفس النبرة:
_اعذرني ، أنا لستُ مُتفرغة الآن.
واللهفة وَضَحت بِصوته وهو يقول مُسرِعًا:
_أنا سأعتذر فقط وسأنصرف.
نظرت إليه أخيرًا ثم هزَّت كتفيها بلا اكتراث مُرددة:
_لا يوجد هناك مبرر للاعتذار ، لم يحدث شيء.
وكطفل صغير هتف بِنزق:
_أنتِ غاضبة مني، وأنا لم أعتد ذلك.
وابتسامتها الرقيقة_الساخرة_ أثارت بداخله شعورًا بالألم، والقلق، وبوادر فقد:
_ربما يجب أحيانًا أن نتوقف عن التسليم ببعض الأمور يا زيدان.
صمتت لِتزفر باستسلام ثم قالت بهدوء:
_استمع إليّ جيدًا، نحن زملاء في العمل، وكانت بين عائلتينا مُصاهرة، والآن بيننا سيلا أيضًا.
وتصلَّبت ملامحها فجأة وهي تُشدد من كلماتها التالية:
_لِذا سأتغاضى عن اعتقادك المُهين بِحقي وسنتعامل معًا كما يجب، نحن مُضطران إلى ذلك.
أسرع هو مُعترِضًا:
_لكن.. أنتِ شقـ..
ثم بتر الكلمة التي أصبحت الآن خادعة، شاذة.. وبعدها تابع بندم:
_أنتِ صديقتي رَغَد!
أغلقت الملف وهي تنظر له بِحسرة قائلة:
_لا زيدان، أنا لستُ صديقتك ولا أريد أن أكون.
ونظراتهما المُتبادلة حملت معانِ ورسائل لم يستطع أيهما التفوه بها علانية؛
طلب بالابتعاد.. والرد رفض؛
طلب بالسماح.. والرد صد؛
أولته ظهرها قبل أن تضعف أمامه قائلة بِصرامة:
_والآن أنا بالفعل مُنشغِلة.
تراجع إلى الخلف بِصعوبة وهو يشعر بخسارة مُحلِّقة في الأرجاء؛
وإن خسِر رَغَد أيضًا ستكون كارثة!
**********
كانت تراقب الطفلة من الباب الموارَب أثناء تحدُّثها هاتفيًا مع صديقتها التي اندهشت من اتصالها بها صبيحة عرسها، لكن يُسْر قد لاحظت شحوب وجهها وتوترها بالأمس ولم تستطع الانتظار أكثر...
"لقد ارتعبت يُسْر عندما رأيت اسمه على شاشة الهاتف، شعرت أنني سأجده داخل الحفل ليُزوجني من ابنه! لكن حمدًا لله كان يخبرني بأنه سيسافر ويريد أن يتحدث معي عندما يعود."
نطقت بها فيروز بصوت متوتر بعض الشيء فردَّت يُسْر بِنزق:
_يلزمك حلًا جذريًا لهذه المُعضِلة فيروز، لن تقضي عمرك كله خائفة.
وزَفرَتها اليائسة سمِعتها يُسْر بوضوح والأخرى ترد بتعب واضح:
_أعلم يُسْر، أعلم وأفكر بأي طريقة ولا أجد، ربما رحلته العلاجية إلى الخارج ستمنحني بعض الوقت كي أنظم أفكاري.
ثم استعادت مرحها على الفور وهي تسألها بنبرة ماكرة:
_كفى حديثًا بذلك الشأن وأخبريني، هل الزواج رائع مثلما يقول الناس؟
والغيظ بصوت يُسْر سمِعته فيروز صارِخًا وهي ترد بينما تعوج شفتيها بتهكم:
_لا تتخيلي فيروز كم هو رائع، أكاد أختنق من مقدار الروعة!
ثم تهرَّبت مُسرِعة قبل أن تتفوه بما لا يليق قائلة:
_أعذريني فيروز سأنهي المكالمة الآن.
ردَّت فيروز بلهجة مُعتذِرة:
_هيا يا فتاة بالتأكيد زوجك انزعج من ثرثرتنا ويريد اهتمامك به، إنه عريس!
والضحكة الطويلة الرائقة التي أطلقتها يُسْر بأذن فيروز أثارت دهشتها بينما تنهي المكالمة.
...
اتجهت صوب غرفة سيلا بخطوات لم تتعمدها مُتسللة، لكن الطفلة كانت مُنهمِكة كُلِّيًا في حِوارها مع ألعابها:
_لقد أخبرني عُمر أول أمس أن أبيه اصطحبه إلى السينما وشاهدا فيلم الرسوم المتحركة الجديد، فقالت له مَلَك أن أبيها يصطحبها مع أشقائها كل عطلة إلى مركز التسوق الكبير فيتناولون طعامهم سويًا بالخارج ويذهبون إلى مدينة الألعاب المُلحقة به.
ارتجف قلب يُسْر وهي تكتم أنفاسها بينما سيلا مُستمرة في شكواها:
_لماذا لا يأخذني أبي إلى السينما مثل والد عمر؟ ولماذا لا يأخذني إلى مركز التسوق مثل والد ملك؟
وبينما انحدرت الدمعات من عيني يُسْر كانت الطفلة غارقة في حوارًا من طرف واحد:
_أنا أعلم أنه يحبني، أشعر به كل ليلة وهو يُقبلني عندما يعود من العمل، لكنني أتظاهر بالنوم حتى لا يتوقف عن فعل ذلك!
وأردفت بتقطع:
_أنا لم أرغب بأن تكرهه أمي أو تكرهني!
تراجعت يُسْر إلى الخلف وهي تكتم شهقات بكائها  بينما كلمات الطفلة تُمزق قلبها!
...
"سيلا! هل أستطيع أن أجد لديكِ بعضًا من الورق المطاطي اللامع؟"
نطقت بها يُسْر بنبرة عادية وهي تقف أمام باب غرفة الصغيرة بعد أن أخفت آثار بكائها، لكن الطفلة نظرت إليها ثم تجاهلتها تمامًا كعادتها..
لكن يُسْر لا تيأس سريعًا، لِذا تابعت ببطء:
_أنا أشعر بالضجر، لا أجد شيئًا مفيدًا لأفعله، وكنت أبحث عنه كي أصنع بعض المُجسمات المطاطية.
حمدًا لله!
أخيرًا رد فِعل!
استدارت لها الطفلة تسألها بفضول:
_أية مُجسمات؟
تظاهرت يُسْر بأنها لم تلحظ اهتمامها فاقتربت إلى الداخل قائلة وهي تتجول بعينيها في أرجاء الغرفة:
_ليست مجسمات بالمعنى الحرفي، أستخدم ذلك الورق  في صنع سيارة، أو دمية، أو سِوار.
فغِرت الطفلة شِفَتيها وهي تسألها بلا تصديق:
_أحقًا تستطيعين أن تصنعي سِوارًا؟
ابتسمت يُسْر بِحماس مُجيبة إياها بسرعة:
_وبِعدة أشكال مُختلِفة!
هبَّت الطفلة واقفة وهي تُشير إلى خزانة صغيرة بأحد الأركان هاتفة:
_يوجد البعض منهم هنا!
...
وبعد قليل:
حدَّقت سيلا في السوار اللامع حول رسغها بانبهار وهي تتلمسه بيدها الآخرى هاتِفة:
_يا إلهي! إنه رائع!
وعلى الرغم من فرحتها باستقطاب اهتمامها ورسم بسمة على شِفتيها أخيرًا، فإن يُسْر كانت مُنهمِكة تمامًا فيما تصنعة وهي تُعلِّق بِهدوء:
_انتظري حتى تكتمل القلادة أيضًا!
زَحَفت الطفلة على ركبتيها وهي تُدقق النظر في القلادة التي على وشك الاكتمال بين يدي زوجة أبيها مُتسائلة بِدهشة:
_أنتِ ماهرة! من علَّمك صنعهم؟
ابتسمت يُسْر وهي تُجيبها:
_أبي من علَّمني أنا وأختي، لكن سُهيلة تصنع أشكالًا أكثر مني.
ثم رَفَعت القُلادة بين يديها عاليًا وهي تتمعن في عيني سيلا العسليتين السعيدتين للغاية، قفزت الطفلة واقفة وهي تختطفها منها لترتديها بسرعة وانطلقت إلى المرآة الصغيرة صائحة بِحماس:
_صديقاتي سينبهرن بهما عندما أذهب إلى المدرسة بالغد.
تعالت دقات قلب يُسْر وهي تراقب فرحتها البريئة قبل أن تنمحي تمامًا والطفلة تستدير إليها هاتفة:
_أتستطيعين أن تلتقطي لي صورة كي أرسلها إلى أبي؟
**********
بأقصى ركن بمقهى الشركة جالِسًا يحتسي كوبًا من الشاي ببطء ولا يشعر بطعمُه أو درجة حرارته!
الضيق يتملَّك منه مُتبَعًا بالخوف؛
لقد باتت رَغَد رُكنًا ثابِتًا بحياته، ولا يستطيع السماح لها بالابتعاد؛
لكن.. لكنه تأكد من مشاعرها تجاهه؛
عيناها كانتا دومًا صافيتين، لِمَ لم يفهم وحده إذن؟!
هي بالفعل تُحبه هو!
الأمر عصي على تفهمه؛
والحيرة تُعذِّبه؛
لا يريد لها نبذُه ولا يريد منها اقترابًا بِتلك الصورة؛
هل هو أناني؟!
"ما به شقيقك؟ ما ذلك الغضب الذي يتمتع به اليوم؟ عندما علِمت أنه آتِ توقعت أن أرى بعضًا من الملامح السعيدة الحالمة على وجه رجل تزوج منذ ساعات، لو أنه اشتراني من سوق الرقيق لِما عذَّبني بهذا الشكل!"
هتف بها باسل وهو يجلس أمامه مُتابعًا:
_أخبرني زيدان! ألم تهرب العروس بعد؟
هزَّ زيدان كتفيه بلامبالاة مُجيبًا:
_كانت موجودة عندما انصرفنا من القصر صباحًا، الله أعلم إن كانت لاتزال هناك أم أنها عادت إلى رُشدها وولت هاربة!
ثم ارتسمت ابتسامة شامِتة على شِفتيه مُستأنِفًا:
_لكن أعطه بعض العُذر، لقد تلقَّى ضربة مفاجئة هذا الصباح ويبدو أنها لن تكون الأخيرة!
لم يفهم باسل مقصد زيدان ولم يسأله، واكتفى بتفحص صديقه قبل أن يتساءل بِهدوء:
_لِمَ هذا الشرود منذ الأمس؟ ألا زلت غاضبًا من زواجه؟
هزَّ زيدان رأسه نافيًا بِصِدق:
_لا، على الإطلاق، يبدو أن هناك أمورًا أدت إلى استحالة استمراره مع رِهام، حتى أن سيلا تبدو أفضل حالًا منذ انفصل والديها على عكس الدارِج.
والتفحص أصبح أدق من باسل وهو يستحثه على المتابعة:
_إذن؟!
زَفَر زيدان بيأس هاتفًا:
_رَغَد غاضبة مني!
ابتسم باسل بسُخرية قائلًا:
_لقد تأخَرَت كثيرًا في هذه الخطوة على ما أعتقد!
ضيَّق زيدان عينيه بِحذر وهو يسأله:
_ماذا تعني؟
أشاح باسل بوجهه بعيدًا وهو يقول بهدوء:
_لا عليك! ماذا فعلت كي تُغضِبها منك؟ هي صبورة دومًا.
وضع زيدان كفيه على وجهه وهو يستند بكوعيه على الطاولة مُرددًا بِحنَق:
_لقد.. لقد تحامقت كثيرًا، ويبدو أنني تحامقت لِسنوات، والآن لا أعلم كيفية التصرف، لا أحب لعلاقتي بها أن تكون رسمية بهذا الشكل، أحب أن أكون معها على طبيعتي.
ثم أزاح كفيه وهو ينظر إلى صديقه مُتابِعًا بِنفس النبرة:
_وبنفس الوقت لا أريد أن أندفع إلى شيء أخاف منه، شيء لم أعد أصلح له على الإطلاق.
زم باسل شِفتيه ثم مال مقترِبًا منه قائلًا بِعقلانية:
_عطبك باعتقاداتك زيدان، تخلَّى عن بعض القوانين التي وضعتها بنفسك وستستطيع حل كل الأحاجي بمنتهى البساطة!
ثم أردف بكلمات بطيئة:
_رُبما ما نُصِر على رفضه والهَرَب منه هو ملجأ راحتنا بالأخير.
رمقه زيدان بِشرود وكلماته تتردد بداخل ذهنه بهدوء، ثم وقف باسل متمتمًا بسُخرية:
_سأذهب إلى مكتبي قبل أن يرسل العريس في طلبي.
وتابع مازحًا:
_اطلب من العروس أن تدعو لي، إنسانة مثلها تُرحَم من تواجد أخيك أمامها منذ اليوم الأول لهي إنسانة طيبة فاعلة الخير بكل تأكيد!
أومأ زيدان برأسه موافقًا وعاد إلى شروده، لكن باسل عاد إليه مرة أخرى قائلًا بتردد:
_زيدان!
رَفَع رأسه إليه مُترقِّبًا فتابع باسل وهو يحُك مؤخرة عُنُقه بينما توترت عيناه قليلًا قبل أن يقول:
_أريد أن أسألك عن شيء ما.
ظل مُنتظرًا بِصمت فقفز باسل عائدًا إلى المقعد المقابل مرة أخرى متسائلًا:
_هل هناك فتاة من معارف عائلتك لديها عينان بلون الفيروز؟
انتظر زيدان شرحًا أو تكملة لكنه لم يجد، فعلَّق بعينين ضيقتين:
_لا أفهم!
حمحم باسل بِحرج مُوَضِحًا:
_لقد رأيت فتاة أمس بحديقة القاعة، عيناها فيروزية اللون.
اتسعت عينا زيدان بِقلق وهو يسأله باهتمام:
_هل سَرَقَت منك شيئًا ما أم ماذا؟
نظر له باسل بامتعاض مُغمغمًا بغيظ شديد:
_يا إلهي! ما هؤلاء الأشخاص الذين أحيط نفسي بهم؟!
رَفَع زيدان كفيه أمام وجه صديقه مُستسلمًا قائلًا بهدوء:
_اهدأ باسل! لا أعلم، لم ألاحظ جميع الفتيات المدعوات، لِمَ تبحث عنها بالأصل؟
أشاح باسل بإحدى يديه وهو يهُب واقفًا مُرددًا:
_لا تهتم زيدان، أعرف أنني سأجدها، ربما حينها أفهم لِمَ أبحث عنها بالأصل!
**********
بعد أسبوع:
تتقلب في فراشها منذ أكثر من ساعتين بعد أن تأكدت من نوم سيلا التي ردَّت عليها تحية النوم على غير عادتها..
قبيل الزواج كانت تتوقع أنها ستعاني مع زوجها وابنته وأهله، ربما سيكرهونها، سيرفضونها، سيعملون على إزعاجها..
لكنها الآن بعد أسبوع كامل لم يتحقق شيئًا من اعتقاداتها!
فوالد زوجها يظهر لها ترحيبًا أبويًا صادقًا، ورغبة دائمة بالثرثرة معها في كل شيء وأي شيء؛
وشقيق زوجها قلَّ رفضه الذي اتضح منذ رآها للمرة الأولى فصار يتعامل معها برسمية وتهذيب؛
ووالدته لازالت على تحفظها وإن شابته بعض الراحة الجلية حينما تأكدت أنها لا تنوي شرًا بحفيدتها؛
وحفيدتها.. تتقلب أحوالها معها، تارة تستسلم لمحاولاتها جذبها إليها، وتارة تصدها بإصرار تخفي به تحفزًا وتأكدًا بأنها لن تكون أكثر حنانًا عليها من أمها!
أما زوجها فلا علاقة بينهما..
يقضي جل أيامه بعمله، وتنام قبل عودته فلا تتبادل معه كلمة واحدة!
حتى الرسائل الرسمية الجافة توقف عن إرسالها!
جلست بفراشها وهي تزفر بضيق ثم التقطت هاتفها لتجد أن الفجر قد اقترب.. لِتُصلي إذن ثم تعد لنفسها بعضًا من الشوكولاتة باللبن تساعدها على التخلص من هذا الأرق الذي يصطحب أفكارًا لا حاجة لها بها!
...
أنهت صلاتها وخرجت بهدوء كي لا تستيقظ الطفلة بالغرفة المجاورة، لكن مهلًا! هي أوصدت الباب جيدًا كي لا يزعجها الضوء، من فتحه إذن؟!
وبخطوات حثيثة اتجهت إلى باب الغرفة لتتسمر مكانها رامقة انهيار هذا الصرح أمامها!
يتظاهر بالبرودة دومًا.. كيف يحدق بطفلته بكل هذا الدفء؟!
يصطنع اللامبالاة إذن.. لِمَ يحيطها بذراعيه بكل هذا الاهتمام والحرص؟!
يرسم جفاءًا بعينيه.. ما بالهما الآن يفيضان بكل هذا الحب؟!
يهمس بأذنها؛
يٌقبلها؛
يمسد على شعرها ووجنتيها؛
يبتسم!
إنه حقًا يبتسم كأب يسعد بقرب طفلته!
لماذا يتظاهر بالعكس؟ ولماذا يتباهى بالنقيض؟
و...
رفع رأسه بِحِدة لتقع عيناه عليها فيهب واقفًا.. بارتباك، وبحرج، و.. بخوف!
لِمَ يخاف؟ وممَ يخاف؟
_لقد.. لقد كنت أتأكد من نومها!
ولِمَ يبرر؟ ولِمَ يكذب؟
_أنا لا أنام إلا حينما أطمئن لذلك أولًا.
قالتها بارتباك وكأنها أرادت مشاركته حالته، لكن حرجه ازداد أكثر وهو يُعلِّق:
_ظننت أنني سمعت صوتها فأتيت كي لا توقظك بندائها!
ولِمَ يتهرب بالنظر منها وكأنها كشفته يرتكب جُرمًا؟!
_تصبحين على خير!
ألقاها بتوتر وهو يمر إلى جوارها، بينما هي في حالة دهشتها غارقة.. إلا أنها التفتت إليه حينما سألها بنزق واضح:
_لِمَ استيقظتِ الآن؟ ولماذا أتيتِ إلى غرفتها؟
وتهربه من عينيها جعلها تفعل المثل، وخاطر لا تصدقه يتنامى بداخلها!
"هو يشعر بالخوف من إظهار مشاعره!"
"هو يخفي حبه واهتمامه لأنه.. يخاف!"
"هذا الرجل الصارم الجاد الماثل أمامها متظاهرًا بالجمود وعدم الاكتراث.. في الواقع يخاف، وبشدة!"
_كنت.. كنت أصلي وسوف أعد بعضًا من الشوكولاتة باللبن!
قالتها تلقائيًا فنظر لها بدهشة!
"والآن يحارب ابتسامة ترغب بالظهور على شفتيه!"
وبحماقة لم تعتدها بنفسها مُطلقًا، وبلا تخطيط تابعت متسائلة:
_أتريد أن أعد لك بعضًا منها؟
وعادت بنظراتها إليه، نظرات متمعنة تنفذ إلى ما خلف القشرة؛
نظرات تستكشف شخصًا آخر؛
نظرات لا تعتمد فقط على البصر.. بل تشحذ البصيرة!
بصيرة تخبرها بأن هناك وجهًا آخر؛
بصيرة تخبرها بأنه يخبىء الكثير؛
وسيفاجئها أيضًا بالكثير!
_أشكرك، أنا سأنام على الفور، تصبحين على خير!
وبجفاء شديد قالها مستديرًا إلى غرفته، قبل أن يصفع بابها بعنف لا سبب له فتنتفض هي عائدة إلى فراشها بينما انتصر عليها الأرق باكتساح!
**********
في الصباح التالي خرجت إلى الحديقة تبحث بعينيها عن سيلا بعد أن أخبرتها إحدى العاملات بأن العائلة ستتناول إفطارها بالخارج، وجدتها تجلس بأحضان عمها الذي يشاركها اللعب على هاتفه المحمول..
"صباح الخير!"
قالتها بتهذيب فرفع زيدان رأسه لها يوميء بتحية صامتة، أما سيلا فلم تهتم بالرد عليها..
لكن والده أشار إليها لتتخذ المقعد المجاور له كعادته منذ أسبوع، لا تعلم هل يشفق عليها من تجاهل زوجها أو من تقلب سيلا تجاهها أو من معاملة زيدان لها بطريقة رسمية!
"زيدان! هل ستحضر التدريب معي اليوم أيضًا؟!"
سألت سيلا عمها الذي داعبها بأن شعَّث لها شعرها بأصابعه قائلًا:
_لا يا حبيبتي، اليوم أنا في عطلة من كل شيء، لن أخرج من هذه البوابة، فلتذهبي مع سليمان.
زَمَّت سيلا شفتيها بحزن فألقى زيدان بعض الاعتذارات مع الوعود بأنه لن يتخلف عن الحضور بالموعد القادم.
"أنا سأذهب معِك يا سيلا!"
قالتها على الفور فحدَّق بها زيدان بدهشة، أما سيلا فقد أمعنت بها النظر وكأنها لا تصدق أنها ستتنازل وتقضي معها هذا الوقت الطويل خارجًا!
وبالمثل ظل زيدان يتفحصها بدقة ملاحظًا الاهتمام الصادق بعينيها، لكن هناك شيء بخلاف الاهتمام..
للوهلة الأولى اعتقد أن الواجب هو ما دفعها لإلقاء هذا العرض؛
لكن...
"توقف عن إصدار الأحكام بسطحية!”
لكنه الآن يرى شيئًا آخر.. شيئًا لم يره مُوجهًا إلى ذات الطفلة إلا من رَغَد!
"أين أنتِ رَغَد؟!"
طرد خاطره الغريب عائدًا إلى مسار أفكاره الأولى، لكنه التفت إلى أبيه عندما قال:
_للأسف يا يًسْر هذا النادي لا تستطيعين دخوله سوى بالاشتراك بعضوية.
ارتسمت الخيبة بعينيها.. وعيني الطفلة!
ليتابع حماها قائلًا بحنان:
_اطلبي من ثائر أن يشترك لكِ به!
أومأت برأسها بلا معنى مستسلمة لشرودها المُحبَط..
لا يعلم أبوه أنهما لم يتبادلا كلمة من صبيحة الزفاف إلا بليلة الأمس عندما تقابلا مصادفة، فكيف تطلب منه هكذا طلب إذن؟!
"إنها زوجة ثائر الجوهري يا أبي، ستدخل النادي إن شاءت، وأنا الآن سأهاتف أحد المسؤولين هناك ليخبر الأمن بأنها ستصل مع سيلا فلا يزعجها أحد عند الدخول!"
رَفَعت رأسها بحدة إلى زيدان الذي ألقى عبارته بحزم، ورغمًا عنها ابتسمت بامتنان، فما كان منه إلا أن منحها ابتسامة لطيفة!
نقلت نظراتها إلى سيلا لتجد الحماس منتشرًا على وجهها بالمثل، وكأنها ترضى بأي شخص يرافقها فَقَبِلت بها حتى وإن كانت لاتزال منها حذِرة.
وقفت محاوِلة لملمة ابتسامتها المتشوقة، ولا تعلم أية قوة جعلتها تمد يدها تجاه سيلا قائلة:
_هيا بنا نبدل ملابسنا يا سيلا!
وكأنها تنتظر نتيجة اختبار، تدعو سرًا ألا تخذلها الطفلة؛
وبعد ثوان استُجيبت دعوتها، لتمد سيلا يدها لتمسك بها متشبثة!
وعندما اختفيا بالداخل قام زيدان بمهاتفة أحد أصدقائه بالنادي ليخبره بأن زوجة أخيه وابنته سيصلان بعد قليلا.. وبصرامة لا يظهرها كثيرًا حذره من أن يقوم أحد بمضايقتها!
ولما التفت عائدًا إلى مقعده وجد أبيه يرمقه بتدقيق لينظر له بتساؤل، فما كان من أبيه إلا أن هتف بمرح شابته راحة واضحة:
_حمدًا لله على سلامتك يا زيدان!
**********
أسبوع آخر مَرَّ؛
أشخاص بأحقاد الماضي غارقون؛
وأشخاص بالخوف من تكرار الخيبات والعذابات خائفون، هاربون؛
هناك من لا يتوقف عقله عن تحليل العديد من الكلمات والعبارات والمواقف، فيكتشف أنه جرح الكثير، وأهدر الكثير؛
وهناك من حصل على ما تمنى بأسوأ الوسائل، وهو الآن في انتظار مرور الوقت، أو تغير الظروف، أو حدوث معجزة!
هناك من يندمون..
وهناك من لقدرهم القاسي ينتظرون..
وهناك من عن طوفان اكتسحهم على حين غرة يبحثون!
وهنا.. هنا قلب صغير اطمئن، عثر على حنان فطري جُرِّد منه الأصل، ليجده في البديل؛
وهنا أيضًا قلب يتعرض لمشاعر لم تكن بحسبانه؛
دفء..!
ليس ذلك الدفء الذي يرافق نشأة المشاعر بين الرجل والمرأة؛
بل إنه دفء نبت من نبع البراءة، ليتلقاه قلب بِكر!
قلب لم تطأه قسوة الانتقام؛
لم تدعسه رغبة الهرب؛
لم يسمح للغير باستضعافه؛
وبالطبع كان بعيدًا كل البُعد عن السقوط في براثن وحش الانبهار!
**********
تطلع مصطفى إلى هاتفه الذي ينير باسم ابنة شقيقه فألغى رنينه ببطء وشرود..
كم مر على زواجها؟
لا يرغب بحساب الأيام، أسبوعان من الجحيم يعيش هو..
عجز لم يشعر به وهو مُلقى بين يدي الأطباء لا يعلم إن كان سيرى نور الدنيا مُجددًا أم لا..
لكنه _للأسف_ رآه!
ها هي ابنة شقيقه كعادتها أصلحت أخطاء ابنه هو؛
تزوجت ممن يُهدد ابنه؛
باتت حبيسة عرين الأسد الذي أغضبه ابنه؛
صارت خاضعة لحكم الجلاد الذي اعتدى عليه ابنه!
بضع مرات هَمَّ بالاتصال بشقيقه أو بتميم للاعتراف بكل شيء وتحذيرهم من هذه الزيجة..
لكن ذعر ابنه يمنعه؛
توسلات زوجته تمنعه؛
مستقبل مُكللًا بالعار والمهانة يمنعه!
ليترك هاتفه صاغرًا، مُتغاضيًا عن تضحيته بيُسْر فداءًا لابنه!
لكنها لا تتركه بكوابيسه..
مرارًا وتكرارًا يراها تبكي، تُضرَب، تُهان وتتعرض لكل أنواع الذل، ليفيق غارقًا بِعرقه.. وندمه.. وضعفه ثم خزيه!
ربما تهاتفه الآن لتلومه، لتصرخ به، لتدعو عليه.. لن يستبعد ذلك..
ويستحق أكثر!
**********
كانت تُصفف شعر الطفلة العسلي المُبلل أمام المرآة بعد أن راقبتها باستمتاع تسبح في المسبح الضخم بالقصر لتعرض عليها تطبيقها التدريبات التي تتلقاها بالنادي..
بات استقرارها أقوى، واعتادت أكثر على حياتها الجديدة، حتى حماتها تخلَّت عن تحفظها وتقاربت معها بشدة..
ابتسمت وهي تتذكر حركاتها الماهرة..
لكم عشِقت هذه الطفلة خلال هذين الأسبوعين!
بمُجرد أن نَجَحت في إرسال الطمأنينة إليها انطلقت الصغيرة على راحتها معها، تقص عليها كل تفاصيل يومها بتكرار مهما كانت تافهة، تُعبر لها عن أمنياتها، تُصمم على تعلُّم عَمَل الأشكال التي تُحبها من صنع يديها، لا تتوقف عن الثرثرة ويُسْر لا يُنافِسها أحد في الصبر!
لكن ما يؤرِقها حقًا لمحة اليُتم التي تعبر عينيها البريئتين كلما ذُكِرت سيرة والدها!
والدها _وهو بالمناسبة زوجها_ الذي لم تره منذ صبيحة الزفاف سوى تلك المرة بالأسبوع الماضي عندما ضبطته متلبسًا بتهمة أبوة مكتومة!
وهل رأى العريس العروس منذ ذلك اليوم؟
لا!
وهل سأل العريس عن العروس منذ ذلك اليوم؟
بالطبع لا!
وهل هاتف العريس العروس منذ ذلك اليوم؟
مُطلقًا لا!
إنها ترى العاملين بالقصر أكثر منه، ونظرات الاستغراب تطالها من الجميع، فالوضع كان مُثيرًا للتساؤل..
لكن _وبما أنهم يعرفونه حق المعرفة_ كانت نظرات الشفقة من نصيبها هي؛
لكنها حقًا لا تهتم بذلك..
ما يُثير غيظها وحنقها وغضبها الذين لطالما أخفتهم جيدًا وتحكمت بهم هو تجاهله الظاهري لابنته؛
إنه حتى لا يتواجد معها بيومي العطلة!
هل ستتبع التجاهل هي أيضًا؟!
حتمًا لا!
أخرجها سؤال سيلا من شرودها فجأة:
_هل ذهبتِ إلى حديقة الحيوانات من قبل يا يُسْر؟
ابتسمت وهي تُجيبها على الفور:
_بالطبع! ذهبت إليها عدة مرات في الصغر.
حدَّقت سيلا بها من خلال المرآة مُتسائلة بفضول:
_هل الفيل ضخم بالفعل وله خرطوم كبير كما أرى صورته عبر الجهاز اللوحي؟
ضحكت يُسْر باستغراب وهي تُجيبها بسرعة:
_ضخم جدًا سيلا و...
ثم بَتَرت عبارتها ويداها تتسمران على الجديلة الوليدة مُستفهِمة:
_ألم تري الفيل على الحقيقة من قبل؟
هزَّت الطفلة كتِفَيها وهي تقول نافية:
_لا، لم أذهب إلى حديقة الحيوانات، ولا أعرف حجمه، وهل الزرافة عُنُقها طويل أيضًا في الواقع؟
ابتلعت يُسْر غُصة بحلقها وهي ترد بابتسامة مرتجفة:
_نعم حبيبتي، عُنُقها طويل للغاية.
ازداد الفضول على وجه سيلا وهي تسألها بحماس:
_وهل تمتلك السلحفاة قوقعة صلبة تختفي بداخلها حين تشاء؟
أومأت يُسْر برأسها إيجابًا وهي تحكم من رباط الجديلة قائلة بخفوت:
_نعم تمتلك.
ثم تمتمت بغيظ واضح:
_لكنها ليست أصلب من رأس والدك على أي حال.
لكن الطفلة شَرَدت بِحُزن مُرددة:
_أتمنى لو كان بإمكاني أن أرى هؤلاء الحيوانات على الطبيعة.
أغمضت يُسْر عينيها عن الحسرة الموشومة بِدِقة داخل عيني الطفلة، ثم فتحتهما وهي تُقبِّل رأسها بحنان مُخاطبة إياها بتشجيع:
_ما رأيك سيلا لو تقومي برسم بعضًا منهم الآن وتعرضيهم على جدك وجِدتك وزيدان؟
أومأت سيلا برأسها بسعادة فائقة وهي تنطلق إلى المكتب الصغير بغرفتها، بينما رمقتها يُسْر بنظرات مُشفِقة تحولت بالتدريج إلى أخرى مُصممة أثناء اتجاهها لإحضار هاتفها...
حدَّقت في اسمه على الشاشة بِحيرة، فهي لم تجد مبررًا من قبل للاتصال به، لكن الآن المُبرر ظهر لاتخاذها هذه الخطوة..
سيلا!
**********
أرشدها إلى بعض التعليمات النهائية بشأن صفقة المجمع السكني الجديد التي هم على وشك الحصول عليها، وبعد أن انتهى لملمت أوراقها ووقفت فبادرها قبل أن تنصرف:
_أمى أخبرتني أن سيلا تسأل عنكِ باستمرار ، متى آخر مرة زرتِها يا رَغَد؟
تعاقبت الانفعالات على وجهها بتوتر ثم ردَّت بِحنين واضح:
_أنا.. اشتقت إليها بالفعل ثائر، لكن لا أعلم..
قاطعها بهدوء صارم بعض الشيء:
_لقد أوضحت لكِ من قبل، لا شيء مُطلقًا سيؤثر على علاقتك بها.
وعندما ظهرت الحيرة على وجهها مُمتزِجة باشتياقها لابنة اختها أردف بِحزم:
_سأخبر أمي أنكِ ستزورينها هذا الأسبوع.
ما إن أنهى عبارته حتى أومأت هي برأسها تشعر بارتياح هائل وكأنه أزاح ثِقَلًا من على كاهلها!
ارتفع رنين هاتفه فودعته بابتسامة وخرجت، بينما التقط هو الهاتف ليتسمَّر بلحظة وهو يُحدِّق في اسمها بِدهشة!
هل تتصل به بالفعل؟!
قبل أن يفعل هو؟!
لقد احتفظ برقم هاتفها الذي حصل عليه منذ عَرَض عليها الزواج لكنه لم يضطر لاستخدامه مُطلقًا إلا ببضعة رسائل جافة لترد عليه بالمثل، وبعد أن رُسِمت حدود علاقتهما منذ الليلة الأولى لم يعتقد أنه سيرى شاشة هاتفه تنير باسمها مطلقًا؛
ولقد مرَّ أسبوعان ولم يرها سِوى مرة واحدة عندما كشفت سره بغرفة طفلته؛
بل لم يَلْمَح طيفها حتى!
لكن ذلك لم يمنعه من اضطراره للاستماع إلى قصائد الغزل التي يُطريها بها والداه؛
حتى زيدان اعتذر بدون كلِمات واضحة عن رفضه لها في بادىء الأمر مُعبرًا عن اندهاشه من نجاحها بسرعة في التواصل مع سيلا؛
سيلا التي علِم أنها تقضي كل وقتها بصُحبتها ما إن تعود من المدرسة..
هي نفسها سيلا التي أبدت رغبة في الابتعاد عن أمها ما إن شعرت بنبذها لها!
وإعادة الرنين جعلته يخرُج من أفكاره غير المُنَظَّمة وهو يرسم بروده على صوته قبل ملامح وجهه مُجيبًا:
_مرحبًا!
والرد كان سريعًا حاسِمًا:
_أريد التحدث معك بأمر ضروري ثائر.
مُغتاظ هو؛
وكأنها تُهاتِفه طوال الوقت؛
وكأنها تراه طوال الوقت؛
وبنفس البرود، قاصدًا استفزازها سألها:
_ومن تكونين أنتِ؟
وضحكتها الساخرة وصلته واضحة قبل إجابتها، ليكتشف أنها لا تزعجه كما اعتقد:
_أنا العروس زوجي العزيز.
مُستفزة بارِدة، لكنها لن تُضاهيه:
_هاتِ ما عِندك!
والحزم ثم الحسم طغى على السخرية وهي ترد:
_ليس عن طريق الهاتف، اليوم ستحضر مُبكرًا وسأنتظرك.
والسخرية قفزت إلى صوته هو عامِدًا:
_ولِمَ عليّ أن أنفذ أوامر سيادتك.. عروسي؟!
لكن الألم الذي اتضح بِنبرتها جعله يتخلى عن بروده حينما ردَّت بقوة:
_لأن الأمر يخص سيلا يا ثائر، يخص طفلتك.
وقبل أن يطلب منها استفسارًا قالت بهدوء:
_إلى اللقاء!
والقلق تحكم به على الفور، ليهب واقفًا يلملم أغراضه بسرعة وارتباك، ثم يندفع خارجًا ملقيًا على سكرتيرته أوامره بأن تلغي المتبقي من مقابلاته لهذا اليوم.
وحينما وصل إلى المصعد ارتفع صوت هاتفه مجددًا، ليستله بسرعة ويفتح الرسالة النصية الواردة منها أيضًا!
"أثناء عودتك أحضر معك بعضًا من الورق المطاطي الملون اللامع!"
حدَّق في الكلمات الجامدة وهو يشعر وكأنه يسمعها تلقيها عليه بنبرة آمرة لا يجرؤ أحدهم على مخاطبته بمثلها!
وحينما حاول فهم فحواها وما "تأمره" بإحضاره عاجلته بالرسالة الثانية:
"بألوان متعددة، لكن لا تنس الوردي والأزرق لأن سيلا تحبهما، ولا تحضر الأصفر لأنها تكرهه! وأنت من تبتاعهم لا سليمان!"
ارتفع حاجباه إلى أقصى جبهته يحاول استيعاب الأمر الجديد، لتعاجله بالثالث:
"ولا تتأخر كثيرًا حتى تراهم قبل نومها!"
جز على أسنانه بغيظ، وما لبث أن كتب لها بحروف متهكمة:

"ألا تريدين أن تجعلي ثائر الجوهري يأخذ القمامة معه كي يُلقيها خارجًا أيضًا؟!"
وردَّها _كالعادة_ كان خارجًا عن المألوف:
" إنها فكرة لا بأس بها بالطبع، لكن أشكرك، لقد اهتممت بذلك الشأن، ربما في مرة أخرى!"
ولولا أن فُتِح باب المصعد ليجد أحد الموظفين الذين يحترمونه ويوقرونه لكان أخذ يسب ويلعن دون أدنى سبب!
ولما خرج من الشركة قاصدًا سيارته، عاد بخطوات مترددة إلى موظفة الاستقبال.. ليسألها مشيحًا بعينيه بعيدًا بِحرج:
_أتعرفين ما هو الورق المطاطي الملون اللامع وأين يمكنني أن أجده؟!
ونظرة الموظفة الدهِشة كانت أبلغ رد؛
وابتسامة زميلتها الخفية أنبأته بتدهور أحواله؛
وإجابة الموظفة الأولى عن وجوب بحثه في أحد محلات الأدوات المكتبية، بينما تكتم ضحكتها بصعوبة أخبرته أن صورته الجادة التي يحافظ عليها أمام الجميع .. قد صارت في أعظم خطر!
*****نهاية الفصل العاشر*****
في انتظار آرائكم وتصويتكم 😍😍

وأذاب الندى صقيع أوتاري   (مُكتملة)Donde viven las historias. Descúbrelo ahora