٣٤_الفصل الرابع والثلاثون والأخير (كُن مُنصفًا يا سيدي القاضي!)

6.1K 150 11
                                    

نظرات مشوشة؛
يدان ترتجفان؛
وجسد لا تحس به..
إن لطمها أحد على وجهها فلن تشعر؛
وإن صرخ أحد بأذنها فلن تسمع؛
منذ ساعات فقط قررت النهوض من حيث تقبع منذ وقت طويل ومنح حياتهما فرصة ثانية؛
منذ ساعات فقط فكرت أنه عندما يصعد إلى الغرفة ستتقبل محاولاته لاسترضائها!
وحينما وضعت سيلا بفراشها واتجهت إلى غرفتها كي تنتظر عودته.. أجفلتها صيحته!
ولما وصلت إلى المكتب_بطريقة لا تدري كيفيتها حتى الآن_ رأته أمامها؛
ثائر الجوهري الذي دومًا ما واجهها شامخًا، قويًا، واقفًا، لا ينحني؛
ثائر الجوهري الذي لم ينخفض إلا لينثر على بطنها قُبلات متوسلة تصرخ بالاحتياج؛
ثائر الجوهري الذي كثيرًا ما خبأ وجهه العطوف، الحنون، المراعي، لكنه استثناها من تلك القاعدة!
كان مُلقى أرضًا، تنزف الدماء من كتِفه، وجهه شاحبًا، وعيناه العسليتان منطفئتين!
وبينما طارد زيدان الدخيل حتى تأكد من إمساك الحراس به، كانت هي.. تبكي!
تبكي على صدره، وتعتذر؛
تبكي على ذراعه، وتتوسل؛
تبكي على قلبه، وتعاتب؛
تبكي على كفه، وتُحذره؛
تبكي وهي تقبل رأسه، وتعده بما حرمتهما منه!
وبصعوبة بالغة جذبتها رَغَد حتى يستطيعون الـتأكد من حالته..
وما بين أنفاس تزفر براحة من الأخ والأب، وشهقات بكاء من الأم، وعبارات ذعر من رَغَد، وصلوا إلى المشفى بينما لايزال هو فاقدًا وعيه!
وللتو أخبرهما الطبيب أن الإصابة ليست خَطِرة، تحتاج لبعض التقطيب والراحة مع العلاج الطبيعي لا أكثر!
لقد اطمأنت لسلامته، لقد تأكدت من أمنه، لماذا لاتزال يداها ترتجفان؟!
ولماذا هذا الطنين بأذنيها؟!
ولماذا تنفجر الآن باكية؟!
ضمتها رَغَد إليها تربت عليها بحنان بعد أن انعكست الأدوار وباتت هي من تقوم بِدَور الأقوى حاليًا.
_كدت أفقده يا رَغَد! كِدت أفقد ثائر يا رَغَد! كدت أفقد زوجي وحبيبي الوحيد!
قالتها بنحيب وهي تتشبث بذراع رَغَد التي أخذت تمسح على رأسها بحنان وهي تقول:
_حمدًا لله حبيبتي، الإصابة طفيفة وأنتِ سمعتِ الطبيب بنفسك، لقد فقد وعيه بسبب الضربة التي تلقاها بالثاقبة لا أكثر.
لكنها كانت بعالم آخر حقًا، عالم لا تدعها صورته الضعيفة الغائبة عن الوعي وشأنها، لتتابع بخفوت به من الذهول الكثير:
_لا أصدق! لا أصدق ما رأيت، لقد اعتقدت أن..
بترت عبارتها بنفسها وهي تغلق باب ذهنها أمام التصورات البغيضة التي لا ترحمها منذ ساعات، لتشدد رَغَد من احتضانها متمتمة برجاء:
_اهدئي يُسْر! هو بخير الآن، أرجوكِ تمسكي بالقوة بعض الشيء، أريد العودة إلى سيلا لكنني لا أستطيع تركك بهكذا حال.
ابتعدت يُسْر عنها ببطء وهي تمسح وجنتيها بظاهر كفها، لتهمس بكلمات متسارعة:
_اذهبي رَغَد حتى لا تخاف عندما لا تجد أي منا، فلا أظن أن والديه سيرحلان الآن، وهاتفيني ما إن تصلي حتى أتحدث معها.
حدَّقت رَغَد بها مليًا بقلق لكنها وقفت لتنصرف من أجل الطفلة، وبعينيها دارت بحثًا عن زوجها الذي اطمأن إلى حال شقيقه من الطبيب ثم اختفى فجأة ولا يجيب اتصالاتها!
**********
"لا أعتقد أنني سمحت لأحد بالولوج إلى الغرفة، ابتعدي أيتها الشمطاء!"
هتف باسل بصرامة وهو يسُد مدخل الباب بذراعه ما إن هَمَّت إحدى النسوة مُريبة الهيئة حادة النظرات بالتقدم إلى داخل الغرفة، فَرَفع خليل نظرات مُحذرة إليه وقال بصرامة:
_ما دمتما تتسمران كتمثالين مرتكبين الأخطاء هكذا يجب على من يستطعن القيام بالأمر تنفيذه بلا إضاعة المزيد من الوقت.
لكن باسل تحرَّك بجسده كاملًا كحاجز يمنع حتى النظرات من المرور إلى زوجته، وبقوة، شدد على كلماته صائحًا بأعلى صوت:
_لن يمس أحدكم زوجتي، اذهب أنت ونسوتك خارجًا قبل أن أثير الفضائح في عقر دارك!
وخليل كان منتشيًا بما يحدث؛
وكأنه يرى ما خلف قوته وصرامته؛
يرى الذعر، يرى قلة الحيلة؛
ويسعد أيما سعادة!
وبتمهُّل شديد رد ضاغطًا على كل كلمة:
_إنها ليست فضائح يا ابن المدينة، إنها عاداتنا وتقاليدنا التي نشأنا عليها، وينبغي أن ..
لكن باسل قاطعه هادرًا، ساخرًا:
_ينبغي أن ترسمها على جبهتك وترددها على نفسك ليلًا ونهارًا وتعلمها للجاهلين عديمي الدين والنخوة أمثالك!
وأجفل خليل بالفعل مع استيعابه أنه سخر منه أمام أهل داره، وبعضًا من معارفه الذين أبقاهم قاصدًا منتظرًا إعلان جريمة عار ليغسله أمامه فلا يلومه أحد حينئذٍ!
_أنت فقدت عقلك بالتأكيد حتى تتحدث معي بصفاقة في بلدتي وبين أهل بيتي!
وما كان من باسل إلا أن مال مقتربًا منه قائلًا بلهجة مُحذرة، جادة:
_وإن لم ترحل من أمامي الآن سأفقد صبري أيضًا فأعرض عليك نفحة من جنون لن تتصوره مطلقًا!
ولم يعُد هناك داعِ للتخفي خلف حجة تقاليد لم تكن هي هدفه الأصلي، لِذا بكل تشفِ ابتسم قائلًا بخفوت:
_ألم تدرك بعد أنك لا حيلة لك هنا؟ ألم تدرك بعد أنكما الآن بقبضة يدي؟!
وكان يدرك هذا بالطبع؛
كان يدرك.. ويرتعب!
لكنه الآن يحاول إطالة الوقت ومط هذا الحوار مقامرًا بالاعتماد على امرأة لم يرها إلا منذ ساعات ولم يتبادل معها سوى عدة كلمات!
يسترق النظر للخارج بحثًا عنها، لكنه للأسف لا يرى سوى وجوه ينطبع الجهل مختلطًا بالشماتة عليها بفخر غريب!
والضحية التي تنتظر تنفيذ الحكم تشبثت بذراعه؛
تحتمي به، وتختبىء خلفه!
_باسل، لا تـ..
همست بها برعب جليّ فصاح مقاطعًا:
_لا تتدخلي بالأمر فيروز! لن يضع أحدهم يده عليكِ إلا إذا صِرت أنا جثة هامدة!
اتسعت عينا خليل بقلق مستشعرًا توعد هذا الشاب له، متيقنًا أن الأمر لن يتم ببساطة كما نوى..
لِذا إن كان يريد استعراض القوة.. فليدرك مقدار قوة خصمه أولًا!
_يا حافظ! تعال وأخرج ابن المدينة هذا من هنا، حتى تستطيع النسوة فعل ما يجب!
صاح بها بصوته الهجوري مناديًا أحد رجاله؛
ودب الرعب قلب باسل وهو يتصدى بجسده أمام الباب لأي من القادم؛
وارتجفت فيروز ليعود غثيانها كاسحًا؛
وابتسامة قميئة، مقيتة، عادت للارتسام على وجه البغيض وهو يرى تحقق ثأره قد صار بمتناول يده؛
و...
"السلام عليكم!"
وصوت آخر.. صارم لكنه وقور؛
جاد.. لكنه لا يحمل أية لمحة شيطانية!
التفت خليل _كما باسل_ يحدقان في الوافد؛
الأول انتابه القلق؛
والثاني ابتسم براحة!
_الشيخ رضوان، مرحبًا بك.. لماذا عُدت إلى هـ..
والارتباك الذي نضح به صوت خليل جعل الشيخ يهتف به لائمًا:
_أحقًا ما سمعت حاج خليل؟ أنت سترتضي بكشف عورة ابنة أخيك على نساء عائلتك، أو عرض ما يخصها أمام الجميع؟
ازدرد خليل لُعابه مشيحًا بوجهه عن شيخ المسجد الكبير ببلدته، ليقول بخشونة:
_أنت تعرف.. إنه أمر لابد أن..
والشيخ قاطعه مرة أخرى هاتفًا بصرامة:
_إنه أمر مُحرم يا رجل! مُحرم ولا جدال بذلك، أنت لم تكتفِ بقذف الفتاة البريئة فحسب، بل تريد من زوجها أن يفشي أسرار اجتماعه بها، أو تنكشف هي على النساء؟!
وباسل تدخل هاتفًا بالمثل دون إخفاء ابتسامته التي انتقلت الشماتة إليها على الفور:
_إنه يهددنا أيضًا يا شيخ!
ومع سماع صوت باسل تملك الحقد من خليل ليقول بحنق:
_إنها أمور عائلية شيخ رضوان، ليس من حق أحد التدخل بها، والأمر يجب أن يتم الآن دون تأخير.
عندئذٍ دق الشيخ بعصاه أرضًا مرتين على الأرض، ليصيح بسخط:
_أقول لك إنه أمر مُحرم فتخبرني أنها أمور عائلية؟!
وتابع مُشددًا بصرامة:
_اسمعني جيدًا حاج خليل، يا من زرت بيت الله وتستطيع التفرقة بين الحلال والحرام لكنك تتغاضى عما لا يعجبك وتقوم بما يمليه عليك هواك..
حدَّق خليل به بتوتر، فأردف الشيخ رافعًا سبابته أمامه بتحذير دون منحه الفرصة للتحدث:
_أقسم إن لم تترك الرجل يرحل بسلام مع زوجته سوف أبلغ الشرطة وسيعلم كل فرد بالبلدة ما يخفيه الحاج خليل الذين يحترمونه جميعًا من حقد وغِل واستعراض القوة على فتاة بريئة وزوجها الذي استدرجته أنت ليكون بمفرده فلا يستطيع الدفاع عن نفسه أو عن زوجته!
وبالمثل هدر خليل شاعرًا بأن الأمر سيخرج عن سيطرته، ورغباته، وستُسلَب منه لَذَّة انتقامه مجددًا:
_إنها ابنة أخي.. وأنا أحق الناس بالتصرف بشأنها.
رمقه الشيخ بامتعاض واضح ليردد بصوته الرخيم:
_أنت أحق الناس بحمايتها والحنو عليها، أنت أحق الناس بالدفاع عنها ضد أي أذى، لكنك _للأسف_ أشر الناس وأقساهم.
ورفع عصاه ليشير إلى فيروز التي لا يظهر منها سوى عينيها اللتين تختلسان النظر بينما تتمسك بذراع باسل بقوة، ليتابع بِلَوم واضح:
_انظر للفتاة يا رجل! إنها تحتمي بزوجها الذي لم يبني بها بعد منك أنت شخصيًا!
ولَمَّا رأى الإصرار مرتسم على وجه خليل قال بنبرة لا جدال بها:
_لتعلم إذن أنني قد أخبرت شيوخ المسجد الآخرين قبل أن آتي إلى هنا، وإن لم تتركهما يرحلان ستحضر الشرطة فيخرجان بحمايتها أمام جميع من بالبلدة، وبما أنك طالبت بالفضائح فلتحصل عليها!
فغر خليل فاه واسود وجهه وهو يحدق في الشيخ الذي يناظره بكل قوة..
الشيخ لا يكذب، وطالما قال أنه قد أخبر الشيوخ الآخرين فقد فعل حقًا؛
وطالما هدده بأنه سيبلغ الشرطة فسيفعل بكل تأكيد!
أدار عينيه في الوجوه المحيطة به؛
أفراد عائلته؛
نسوة ربما لن يقمن بوظائفهن؛
بعض معارفه المقربين..
هؤلاء فقط من يعرفون بما حدث، وهؤلاء فقط من سيشهدون خسارته؛
لكن..
إن لم يرضخ لأمر الشيخ فنفذ الأخير تهديده سيتناول أفراد البلدة جميعها سيرته!
لقد كان هذا هدفه.. لكن بالمقلوب!
كان ينتظر عبارات مثل..
"انظروا! المرأة رفضت الزواج من الحاج خليل لتعيش في الحضر كما يحلو لها!"
"انظروا! ابنة أخ الحاج خليل وقعت بالخطيئة فقتلها وغسل عارها!"
"انظروا! لقد قامت أم فيروز بالاختيار الخاطىء حينما قالت "لا" لرجل مثله!"
والآن..
ستكون هناك عبارات أخرى..
"انظروا! الحاج خليل يستعرض قوته أمام ابنة شقيقه اليتيمة!"
"انظروا! الحاج خليل يختطف ابنة شقيقه وزوجها وينفرد بهما وحدهما!"
"انظروا! الحاج خليل قضى عمره كله لاهثًا خلف ثأر، راغبًا باسترداد كرامته حينما رفضته أرملة شقيقه، وها هي _مع ابنتها_ انتصرت مرة أخرى!"
مُنكس الرأس بينهم سيكون؛
ذليل، خاضع، مكروه إلى الأبد؛
وللتو أدرك بأنه خسر؛
لكن.. خسارة طفيفة أمام بعض الأشخاص الذين سيشدد عليهم بعدم إفشاء ما حدث، أفضل كثيرًا من خسارة على مرأى ومسمع جميع من يحترمونه!
والشيخ تخطاه ليخاطب باسل الذي تلوح أمارات التحفز على وجهه، ليستحثه قائلًا:
_هيا يا بني! سأرافقك حتى تخرج من البلدة!
ثم التفت إلى خليل هاتفًا:
_إن حاولت التعرض لهما ثانية يا شيخ خليل، أقسم أنني سأخبر الشرطة بكل شيء بنفسي، وبهذه الدار سأجد الكثير ممن يخافون شهادة الزور!
طأطأ خليل رأسه أرضًا وصدره يتعالى وينخفض بسرعة، ولم ترتفع إلا حينما همس باسل بأذنه:
_حاول تنفيذ نصيحتي بكتابة عاداتك وتقاليدك على جبهتك، علها تُحسن من كآبة هيئتك!
واستدار باسل إلى فيروز التي لم يتركها الذعر أو الذهول بعد، ليجذب كفها هاتفًا بسعادة:
_هيا عروسي، لنرحل من دار الشؤم هذه!
...
وفي السيارة، ما إن قرأ اللافتة التي تشير أنهم قد خرجا من البلدة صاح بفرحة غامرة:
_الحرية ما أحلاها!
ثم التفت إليها مدركًا بأنها لم تتفوه بكلمة منذ أن خرجا من الدار بصحبة الشيخ الذي سلمهما لأحد ضباط الشرطة المقربين فتبعهما بسيارته حتى تأكد من خروجهما من البلدة بسلام..
_ماذا بكِ فيروز؟ لِمَ أنتِ صامتة؟
حينئذٍ استدارت إليه هاتفة بذهول بات قرينها منذ ارتبطت حياتها بهذا الرجل:
_لم يكن ينقصني إلا ليلة زفاف بين حراسة مُشددة أيضًا، لِمَ تمنيت قصة حالمة مميزة؟! لِمَ بحثت عن الفارس الهُمام؟! لِمَ لم أتمناها قصة عادية هادئة؟!
زَمَّ شفتيه باحثًا عن إجابات مُقنِعة فلم يعثر على أحدها، لِذا لم يجد إلا أن يصرخ مُجددًا من نافذة السيارة:
_الحرية ما أحلاها!
**********
تدور في الغرفة الباردة بلا هدف، تتظاهر بتنظيم أشرطة الأدوية، تطوي غطاءًا إضافيًا على الفراش، ثم تعود لتقوم بِفَرده مرة أخرى!
توتر؛
اضطراب؛
وجهها محتقن؛
وعيناها بإصرار تتهربان من النظر إليه!
"توقفي عن الحركة بلا هدف يُسْر واجلسي لتستريحي بعض الشيء!"
وتوقفت!
توقفت مولية إياه ظهرها، تحاول التمسك بآخر ذرات قوتها التي غادرتها دون استئذان، تحاول ألا تستسلم لضعف ليس بوقته على الإطلاق.
وهو..
يُحدق في ظهرها مُترقبًا، منتظرًا، مُتألمًا، وأمنية كانت حتى الأمس بداخله لكنه لم يعد يثق بتحققها!
"سوف.. سوف أخرج لأسأل الطبيب عن أمرٍ ما."
قالتها بِحُجة هرب مفضوحة، وصوتها الذي تحشرج بآخر كلماتها أنبأه عن سبب فرارها الحقيقي، فلم يطالبها بالعكس!
وفوق مقبض الباب وضعت يدها، ثم على الفور استدارت منطلقة إليه وفيضان دمعاتها قد خرج عن عقاله!
أجفل بدهشة وهي ترتمي على كتفه اليسرى وشهقات بكائها وتأوهاتها تتعالى وتتواصل بلا انقطاع، ولم يستوضح من خلالها إلا ندائها باسمه!
"لِمَ البكاء؟ أنا بخير!"
سألها بجمود رغم أنه لايزال غير مصدقًا أنها بالفعل قد هرولت إليه؛
تغاضت عن عِنادها معه وارتمت على كتفه؛
تجاهلت كل حقدها وإصرارها على إيلامه وتبكي الآن.. من أجله.
_كدت أفقدك ثائر، كدت أفقدك للأبد!
قالتها بنحيب بينما التصقت جبهتها بكتفه السليمة فرفع كفه ببطء ليُبعِدها عنه قائلًا بخفوت اتضح جفاؤه به:
_أنا بخير، لم يحن وقتي بعد، إنها إصابة بسيطة لا تستدعي كل هذا البكاء!
لكنها لم تهتم بنبرته ورفعت رأسها إليه بنظرات غير مصدقة لتغمغم بذهول:
_أنا لا أعلم ماذا كنت سأفعل لو أن هذا المجرم أصابك حقًا، لا أتصور أنني...
كان يحدق بعينيها ناهلًا من قُربها الذي حُرِم منه لفترة أطول من قدرته على الاحتمال، يتلقى كل خوفها عليه، والحب الصادق بنظراتها وكلماتها، ورغمًا عنه وعن أوجاعه الجسدية والخوف من ذلك الخطر الذي عاد يحيط بهم أكثر من ذي قبل.. فإنه يشعر ببعض الراحة!
لكن الراحة لم تكن صافية؛
هناك عتابًا، ولَوْمًا، وحُزنًا.. بسببها!
_كفى يُسْر! لا تفكري بالأمر! جميعنا بخير وزيدان قام بتسليمه للشرطة، لا تفكري بهذه الطريقة التشاؤمية، هناك بعض حراس الأمن ينتظرون أمام المشفى وسينضم إليهم آخرون عند القصر.
حطت كفها على وجنته وهو يخاطبها بلا اكتراث راغبًا بإنهاء الحوار، لكنها اهتاجت أكثر وهي تهتف به بحنق من بين شهقات بكائها:
_أنا لا آبه بكل هذا! كما أنك أنت السبب ثائر! أنت من أورثتني ذعرًا وهلعًا وأفكارًا دامية حتى الآن لا أستطيع التخلص منهم.
التزم الصمت مستشعرًا حبها، شاكرًا خوفها، مستلذًا بالنقمة التي تتساقط من كلماتها!
لتتابع بنبرة أكثر ضعفًا وأقل عنفوانًا:
_لقد.. لقد كنت أنتظرك بالأعلى، كنت أنتظر أن نستكمل شجارًا، أو.. أو ألقي عليك عتابًا فتحاول استرضائي لأنتهز الفرصة، لكنني لم أعلم أنني على موعد مع هكذا مصيبة!
تجعد جبينه ببعض الألم حينما حاول التحرك لتغيير وضعه، وقال لها بنبرة بان التعب بها:
_يُسْر لا تـ..
_أعتذر ثائر!
ابتلع كلماته عندما قاطعته هي على حين غرة؛
حدَّق بعينيها ليجد الشعور بالذنب موسومًا بهما؛
ولَمَّا هز رأسه رفضًا بادرته قبل أن يتحدث:
_أعتذر على كل زلاتي، أعتذر على كل مرة أذنبت بها بحقك، أعتذر على تحولي إلى هذه المرأة الضائعة..
أشارت إلى نفسها بِحَرج جليّ لينتابه شعورًا أكبر بالرفض.. والضيق!
_لا داعِ للكلام عما حدث، و..
قالها وهو يغض النظر عن هذا الضعف بكل اختلاجاتها، لكنها أعادت وجهه إليها بإصرار وهي تندفع في حديث تأخر كثيرًا بالفعل ولم يعد ينتظر إذنها بالتحرر:
_لكنني أريد التحدث ثائر، أريد الانتصار على ذلك التيه وذلك العِناد، أنا كنت أدرك أنني أخطأت لكنني لم أستطع الاعتذار، كنت أغمض عيني عن كل ما تسببت به وأتشبث بصورة طفلي الذي فقدت وبثقتك بي التي أضعت حتى لا تنطفئ نيران غضبي فلا أجد حل سوى الاعتذار، لكنني الآن أعتذر!
اعتدل في فراشه متجاهلًا آلام كتفه المتزايدة فَسارعت قبل أن يمنعها وقد وجدت فرصتها أخيرًا للهرب من ذلك النفق المُظلم والعودة إلى مسارها المُنير الصحيح:
_أعلم أنك تحملت، أعلم أنني وضعتك في حيرة بيني وبين سيلا، أعلم أنني تهورت كثيرًا ثائر وأنت كنت تتغاضى فأضيف المزيد من التهور، كنت أريد أن أثبت أنني سأجد الحل الصحيح بنفسي كعادتي لكن الأمور انفلتت مني جميعها فاستسلمت..
وهطلت دمعاتها لكنها لم تلاحظ، لتستطرد بألم:
_أشعر بالذنب ثائر، أشعر بالذنب تجاهك وتجاه طفلنا، أشعر بالغضب تجاه نفسي كلما أتذكر أنك تخليت عن ضمان احتفاظك بسيلا من أجلي وحدي ولم تجد مني إلا العِناد والمزيد من الجفاء، ولا أعلم لو لم يصل زيدان في الوقت المناسب ماذا كنت سأفعل!!
ولمَّا هم بالرد اتسعت عيناها ذعرًا وكأنها للتو تراه مضرجًا بدمائه!
وما لبثت أن هتفت به بنبرة اختلط فيها الحزم بالتحذير بالتوسل:
_إياك أنت تتركني ثائر! إياك أن تفكر بفعلها مُطلقًا!
لكنه بدلًا من ترديد وعد تنتظره أشاح بوجهه بعيدًا ليقول بنبرة لا مُبالية بعض الشيء:
_دعك من هذا الحديث الآن واسمعيني جيدًا! لا تخرجي من القصر وحدك لأي سبب، أتفهمينني؟!
أومأت برأسها إيجابًا ثم عادت لتلصق رأسها على كتفه اليُسرى رغمًا عنه، تمنحه عناقًا حانيًا لم يُبادلها إياه مُتعمدًا، لكنه أغمض عينيه ببطء مُستسلمًا لِنوم مؤقت.
**********
اندفع زيدان من باب فيلا فريد دونما اعتبار للخادم الذي حياه ببشاشة، وعلى الفور اقتحم غرفة المكتب ليهب فريد واقفًا والذعر يبدو على وجهه رغم محاولته إخفاءه!
_ماذا تفعل زيدان؟ كيف تقتحم غـ...
والكلمة بترها حينما انقض زيدان عليه محيطًا عنقه بكفيه بكل قوته، جحظت عينا فريد بهلع وهو يفشل في إزاحة يدي صهره عن عنقه، مُجاهدًا لالتقاط أنفاس يبدو أنه سيحرمه منها الآن، فيما هتف زيدان بكل غِلّ وكراهية:
_ماذا تريد منا أيها المجرم؟ ألا يكفيك قتل شيرين؟! ألا يكفيك أنك كدت تقتلني؟! ألا يكفيك إيلامك لرَغَد طوال هذه السنوات مستغلًا طاعتها إياك واحترامها إياك وبحثها عن حنان أبوي فطري حُرِمت أنت منه؟!
شحب وجه فريد الذي يعلم أن قوة خصمه الذي أخذه على حين غرة لن يستطيع منافستها، بينما تابع زيدان صائحًا:
_والآن تحاول قتل شقيقي؟! لو كان حدث هذا الأمر بالفعل لكنت قتلتك بذات الوقت دون تفكير للحظة واحدة!
ومع الكلمة الأخيرة نزع يديه عنه فجأة وهو يدفعه بصدره بعنف لم يتعمده ولم يتحكم به، ليسعل فريد الذي لا يصدق أنه تركه بالفعل قبل أن يفقد أنفاسه الأخيرة!
_لم.. لم أكن أنا، لم أفعل.
اتسعت عينا زيدان جازَّا على أسنانه بغضب ثم صاح به:
_ألا تعلم أن المجرم الذي أرسلته خبرني بكل شيء؟! ألا تعلم أنه الآن بحوزة الشرطة وقريبًا ستجدهم هنا ليلقونك في السجن حيث المكان اللائق بك؟!
ووجه فريد الذي احتقن بالدماء بعد أن حرره زيدان عاد ليشحب ثانية مع العبارة الأخيرة؛
إن صدق ما يقول فقد انتهى!
وكأن زيدان قد استمع لأفكاره المرتعبة، فابتسم بتشفِ ليقول بكلمات بطيئة، مشددة، منتصرة:
_نعم فريد بك، حان وقت إنهاء مسلسل إجرامك الذي لا ينتهي، فلا أعتقد أن ذلك المجرم سيصمد كثيرًا أمام تحقيقات الشرطة.
واستغلالًا لحالة الرعب التي تلبسته فسلبته كلمات نفي، أو رفض، أو كذب.. تابع زيدان بترقب:
_لِذا.. ربما إن اعترفت بنفسك للشرطة سيتحسَّن موقفك بعض الشيء، تعال معي الآن! تعال وافعل شيئًا صائبًا لمرة واحدة بحياتك، من أجل ابنتك!
وانتفض فريد واقفًا ليهتف بسخط بعد أن تماسك بعض الشيء:
_هل تهذي؟! أتعتقد أنني قد أفعل شيء كهذا؟!
وبكل إصرار أردف محاولًا التظاهر بثقة لا يشعر بها حقَّا:
_سوف أقول أنني لا أعرفه، وأن هناك من أرسله للانتقام مني.
وعادت الابتسامة لزيدان، ليسأله باستخفاف حمل من التهديد ما لا يرغب بإخفائه:
_أنت تنسى المقاطع أليس كذلك؟!
ازدرد فريد لعابه والتزم الصمت أمام زيدان الذي يبدو أنه يستمتع حقًا بدور المُسيطر أخيرًا؛
ثأرًا لخطيبته السابقة؛
ثأرًا لساقه؛
ثأرًا لزوجته وحبيبته؛
وثأرًا لشقيقه!
_ربما لن أقوم بتسليمهم بنفسي من أجل رَغَد وطفلي وسيلا، لكن بإمكاني أن أرسلهم مع فاعل خير مثلًا!
ولم يكن يُهدد خداعًا، بل كان يهجم بضراوة، ويتوعد بصدق، وسينفذ بكل تأكيد!
_فكر جيدًا فريد بك، لكن أسرع! الوقت هذه المرة ليس بصالحك على الإطلاق!
وراقبه فريد يرحل، وثبتت نظراته على ساقه التي_للسخرية_ بدت نقطة قوة في هذه اللحظة!
نقطة قوة تسبب هو بها بنفسه منذ زمن واعتقد أنها ستمنحه تفوق؛
لكن الآن أدرك أنها ستكون سلاح هزيمته، ومن صنع يديه!
**********
"تقدمي بقدمك اليمنى يا عروس!"
قالها باسل بابتسامة بشوشة لتنظر له شزرًا ثم تتقدم إلى داخل شقتهما بعد ساعات سفر نال التعب من كليهما خلالها.
أغلق الباب واستند عليه زافرًا أنفاسًا مرتاحة؛
لا لتخلصه من مشقة السفر وحدها .. إنما لإدراكه أنها أخيرًا معه، في أمان، ببيتهما بعد أن فقد كل أمل بوصوله إليها يومًا.
"مبارك فيروز!"
همس بها بجوار أذنها تمامًا فالتفتت له على الفور..
ألاتزال غاضبة منه؟
لم تعد متأكدة!
أتشعر تجاهه بالامتنان؟
تود لو ألقت برأسها على صدرة لتردد عليه آلاف كلمات الشكر التي لم يبتكروها بعد!
طوال الطريق تقتحم أسوأ الهواجس عقلها، صور قاسية تسطو على ذهنها وهي بين يدي نسوة يخفين رغبتهن بالفضائح وحبهن لِردم كل الفتيات في هُوَّة سحيقة لا فكاك منها
خلف رايات تقاليد بالية يشجبها الدين وتنفر منها كل أخلاق.
لقد اعتقدت دومًا أن الأسد هو أكثر الحيوانات قسوة ووحشية، لكنها لا تعلم لِمَ تذكرت اليوم مشهدًا رأته خلال التلفاز وظل في ذاكرتها منذ صغرها..
طائر صغير لم تنمو أجنحته بعد؛
يسير بتخبط على شاطىء؛
الشاطىء مُحتل من قِبَل التماسيح؛
وها هو الطير المسكين يمشي دون أي حذر؛
يعبر فوف التماسيح باطمئنان؛
لا يدري ماهيتهم ولا يعلم بأي شر يضمرونه؛
وخلال أقل من ثانية يلتفت أحد التماسيح ليختطف الطير إلى فمه؛
يمضغه بين أسنانه باستمتاع برغم تأكده أنه لن يشبع جوعه!
يبتلعه دون تفكير رغم إدراكه بأنه لن يسد رمقه!
طير صغير للغاية.. وتمساح ضخم للغاية!
وبالليلة الماضية..
هناك؛
وفي دار عمها الكبيرة؛
كانت كطير يمشي على شاطىء يقطنه تمساح وحيد.. لكنه بقوة مئات من التماسيح الغادرة!
يتظاهر بالنوم؛
يفتعل عدم الرؤية؛
يمنحها صك أمان؛
وفجأة.. ينقض!
يلتهم براءة، يمضغ كرامة، ويدعس اطمئنان!
الطير الذي راح ضحية التمساح على الشاطىء لم يجد راعيًا ينقذه؛
لكنها وجدت هذا الراعي..
الراعي الذي رفض رفضًا قاطعًا اتباع أسهل الطرق كما رأت مرارًا في المسلسلات وقرأت تكرارًا في الروايات؛
الراعي الذي رفض أن تجرح نفسها أو يجرح نفسه ثم يلقي بخرقة بيضاء لونًا.. سوداء مضمونًا في وجه عمها وكل الجاهلين أمثاله فيسد الباب أمام كراهيته، وتحفزه، وانتقامه!
الراعي الذي رفض أن تنكشف على نسوة ليخرس ألسنتهن جميعًا بدليل لا شك به!
الراعي الذي فضَّل أن تلوك نفس الألسنة أخلاقه وسُمعته على أن يعرضها لهكذا مذلة!
و.. الراعي الذي انتشلها من فم التمساح قبل أن تنال منها إحدى أسنانه النهمة الشرهة لقطرات دماء تشفي غليله وتحقق له انتصارًا حقيرًا على أمها وعليها أيضًا!
هو ليس راعي؛
بل هو الفارس!
الفارس الهمام الذي حلمت به كثيرًا ليطالها الاستهجان من الجميع؛
الفارس الـ"الباسل" الذي ذاد عنها وحماها من الجميع معرضًا شرفه وحياته للخطر!
"ألا زلتِ خائفة؟!"
سألها ناظرًا بعينيها بحنان، وقبل أن تجيبه تابع محيطًا وجنتيها بكفيه:
_أنتِ هنا معي، لا تخافي! سأحميكِ بحياتي فيروز، لن أسمح لأحدهم أن...
_النظارات باسل!
قاطعته بنبرة خافته، فعقد حاجبيه بتساؤل، فما لبثت أن مدت يدها لتخلعهما بنفسها وتضعهما بجيب سترته!
ازدرد لعابه ونظراتها الخجِلة المتوترة تخبره عن سبب فعلتها وعما تفكر به، وبصوت أجش سألها:
_هل ما فهمت صحيح أم أنكِ تختبرينني فيروز؟
ولمَّا هَمَّت بالاقتراب كي تؤكد له تخمينه عاجلها هو ليُقبلها بكل حنان ورفق، وعشق!
ثم ابتعد بعد قليل ليهمس أمام عينيها:
_أتعلمين أنني لم آكل منذ ساعات، لكنني _للغرابة_ لا أشعر بأي جوع للطعام!
ابتسمت بحياء ثم حدَّقت في عينيه هامسة بالمثل:
_أحبك باسل!
اتسعت عيناه بلا تصديق لثوان، ثم ارتفعت ضحكاته عاليًا، وباللحظة التالية مال حتى يحملها لكنه استقام قبل أن يفعل قائلًا بمرح:
_كنت أود لو أحملك كما العادة، لكنني خلعت النظارات ولا أضمن أن أرتطم معك بالحائط، وحقًا لا أريد قضاء صبيحة عرسنا بالمشفى، فلنؤجلها للغد!
**********
بدَّلت ملابسها وجلست على الفراش مُطرقة رأسها أرضًا فلم تنتبه إلى أنه لم يعُد بالغرفة منذ وقت ليس بالقليل..
بالرغم من أنها أثارت إزعاج الطبيب بالأسئلة القَلِقة حتى أنه أقسم لها مرارًا أن زوجها بخير وأنه سيحتاج فقط إلى بعض الراحة والعلاج الطبيعي فإن صورته نازفًا فاقدًا وعيه تُجدد رُعبها كلما ارتسمت بذهنها!
أكانت تحتاج إلى هكذا صفعة قاسية حتى تتخلص من عُقدة عقلها قبل لسانها؟!
أكان يجب أن تدرك أنها تفقده حقًا حتى تُسارع بالاعتراف؟!
رَفَعَت كفها كي تمسح دمعاتها التي انهالت على وجنتيها دون شعور لكنها تراجعت بآخر الأمر فتركتها علَّها تمحو عنها غُبار القسوة الذي غطى روحها وشوَّه حقيقتها.
وانتبهت بالفعل إلى أن غيابه قد طال فانتفضت واقفة تهرول إلى الخارج بوجه شاحب ودقات قلب هاربة!
ولمَّ لم تجده بغرفة سيلا اقتحمت الغرفة الأخرى متخيلة أبشع الصور، لكنها تنفست الصعداء وهي تراه أمامها رغم تعبه الواضح يبتلع أحد أقراص العلاج..
_ماذا تفعل ثائر؟
سألته تلقائيًا فَأظهر لها شريط أقراص المُسكن دون إجابة شفهية ثم استلقى على الفراش بِحَذَر، فتابعت بتوجس:
_هل.. هل ستنام بهذه الغرفة؟
أومأ له برأسه وهو يُطفئ الضوء الجانبي ثم يوليها ظهره دون عناء الرد..
أكان هكذا يشعر كل مرة يحاول استرضاءها بها فترفض بقوة؟!
أكان هكذا يتألم كلما طلب منها أن تسامحه على خطئها فتصده؟!
وبدلًا من أن تتراجع إلى الخارج تقدمت إلى الفراش لتضطجع إلى جواره وتتشبث بظهره فتستنشق رائحته باشتياق..
_ماذا هناك يُسْر؟
وسؤاله الجاف رغم اهتزاز نبرته لم يجعلها تتردد في الإجابة بِصِدق:
_أرغب بأن أتنعم بدفئك، أرغب باحتوائك، ألا تسمح لي أن أضمك بين ذراعيّ كما اعتدت أن تفعل معي؟
بقوة أغمض عينيه؛
ببطء أطلق زفيرًا طويلًا؛
وبلا إرادة استدار إليها متغلبًا على ألمه لتستقبله هي بعينين مترقرقتين بالدموع:
_اشتقت يا ثائر!
والألم تعدى كتفه ليحتل قلبه ويقبع هناك، يتمنى أن يرد بعبارة مماثلة تصرخ بعينيه منذ أسابيع، لكنه.. صمت!
_أنا بإمكاني تحمل الكثير، أستطيع أن أتقبل أي اختبار، لا أجد حرجًا في دفع أي ثمن، لكن ستبقى أنتَ دومًا خارج نِطاق تنازلاتي، ستبقى ملكية خاصة لي لا يجرؤ أحدهم على إبعادَك عني، ستبقى أثمن ما لديّ، وأغلى ما لديّ، ولا نية لي إلى الأبد بالسماح بفقدانك.
بالتدريج يخفت الألم، لا يعلم أبسبب الدواء أم بسبب كلماتها، لكنه أراد المزيد، وواصل الصمت .. فزادته:
_لم يُدللني أحد مثلما فعلت أنتَ، لم يمنحني أحد فائق الاهتمام مثلما منحتني أنت، كنت تشعر دومًا بالامتنان لوجودي مع سيلا لكنني من كنت أشعر بكل الشكر لأنك تُحيطني بكل حبك وإخلاصك، حينما طالبتك كثيرًا بالانفصال كنت أموت ذعرًا خشية أن تنفذ لي طلبي في لحظة غضب أو عندما تفقد الأمل بي تمامًا.
وفتح فمه ليُعلق لكنه أغلقه طمعًا بكل ما يجيش به صدرها.. وعيناها؛
أليس من حقه أن يكون طامعًا لِمرة واحدة؟!
_أرغب بطفل منك ثائر، أنا أتمنى أن أحمل طفلك، أتمنى أن أستعيد نفسي وأستعيد حُبك وثقتك و...
كفاه عند هذا الحد!
لم يتحمل أكثر فوضع سبابته على شفتيها لتسكُت، وبآخر قدر من قوته قال أخيرًا:
_أنتِ لم تفقدي حبي وثقتي يومًا واحدًا يُسْر، ولم أكن لأنفذ لكِ طلبك بالانفصال مهما رددتِه، لكن تأكدي أنكِ إن كررتِه مرة أخرى سأقطع لسانك القاسي هذا!
ولما ابتسمت رغم انهمار المزيد من الدموع تابع بعبوس مُفتعل:
_توقفي عن التحدث بهذه اللهجة الضائعة ودعيني أنام لأن الألم يشتد بكتفي.
ومع أن الألم بالفعل نضح بصوته وبملامحه فإنها مالت على ثغره تُقبله بكل إصرار، وحنان، واشتياق بادلها إياهم لا إراديًا قبل أن يبتعد بعد لحظات متمتمًا بنزق مُصطنع خشية ظهور مشاعره المتأججة:
_نامي يُسْر، ودعيني أنام قبل أن ينتهي مفعول المُسكن..
وابتسامتها كانت آخر ما رآه وهو يغمض عينيه رغمًا عنه مُستسلمًا لنوم مُريح بين أحضانها.
لكنه لم يكد يتنعم بذلك النوم حتى همست باسمه مُجددًا، ومع أنه فكر بعدم الرد فإنه همهم بعد ثوانِ وهو على عتبات النعاس، فرددت بِحَرج:
_ذلك الثوب الضيق لم أكن أنوي أن أذهب به إلى الزفاف إطلاقًا، كنت.. كنت أحاول إثارة غيرتك وإزعاجك لا أكثر.
انتظرت تعليقًا منه لكن أنفاسه التي انتظمت أنبأتها أنه لم يستمع إليها فأطلقت زفيرًا بطيئًا وهي تسدل أهدابها متشبثة به بكلتا ذراعيها حتى كاد أن يختنق!
وبعد دقيقة كاملة فتحت عينيها بِحدة مع تملمُله على صدرها وهو يقول بصوت مُثقل تعبًا:
_أوتعتقدين أنكِ كنتِ مُخيرة بشأن ذلك الثوب؟! لَكنتُ دفنتِك بالحديقة لو تجرأتِ وخرجتِ من الجناح مرتدية إياه!
ولما شعَّت ابتسامتها بأمل وهي تنهال عليه لتقبله مرارًا بِحُب أبعدها بحنق متمتمًا:
_ألم تستمعي إلى تشديد الطبيب عليّ بالراحة؟! لقد تركت لكِ الغرفة بأكملها كي أحصل عليها، دعيني أنام دون إزعاج!
وافتعاله الضيق كان يُثير سعادتها وعاطفتها أكثر، فما كان منها إلا أن ختمت فيض نظراتها العاشقة إليه بِقُبلة على جبينه قبل أن تسترخي ملامحه تمامًا.
**********
بعد عدة أيام:
"أريد عُلبتين بالحجم الكبير، وأسرع من فضلك قبل أن يبدأ الفيلم!"
هتف بها باسل وهو يقف أمام بائع الذرة المقلية أخيرًا بعد أن حان دوره في هذا الصف الطويل..
يختطف النظر بين الفينة والأخرى إلى حيث تقف زوجته أمام لوحة إعلانية زجاجية تعرض صورة الفيلم الذي سيشاهدونه بعد قليل، يُدقق النظر بمن يقفون بالقرب منها خشية أن يقوم أحدهم بمضايقتها قبل أن يعود إليها ثم يستلم العُلبتين الورقيتين الضخمتين فينصرف بسرعة..
"هذا بالملح فقط، وهذا بنكهة الجبن."
قالها وهو يمد يده بإحدى العُلبتين إليها فأخذتها منه بصمت ليعقد حاجبيه بقلق ثم يسألها:
_ماذا بكِ حبيبتي؟ لِمَ الشرود؟ هل قام أحدهم بإزعاجِك؟
هزَّت رأسها نفيًا وهي تنظر إليه بابتسامة مترددة، ثم قالت بارتباك:
_لقد كانت وفاء تهاتفني للتو، تعرض عمي لِجلطة!
وبدلًا من العبوس المماثل الذي توقعته فقد أشرق وجهه بابتسامة واسعة قبل أن يقول تلقائيًا بِحبور:
_هذا لأنني طيب القلب، نقيّ، دعوتي ليس بينها وبين الله حجاب!
ارتفع حاجباها بدهشة فاستدرك بِحَرج:
_كنت أعني.. فليشفِه الله!
أشاحت بوجهها إلى اللوحة الإعلانية مُجددًا لتستسلم لشرودها مرة أخرى، فعاجلها بسؤال فضولي:
_إذن هل مات أم لم يفعل بعد؟!
ونظرتها الناهرة جعلته يصمت متأففًا، ثم أجابته بلا اكتراث:
_لا.. لقد خرج من المشفى بالأمس، لكن حالته النفسية سيئة للغاية.
عندئذٍ لم يستطع التظاهر أكثر وقال مُنفعلًا بشماتة ظاهرة:
_ربما حان دوره ليُجرب جزءًا من شعوري وهو يحبسنا بتلك الغرفة، أو شعورِك أنتِ لسنوات وهو يـ..
بتر عبارته قبل أن يندفع في حديث لن يمنحها سوى ذكريات سيئة، فَسَحب ذراعها لتتأبطه ويجذبها إلى داخل المممر المؤدي إلى قاعات الأفلام قائلًا:
_حبيبتي، لا داعِ لِذِكر سيرته، وهيا لندخل إلى القاعة قبل أن يبدأ الفيلم، لأنني أحضر لكِ مفاجأة ستعجبك كثيرًا بعدما ينتهي.
وببساطة استطاع محو كل علامات ضيقها وإبدالها بأخرى مُتحمسة، سعيدة، مُتشوقة، لتندفع هي أيضًا في حديث لا يتوقف:
_باسل! هل.. هل ستُقيم لي حفلًا مُفاجئًا بمناسبة يوم مولدي فأجد أحد العاملين يدخل القاعة بمنتصف وقت العرض حاملًا كعكة بها شمع تنطلق منه الشرارات بينما عبارة "كل عام وأنتِ بخير حبيبتي" تحتل الشاشة بدلًا من الفيلم؟!
وملامحه هو الواثقة ما انمحت بينما عيناه تتسعان بدهشة قد فات أوانها؛
ورفع يده الحُرة ليُعدل من موضع نظاراته وهو يشيح بوجهه يمينًا ويسارًا دون تركيز قائلًا:
_آ.. لقد.. أعني..
ورغم توتره الملحوظ فإنها انتظرت بأدب ولازالت السعادة على وجهها، ليُتابع هو بعد أن وجد حُجة كانت كافية:
_أولًا: يوم مولدك بالأسبوع القادم، وأنا دقيق جدًا في هكذا أمور، يجب أن يكون الحفل بنفس اليوم.
انعقد حاجباها باستهجان ليحتل العبوس الطفولي نظرتها فأردف هو بِحماس:
_ثانيًا: المفاجأة هي أن مطعم المأكولات الشرقية المفضل لديّ قد افتتح فرعًا جديدًا في هذا المركز، لِذا سنتناول طعام الغداء به.
ولمَّا عوجت شفتيها باعتراض أضاف بثقة:
_لكن أعِدك أنكِ ستتذوقين الثريد باللحم الأكثر شهية على الإطلاق.
ثم جذبها ثانية ليتابعا طريقهما فقال رغبة في تغيير دفة الحوار:
_والآن أخبريني! لِمَ اخترتِ هذا الفيلم بالتحديد؟ ألا ترين أننا ناضجان بما يكفي كي نشاهد فيلم رسوم متحركة؟
ندت عنها شهقة معترضة قبل أن تهتف بدهشة:
_إنه رائع باسل! ألم تشاهد الجزء الأول منه؟!
وبينما كانا على وشك فتح باب القاعة علَّق ساخرًا:
_وما الذي سيحملني على مشاهدة فيلم يتناول قصة حياة صبية يقومون بتربية تنانين بعد أن ظلوا لأعوام يخافونها؟! أترينني طفلًا كي أ..
_إذن فقد شاهدته!
وضحكتها التي قاطعت استرساله الساخر جعلته يزُم شفتيه بأسف لاعنًا حماقته!
**********
تقف في شرفة الجناح تتطلع إليه وهو يراقب سيلا أثناء سباحتها منذ ربع الساعة؛
بكلمات حماسية يشجعها؛
وبقوة يرشدها إلى بعض الحركات؛
ثم يعود إلى شروده الذي بات رفيقه منذ خروجه من المشفى!
دخلت إلى غرفتها لتجلس على الفراش مستسلمة لشرودها بالمثل.
لقد ظنت أنهما سيتابعان حياتهما، وسعادتهما، وحبهما الذي صار لا يحتاج لكلمات لن تفيه حقه..
لكنه التزم الوحدة والابتعاد!
لو استسلمت لأفكار بلهاء لاعتقدت أنه يعاقبها على إطالة فترة خصامهما، لكنها متأكدة أن هناك مانعًا أقوى؛
حاجزًا أعلى؛
وهوة أكثر عمقًا!
هوة تتمثل في حاجته للابتعاد كي يشفى من إنهاك نفسي زادت هي منه في كل مرة كان يحاول استعادتها فتقوم بصده!
بضع مرات يرمقها بشرود ويهم بالتحدث ليتراجع؛
يتراجع ويبتلع كلماته؛
يتراجع ويبتعد حتى بنظراته؛
يتراجع إلى الغرفة الأخرى وينام بها وحيدًا، حزينًا، مُشتاقًا، فتتبعه لتندس بين ذراعيه دون كلام!
الشوق بعينيه مُندلع طوال الوقت، والاحتياج إليها باختلاجاته دومًا يفضحه!
وهي تدرك أنه يحاول استعادة ثباته بعد أن توسلها كثيرًا ولم يجد إلا الإصرار على موقفها القاسي؛
ولهذا تتركه وحده طوال اليوم حتى موعد النوم _الذي صارت تنتظره بفارغ الصبر _رغبًة منها في منحه مساحة يبدو أنه حقًا يتوق إليها بعد أن اطمأن أنها لم تعُد مُصِرَّة على عنادها!
ورغبةً في منحه تلك الـ.. هُدنة!
وما أخرجها من أفكارها صوت بوق سيارة تدلف إلى باحة القصر فوقفت تلقائيًا تتطلع من النافذة..
حذاء أنثوي يحتوي قدمًا بالتأكيد ناعمة يستقر على الأرض.. فتتسع عيناها؛
والقدم الأخرى تتبعها لتصير صاحبتهما خارج السيارة.. فتفتح هي فمها ببلاهة؛
باقة ورود تستقر بين ذراعي المرأة التي اتسعت ابتسامتها المُغوية المُوجهة إلى ثائر.. فتشهق هي بصوت واضح!
"اللعينة! أية مُصيبة أحضرتها إلى هنا اليوم؟!"
لِوَهلة اعتقدت أنها تُفكر بصوت عالِ، لكنها ما لبثت أن لاحظت أنها ليست من أطلقت الكلمات!
وبِحِدة التفتت برأسها إلى رَغَد التي تقف بشُرفة جناحها المجاور تُحدق في ذات المرأة بِحِقد، بِغِل، بِتوعد!
_أليست هي نفس المرأة التي..
وسؤالها رغم خفوت نبرته جاءتها الإجابة عليه واضحة، مُغتاظة، فائضة الشر:
_نجلاء!
وتابعت رَغَد وهي تلتفت إليها لتهتف من بين أسنانها:
_أرأيتِ؟! عندما أقول لزيدان أن نيتها ليست طيبة يتهمني بالجنون، أية امرأة محترمة تذهب إلى شركائها ببيتهم؟!
ولم تجد يُسْر مبررًا، إلا أن عيناها اكتسبتا غيظًا مماثلًا بينما رَغَد تُردِف بصرامة:
_اسمعي! أنا سأهاتف زيدان لأعطله بأية حُجة حتى لا يصل الآن، وأنتِ اندفعي خارج فقاعة الاستسلام المُغيظة هذه!
لم تفهم يُسْر بِما تطالبها، لكنها أجفلت على صيحة رَغَد النَزِقة التي اعتادوا جميعًا عليها بسبب الحمل فمنحتها كامل تركيزها:
_ألازلتِ تنظرين إليّ؟! يا حمقاء زوجك لتوه خرج من تجربة مقاربة للموت في نفس الوقت حيث بذلتِ أنتِ كل جهودك لتكدير معيشته، وها قد وصلت عروس المولد الملونة، المُدللة، فقيرة الملابس!
ازدردت يُسْر لعابها والقلق يحلق حولها ساخرًا، فعقدت رَغَد حاجبيها دهشًة وهي تستطرد بتحفز لم تر يُسْر المكر الواضح به:
_لحظة! أهذه رائحة عطرها من تصلني حيث أقف أم أنها أعراض الوحام؟!
عندئذٍ اندفعت ساقاها إلى حيث وشاحها لتلفه حول رأسها قبل أن تهبط جريًا إلى الأسفل!
...
"لا تدرك مدى الذعر الذي انتابني عندما علمت بالخبر ثائر بك، لقد كدت أفقد وعيي في التو!"
تظاهر بالتركيز مع طفلته التي تسبح بالقرب منه وهو يرد عليها بلباقة واقتضاب دون النظر إليها:
_أشكرك سيدة نجلاء.
ولاحظت بالطبع، لكنها واصلت بنبرتها الخفيضة الممتزجة باهتمام لم يخفى عليه مُطلقًا ولم يتأثر به لِوهلة:
_لقد أخبروني أنك بدأت بمباشرة العمل بالفعل، ألا تحصل على بعض الراحة حتى تستعيد صحتك أولًا؟!
وقبل أن يجد ردًا لائقًا ارتفعت نظرات نجلاء إلى نقطة خلفه حيث صدحت العبارة الحانقة رغم صرامتها:
"كيف حالك سيدة نجلاء؟ لِمَ أرهقتِ نفسك بالزيارة؟ كنتِ تستطيعين الاتصال هاتفيًا فَحَسْب!"
التفت هو بحدة إلى زوجته التي تتقافز علامات الجنون على وجهها، ليهتف بلهجة مُحذرة، مُحرَجَة:
_يُسْر..
ونظرت هي إليه بالمثل، لتمتد يدها إلى ذراعه تجذبه بعنف فيقف تلقائيًا، فيما رسمت ابتسامة مُفتعلة منحته بعضًا من التسلية وهي تتابع دون الاكتراث بالمرأة التي تخلت عن نظرات الاهتمام لتُطلق سراح الغيظ كما يشاء:
_أتريد الصعود إلى الأعلى كي ترتاح ثائر؟! عفوًا لقد تذكرت! إنه موعد تناولك الدواء، هيا بنا إلى الداخل حبيبي.
ووقفت نجلاء أيضًا، ببطء، بدلال، حتى كادت يُسْر أن تجذبها من شعرها؛
وعلَّقت حقيبتها بإحدى ذراعيها بتمهل، لترمق ثائر وحده دون الاهتمام بوجود زوجته، ثم تردد برقة مُثيرة للغضب كثيرًا:
_لقد اطمأننت عليك ثائر بك، ربما تكون صحتك أفضل في المرة القادمة عندما نلتقي بالشركة، إلى اللقاء!
وبنظرة منتصرة حَيَّتها دون كلمات، لتلتفت إلى حيث سيارتها مرة أخرى غير واعية بالسيوف التي تنطلق من مقلتي يُسْر تجاهها فلا تُخطئ هدفها!
_لماذا تحدثتِ معها بهذا الشكل؟! إنها ببيتنا ولا يصح أن..
وكان هذا سؤاله الخافت، النَزِق ظاهريًا _غير المكترث فِعليًا_ الذي أطلقه عليها ما إن ابتعدت نجلاء بما يكفي كي لا تسمع، لكنه لم يستطع إنهائه حينما نظرت هي إليه بِحِدة لتُكمله بما يُرضيها:
_لا يصح أن تأتي لزيارتك وحدها دون موعد، ولتحمد ربك أنني لم أقم بطردها على الفور!
اختلاجة اشتياق واضحة مرت بعينيه فلم تلاحظها؛
ابتسامة انتصار لاحت على شفتيه فلم ترها؛
وشعور بالشفاء يجتاحه لم يصل إليها؛
لأن عينيها كانتا معلقتين بباقة ورود أجهزت على البقية الباقية من تهذيبها كانت تستقر على المقعد المجاور لثائر!
لكن لمحة الجنون بنظراتها أعطته حذرًا.. متأخرَا!
"سيدة نجلاء!"
هتفت بها قبل أن يمنعها، فاستدارت المرأة بتساؤل لتتركه يُسْر وتختطف الورود المسكينة وهي تنهب الخطوات حيث تقف الدخيلة!
_لقد نسيتِ باقة ورودك، أنا أتحسس من رائحتها ولا أطيقها، لكن أشكرك على البادِرة الطيبة، وبالمرة القادمة إن أردتِ الاطمئنان على صحة "زوجي" بإمكانك التواصل معي أنا!
واستغلالًا للدهشة الصارخة على وجهها تابعت:
_أنا أفهم أفعالك جيدًا وأدرك ما ترسمين الخطط بشأنه، لكنني لن أسمح لكِ بتحقيق أي منها، ابتعدي عن زوجي وإلا أثرت فضائح لن تستطيعين تلافيها!
قالتها ببرود وهي تُلقي بالباقة على سطح السيارة بعنف لا سبب له، ثم تلتفت بلا انتظار إلى زوجها الذي يحك لحيته بحرج متظاهرًا بالتحدث مع طفلته التي أنهت السباحة!
وعندما كانت نجلاء تستقل سيارتها وأمارات الغضب تتضح على كل خلاياها لَمَحَت رَغَد تقف بإحدى الشرفات وهي ترفع إبهامها إلى يُسْر في علامة تأييد واضحة؛
ثم نظرت إليها هي عن قصد لتمنحها ابتسامة صفراء قبل أن توليها ظهرها وتختفي!
**********
ولجت إلى الشقة تلهث بشدة بعد أن صعدت كل تلك الطوابق بسبب عُطل المصعد المعتاد، ارتمت إلى أقرب مقعد بصالة الاستقبال..
لدقائق ظلت بمكانها لا تجد القدرة على الذهاب إلى المطبخ لِشُرب بعض المياه علها تخفف شعورها بالعطش؛
تعلم أنها ستستطيع استعادة نشاطها بعد القليل فتحصل على مياه تُطفئ عطش جسدها، إنما كيف تُطفئ عطش نفسها؟!
دائمًا عطشى إلى أي شيء لا تملكه؛
طوال سنوات عمرها تفكر فيما ليس بإمكانها حيازته؛
واليوم.. عندما ذهبت إلى النادي الاجتماعي حتى تستعيد بعضًا من مظاهر حياتها السابقة صفعتها نظرات الكثيرين، قبل أن تُردي عباراتهم المُختلَسَة سمعها!
"الحمقاء تخلت عن زوجها السابق من أجل أحد الموظفين لديه!"
"لقد غضب عليها والداها وقاطعاها تمامًا!"
"إنها تخلت عن طفلتها، وزوجته الجديدة هي من تقوم بتربيتها أفضل منها!"
"لقد علمت من إحدى معارف عائلته أنه يهيم بزوجته حُبًا، يبدو أنه تخطى أم طفلته بسرعة!"
"أتعلمين أنها تسكن في ذات الحي الذي سخرت من إحدى العاملين بالنادي من قبل لأنه يسكُن به؟! ها قد صارت جارته!"
وضحكات ساخرة.. سرية أو مُعلَنة؛
تنال منها؛
تمزقها؛
تُبخس من قيمة اختيارها؛
تجذبها إلى حُفرة ضياع وتهيل عليها التراب بلا إنذار!
وهذا الحبيب الذي تُقنع نفسها أنها تخلت لأجله عن كل شيء بدأ اهتمامه بالخفوت؛
وشرع حبه بالاختفاء؛
وأخذ تحمله في الضمور!
شجارات يومية بلا أسباب قوية؛
باليوم الأول لم يتحمل بكاءها؛
باليوم الثاني تركها قليلًا ثم خاطبها بجفاء؛
وباليوم الثالث تركها ورحل ليقابل أصدقائه!
ولمَّا عاد فبادرته بالهجوم عن طريق عباراتها المعتادة كي لا ينسى تضحياتها لأجله.. لم يلتزم الصمت ككل مرة؛
لم يبدُ عليه الحَرَج ككل مرة؛
ولم يأبه لها ككل مرة!
"لم تُضحي بمفردك رهام، أنا ضحيت أكثر منكِ، فأنا فقدت أكثر الأشياء قيمة لدي، لكنكِ لم تفقدي شيئًا، لأنكِ لم تملكي شيئًا!"
ونظراتها المصعوقة لم توقفه ككل مرة.. وبذات اللامبالاة أضاف:
"ربما أنتِ ابنة ثري، كنتِ زوجة ثري، لكنكِ الأكثر فقرًا بيننا، أنتِ لا غالِ لديكِ رهام، فلا تواصلي ابتزازي عاطفيًا لأنني لن أهتم بأي مما تتفوهين به!"
وبعدئذٍ تشابهت الأيام بينهما؛
هناك ما يمنعها من محاولة استرضائه أو استعادته.. أو هي لا تهتم بالفعل بتلك المحاولة!
لكنها لن تنهزم؛
ربما عندما تظهر تقبلًا لذلك الحفل القميء الذي يصر والده على إقامته ببيته حتى يُشهِر زواجهما ستستعيد رمزي الذي دومًا ما أحبها وانتظرها!
**********
ارتفع رنين هاتفها باسم عمها الذي واظب على الاطمئنان على زوجها منذ الحادث، بل أنه هاتفه مرتين ليهنئه بسلامته..
وبعد التحيات والأسئلة والاطمئنان شعرت هي أن هناك ما يود عمها قوله لكن تردده يُزاحم رغبته..
_ماذا هناك عمي؟ أأنت بخير؟
سألته بقلق ليجيبها على الفور مُقتنصًا الفرصة:
_نعم ابنتي، نحن جميعًا بخير، لكنني.. كنت أود أن أطلب منكِ طلبًا وأتمنى أن توافقي.
التقطت قلقه لينتابها الكثير منه، وبسرعة قالت مستسلمة لشعور بأن ما ستسمعه لن يعجبها:
_بالطبع عمي! قل ما تريد!
_سوف أقيم اجتماعًا عائليًا بسيطًا بمناسبة زواج رمزي، لقد.. لقد أتممنا عقد القران بالفعل، لكننا سنقيم هذا الاجتماع للإشهار.
وبتلقائية رَدَّت:
_مبارك عمي، رزقه الله السعادة!
هنا ألقى عمها ما في جعبته دفعة واحدة ليتخلص من هذا العبء:
_أريدك أن تحضري الحفل، أنتِ وثائر!
وفهمت ما عصى على عقلها؛
وأدركت سبب تردد عمها؛
وبالطبع لديه كل الحق بالقلق، ولديها كل الحق.. بالرفض!
_أعتذر عمي، ربما لن نستطيع الحضور، أنت تعلم أن ثائر قد خرج قريبًا من المشفى ولا أود تعريضه للإرهاق.
تكذب هي وتتوارى خلف حجة واهية، فثائر قد ذهب إلى الشركة بالفعل بعد أن أكد لها زيدان أنه سيراقبه ولن يسمح له بتعريض نفسه للإجهاد؛
تكذب لكنها تعلم أن ثائر لن يرغب بأن يتواجد بمكان واحد مع ابن عمها، أو
مع .. نفس المرأة؛
وهي بالطبع لا تود تعريضه للانزعاج ليس أكثر؛
أليس كذلك؟!
_إن لم تستطيعا الحضور فلا بأس.
وإجابة عمها الخافتة الحزينة أصابتها بالحزن أيضًا، ستصالحه فيما بعد، لكنها لن تجازف بمقابلة...
والهاتف الذي اختُطِف من يدها عن طريق زوجها ليخاطب عمها قطع أفكارها المُقَنَّعَة:
_كيف حالك سيد مصطفى؟
حدَّقت به بدهشة من تواجده لتكتشف أنها استغرقت بالمكالمة، أو بأفكارها الشاردة فلم تنتبه لوصوله، لكنها الآن انتبهت إلى عبارته الحازمة:
_سوف نحضر بكل تأكيد، مُبارك لابنك!
ثم ابتسامة مهذبة؛
وكلمات رد على شكر يلقيه عليه عمها؛
وإنهاء المكالمة!
ولم تشعر بنفسها وهي تهتف به حانقة:
_لماذا فعلت ذلك؟
نظر لها بتساؤل شابته الدهشة، ليسألها أيضًا:
_ماذا فعلت؟!
وبنفس الحنق أشارت إلى الهاتف الذي استقر على الفراش، ثم صاحت بلا سبب يمنحها الحق بهكذا غضب:
_لماذا وافقت على الذهاب إلى هذا الحفل، أنا قد أخبرت عمي أننا لن نستطيع الحضور، لماذا وعدته بالعكس؟!
وبدهشة أكبر أجابها وهو لا يفهم فيم أخطأ:
_إنه احتفال بزواج ابن عمك، وقد أخبرتك قبلًا أنني لن أتسبب بقطع صلة رحم، سنتحمل ساعتين أو ثلاث ثم نرحل.
وهذه اللامبالاة أشعلت غضبها أكثر؛
وهذا الهدوء المبالغ به زاد من غيظها أكثر وأكثر؛
لتجد نفسها تسأله بتحفز:
_ألا تعلم من تكون العروس؟
وسُرعان ما عقد حاجبيه عابسًا ثم أجابها باقتضاب:
_أعلم!
ليرتفع حاجباها هي إلى جبهتها متسائلة بنبرة تحذيرية واضحة:
_ولا تجد غضاضة في الأمر؟!
وسهم الفهم أصابه؛
ونشوة الزهو احتلته؛
وقطرات غيرتها المتدفقة أججت جذوة نيران اشتياقه؛
لكنه تمسك بلوحة اللامبالاة متسائلًا:
_ماذا تعنين؟
اتسعت عيناها أكثر فَوَد لو يلقي بكل عِتابه الداخلي عرض الحائط ويثبت لها الآن مدى احتياجه إليها وعذابه هذه الفترة دونها، لكنها انتزعته من أفكاره مرددة بخفوت لم يتحكم بالغضب الصارخ بجسدها:
_لا أعني شيئًا، ربما أنت محق، يجب علينا تهنئة ابن عمي وزوجته بزفافهما!
وقبل أن يفقد التحكم في هذه الابتسامة التي تناضل للتحرر تجاوزته إلى الخارج متمتمة:
_سأذهب كي تحصل على راحتك بعد العمل ثائر بك، فربما بات تواجدي حولك يزعجك.
لكنها لم تكد تتحرك حتى أمسك ذراعها بقوة ليُوقفها.. فتسمرت بتساؤل؛
تحدق بعينيه فترى الشوق واللهفة لتسلم عيناها بالمثل؛
ترفع أصابعها لتتحسس لحيته الخفيفة بلا إرادة فيُسيطر هو على نفسه بمعجزة؛
يميل مقتربًا منها فتغمض عينيها بترقب.. و:
"أغلقي باب الجناح جيدًا لأنني أريد النوم، ولا أرغب بأن يوقظني أحد!"
وفتحت عينيها بِحدة تنظر له بغيظ وتوعد فيما ابتسم هو بتسلية لتنزع يدها منه بعنف ثم تتراجع إلى الخلف!
وعند الباب استدارت له قائلة بتهكم وهي تشير إلى جسدها الممشوق بطريقة وقحة:
_طالما سنذهب لا تنس ابتياع ثوب جديد ورائع كي أحضر به حفل ابن عمي الشيق، وتأكد جيدًا من القياس!
وقبل أن يستسلم لهذا الدافع الذي يحثه على جذبها من ذراعها وتوبيخها ثم تأكده من هذا القياس بطريقته كعادته، كانت قد اختفت من أمام ناظريه!
**********
"أتزدادين حلا يومًا بعد الآخر أم أنني حقًا بِت مسحورًا بكِ؟"
همس بها في أذنها لتتورد وجنتاها حرجًا وهي تختلس النظرات إلى والديها الذين يقفان مع عمها وزوجته ولا تبدو عليهما الفرحة المتوقعة لابن عمها!
فمنذ أيام أعلن عمها للجميع أن زوجة ابنه ما هي إلى والدة سيلا وطليقة ثائر؛
شعوره بالذنب كان واضحًا؛
ورغبته بالتخلص من الثقل كانت ساطعة؛
والشك بسبب زيجة ثائر من شقيقتها ارتابها هي وزوجها _على عكس والديها_!
لكنها.. ما إن هاتفت يُسْر لتخبرها بما حدث ثم تستجوبها عن طبيعة علاقتها بزوجها حتى جاءت الأخيرة وأقسمت أمامهم جميعًا أنها تحب زوجها ولا تنوي تركه بأية طريقة؛
وزوجها.. لم يكن ينقصه التصريح!
هناك أسرار بالتأكيد؛
وهناك مخاوف بالطبع؛
لكن تعلقها الواضح بزوجها وتمسكها بحياتها معه يضعان حدًا صارمًا لأية أسئلة، أو اقتراحات!
إنما والدتها من تزال غاضبة من أسرة عمها، ولولا رغبة والدها بإنهاء تلك القطيعة بينه وبين شقيقه لِما أتت على الإطلاق!
وها هو والدها يلقي تهنئة رسمية على عمها ثم يصطحب والدتها خارجًا غير راغبًا بقضاء المزيد من الوقت هنا..
حتى أنه لم يأبه بتهنئة العروسين نفسيهما!
_بم تشرد حبيبتي؟ أتمنى لو أنها تشاركني أفكاري!
تخلصت من أفكارها المبعثرة لتلتفت إليه بابتسامتها الخلابة متسائلة بدلال:
_وبم تشرد تميم؟!
مال على أذنها هامسًا بمكر لم يخل من لهجة طلب واضحة:
_أرغب بالانصراف من هنا على الفور!
كتمت ابتسامتها وهي تُعلِّق باستنكار:
_ألم تلاحظ أن والدي ووالدتي قد انصرفا بالفعل؟! لن ننصرف نحن أيضًا!
عندئذٍ أشار هو برأسه إلى حيث يقف ثائر مع زيدان ورَغَد، وإلى حيث تقف يُسْر مع عمها، وقال مُتهكمًا:
_لاتزال يُسْر وزوجها هنا، ولن يحتاجنا المدلل وعروسه بشيء، هيا لنعود إلى بيتنا لننال بعض الراحة!
منحته نظرة ذات مغزى فضحك بعبث مُجيبًا على سؤالها غير المنطوق:
_حسنًا! أقسم أنني أسعى خلف راحتك حقًا، التعب يبدو جليَّا على وجهك منذ الأمس، ربما تحتاجين بعض النوم، وأنا أيضًا لم أنم بالأمس جيدًا.
وبغيظ التفتت بجسدها إليه متسائلة بنزق مُفتعل:
_ولماذا لم تفعل؟ ألست أنت من..
أسكتها بأن ضرب على جبهتها برفق قائلًا بنبرة ماكرة:
_لِمَ انحصر تفكيرك بهذا الأمر حبيبتي؟ لم أكن أقصده!
توردت وجنتاها بخجل وهي تلوم تسرعها، وأفكارها، لكنها نظرت إليه مُجددًا عندما قال بخفوت، وبكلمات تقطر سعادة:
_لقد رأيت حُلمًا رائعًا بالليلة الماضية، وبسبب شدة فرحتي لم أستطع استئناف نومي مرة أخرى.
أمعنت النظر به مليَّا لتطالع سعادته الغريبة، وما أثار دهشتها أنها رأت أمامها تميم الذي عرفته طوال عمرها، الشاب، المرح، البسيط، قبل أن يفترقان بأقسى الطرق!
وبابتسامة ارتسمت على ثغرها دون إرادتها سألته:
_ألهذا السبب أنت شارد منذ الصباح؟!
أومأ برأسه إيجابًا والابتسامة تزداد على وجهه حتى أن عينيه أشرقتا ببريق ساطع..
وكأنها عدوى!
انتقل إليها فرحته، لتنسى كل ما حولها وتسأله بفضول:
_وماذا رأيت بذلك الحُلم؟
نظر لها بتردد ثم أشاح بوجهه قائلًا:
_فيما بعد سأخبرك عنه.
لكنها بلهجة طفولية تؤثر به منذ الأزل توسلته بإصرار:
_لأجلي تميم، لقد أثرت فضولي بما يكفي، هيا أخبرني الآن!
ازداد التردد على ملامحه، وطأطأ رأسه أرضًا ليقول بصدق:
_لا أرغب بأن تعتقدي أنني أتعجل شيئًا، كل ما في الأمر أنني منذ ساعات لا أنفك أفكر، وأرسم الصور، وأرسم المستقبل، و...
بتر عبارته بارتباك واضح فأمسكت بكفه التي يضعها على فخذه تستحثه على المتابعة، ليُتابع والسعادة تتراقص بعبارته المقتضبة:
_لقد رأيت أطفالنا!
تخشبت مكانها لينظر إليها مرددًا باشتياق، وتمنِ، ورجاء:
_طفلين سُهيلة، رأيت طفلين يمثلان مستقبلنا الذي طال انتظاره، وسعادتنا التي نتوق إليها منذ سنوات.
التمعت عيناها بدمعات متأثرة، لتسأله بهمس:
_ما نوعهما؟
ضحك طويلًا وكأنه يرى الحُلم في ذات اللحظة، وبالمثل التمعت عيناه بدمعات اشتياق، ثم أجابها بنبرة شابها الحنين:
_صبي، وفتاة، لكنهما كانا متطابقين إلى حد يُثير العجب، ربما قد تأثرت بِمُخططك الغريب هذا اعتمادًا على تاريخ عائلة والدتك الوراثي في إنجاب التوائم!
وصمت.. ففعلت المثل؛
وشرد في الحُلم.. لتشرد هي في الواقع!
ولمسة كفها على ظاهر كفه ازدادت توقًا وحنانًا، واتخذت قرارها في إخباره في التو دون تأجيل!
_أنا.. بالفعل أحتاج إلى الراحة والنوم، كما أن هناك ما يتسبب بتعبي، ومن الواضح أن الأمر سيزداد خلال الشهور القادمة.
وانتزعته من أجمل أحلامه، لتهديه أكثر الحقائق روعًة!
لكنه نظر لها مترقبًا دون كلمات، فتابعت بصوت هزته السعادة هزَّا:
_ربما لم يكن حُلمًا تميم! إنما هو الواقع، أعني.. سيكون واقعًا!
وبذهول نظراته بحث عن كلمات فلم يجد إلا:
_سُهيلة!
ترقرقت عيناها أكثر حتى استقرت الدمعات على أهدابها، وبنفس ذهوله علَّق بصوت متحشرج:
_أنتِ تعنين ما فهمت أنا، أم أنني..
أفلتت منها ضحكة متحمسة، لترد على سؤاله الذي يسبح بعينيه راغبة في منحه تحقيق هذه الأمنية:
_لم أعلم العدد بَعد، لكنني.. لكنني متأكدة من أن هذه السعادة تنتظرنا، وهذه المكافأة سنتسلمها بعد ثمانية أشهر!
وما كان منه إلا أن أخفى دمعاته التي خانته أيضًا في كفيها اللذين رفعهما ليقبلهما وهو يحمد ربه سرًا.
**********
ما إن التفت عمها لتلقي التهنئة من أحد أصدقائه وهَمَّت بالذهاب إلى حيث سُهيلة وتميم حتى وجدته أمامها.
_كيف حالك يُسْر؟
ورغم انزعاجها وتعمدها الهرب من مُحيطه منذ وصولها فإنها رَدَّت عليه برسمية:
_أنا بأفضل حال، مبارك رمزي.
ولاحظت أن هناك كلامًا يود قوله، لكنه كعادته خائف!
تململت بوقفتها وكتفت ذراعيها وهي تنقل نظراتها على الحاضرين ببيت عمها دون تمييز داعية أن يُنهي ما يريد مخاطبتها بشأنه حتى تنصرف!
_ربما قد تأخرت طويلًا، لكنني أود أن أعتذر لكِ، لقد أخطأت بحقك كثيرًا، واضطررتِ بسببي إلى الرضوخ إلى زواج بالإجبار، بعد أن كنتِ خطيبتي.. أيضًا بالإجبار!
رغمًا عنها عادت بنظراتها الدَهِشة إليه، ليس من عادته الاعتراف بالخطأ، وليس من عادته ذكر أفعاله السيئة!
ربما _في هذا الأمر_ لا تختلف هي عنه كثيرًا!
أو.. لم تكن تختلف عنه كثيرًا!
لكنها _راغبة في إنهاء حديث لا تهتم به حقًا_ أومأت برأسها إيجابًا، ثم قالت بلا اكتراث:
_لا عليك رمزي! لقد صرت بأفضل حال.
ولمَّا ألقت بذراعيها إلى جوارها في إشارة إلى رغبتها بالرحيل عاجلها بضيق شديد:
_أخبريني! هل.. هل يُزعجك هذا الرجل أو يُهينك بأية...
واضطر إلى بَتْر عبارته حينما ثارت عيناها وتصاعد غضبها على الفور؛
لا تتحمل أن يراه الآخرون بهذه الصورة؛
رمزي بالذات لا يحق له أن يتحدث عنه بهذا السوء!
لِذا بصرامة اعتادها منها رددت:
_ثائر أكثر الرجال حنانًا وإخلاصًا في العالم يا رمزي، أنا لا أعلم ما فحوى الفكرة التي كونتها أنت عنه، لكنني أؤكد لك أنني أعيش أكثر أيامي سعادةً معه هو، وطفلتنا.
اتسعت عيناه دهشةً؛
صادقة هي كل الصدق، لكنه لا يقتنع بأنها تستطيع التعايش مع هكذا رجل!
لتضيف هي بهدوء:
_تعلم أنني لا أكذب رمزي، حاول أنت أن تزن أمورك بعقلك بعيدًا عن التهور بعض الشيء.
ثم ابتسمت بنفس الصدق، وزيادة عشق، فقالت:
_وبآخر الأمر أنت قد قدمت لي دون قصد الهدية الأفضل على الإطلاق، فلولا كل ما حدث لِما كنت تلاقيت وثائر.
لكن.. لا!
لا ينبغي أن يصدقها!
ذلك الرجل _الذي يقف الآن مع زوجته_ هو من أسوأ وأقسى أنواع البشر!
لقد عمل تحت إمرته لوقت كافِ ما يمنحه الحق في الحكم عليه؛
ولقد أخذ منه حبيبته دون وجه حق؛
وقام بأذيتها كثيرًا دون وجه حق؛
ولهذا لن يسمح ليُسْر بأن تقنعه بالعكس، وكأنما لم يستمع لكلمة مما قالت، شدد باهتمام:
_يُسْر، إن أساء إليكِ بأية طريقة تستطيعين إخباري، أنتِ غير مضطرة إلى التظاهر بالـ..
حينئذٍ عقدت حاجبيها دهشًة مقاطعة إياه بحنق:
_ألم تسمع ما قلت؟! أنا لا أتظاهر رمزي، لِمَ لا تفهم أنني، وهو، وسيلا، أسرة واحدة لا نتحمل التفرقة؟!
وبنبرة أهدأ قليلًا، وأكثر إدراكًا تساءلت:
_لِمَ لازلت متشبثًا بأحقادك القديمة تجاهه؟ ولِمَ ترسمه بصورة شيطان بالرغم من أنه لم يبادر بإيذائك مرة واحدة؟!
والحقد حقًا ارتسم بعينيه، والكراهية تتراقص بمقلتيه، لكنها لم تأبه وهي تستطرد بامتعاض:
_أنت من اعتديت رمزي! أنت من اعتديت عليه بأكثر الطرق خسة ونذالة، فلا تحاول إسداء النصائح إليّ وإلقاء التحذيرات عليّ الآن.
وحانت منها التفاته إلى زوجها، لتشتعل النيران في أعماقها وهي ترى زوجته السابقة تتحدث معه باستغراق كامل؛
صحيح أنه لا ينظر إليها؛
صحيح أنه يبدو وكأنه يرد عليها باقتضاب؛
وصحيح أنه يبدو منزعجًا!
وها هي تلك المرأة تنظر إليها بتمعن..
ربما تشع ملامحها بالبراءة، لكن عينيها تحكيان قصة أخرى!
مناقضة؛
مُحتالة؛
ربما.. نادمة!
دب الرعب بقلب يُسْر وهي تشيح بوجهها عنها بإصرار كي لا ترى نتيجة رغبتها الواضحة بإثارة إزعاجها.. وخوفها!
وحدَّقت برمزي لتقول له بهدوء حاولت به إخفاء توتر كيانها بأكمله:
_لقد دافعت أنا عنه يوم حاولت منعي من الموافقة على زواجي منه وكنت لا أعرفه بما يكفي حينها، والآن بعدما صار زوجي وبِت أرى ما بداخله لن أسمح لك بالتفوه بأية كلمة تسيء إليه، أتفهم؟!
وهنا اتسعت عيناه على أقصاهما، ليتساءل بذهول.. متمنيًا نفي الإجابة:
_أنتِ.. أحببته يا يُسْر؟
لا يتحمل هزيمة أخرى على يد نفس الرجل؛
لا يتحمل معرفة نجاحه خلال شهور فيما فشل هو به خلال عامين كاملين؛
هو لم يسعى لأن يحب يُسْر، لكنه رغِب بأن تحبه هي.. وفشل!
_بل أعشقه يا رمزي! هذا الرجل هو الوحيد الذي رأى ما بداخلي أيضًا، هذا الرجل هو الوحيد الذي منحني دفئًا حولني إلى إنسانة أخرى بخلاف ما اعتدتها طوال عمري، هذا الرجل هو من ساعدني على اكتشاف أنني لست مجرد شخص يسدد ديون الآخرين، بل أنا شخص أضعف أحيانًا، لأعود أقوى وأكثر حنانًا!
هزيمة ساحقة له؛
وانتصار كاسح للآخر!
لكن لماذا الآن يشعر بأن الهزيمة الوحيدة التي يحق له الندم من أجلها.. هي خسارته لإنسانة تحمل نقاء وتفانِ يُسْر؟!
**********
قبل دقائق:
تأفف للمرة الثالثة وهو يشير لزيدان بجانب عينيه أن يجلب رَغَد لتصطحب شقيقتها بعيدًا؛
اعتذر من أجل مكالمة وهمية مرة؛
وتظاهر بالتحدث مع تميم مرة فلم يلقِ له الأخير بالًا قبل أن يأخذ زوجته وينصرفان فجأة؛
اختناق.. يشعر باختناق شديد بينما تقف هي بالقرب منه متظاهرة بالسؤال عن صحة شقيقتها الحالية؛
"لِمَ لا تذهب وتسأل شقيقتها بعيدًا عنه؟!"
_سوف أبحث عن رَغَد فتفمهي منها بنفسك رهام لأنني لا أفقه شيئًا بهكذا أمور!
قالها زيدان قبل أن يرحل معتقدًا أنها بهذه الطريقة ستنصرف، لكنها لم تفعل!
"غبي زيدان!"
تمتم وهو يتناول هاتفه من جيب سُترته قاصدًا طلب باسل ليجد الأبله خارج نطاق الخدمة.. فتأفف للمرة الرابعة!
_لقد أخبَرَتني رَغَد أنك ستسمح لي برؤية سيلا إن أردت.
رغمًا عنه نظر إليها بدهشة؛
لقد فعل حقًا، وبالمشفى، فكانت أولى قراراته التي اتخذها ألا يحرم يُسْر من رؤية عمها أو زيارته متى شاءت، وأيضًا لن يغلق الباب في وجه أم طفلته إن أبدت رغبة في رؤيتها!
لكن هذا تم منذ أسبوعين، وحينما سأل رَغَد عن رد أختها تهربت منه بإجابات مائعة ففهم أنها لم تبدِ اهتمامًا.. كما توقع!
فَلماذا الآن؟!
_لقد فعلت، بإمكانك رؤيتها إن أردتِ.
وإشاحته بوجهه عنها أزعجتها؛
لا تتحمل ألا يمنحها أحدهم الاهتمام اللازم؛
لا تقبل بأن تكون.. امرأة على الهامش!
لِذا _برقتها التي تبرع بإظهارها_ قالت محاولة جذب انتباهه إليها:
_لقد أنذرتني من قبل أنك لن تدعني أفعل، ماذا بَدَّل رأيك الآن؟
وانتظرت انتباهه.. لكن هذا الانتباه كان بأكمله مع زوجته التي تقف مع ابن عمها تتحدث معه ولا يبدو أنه حديث عابر!
"عَمَّ يتحدث هذا الحقير معها؟!"
ومرمى نظراته كان مفضوحًا، لتهتف بحنق:
_ثائر!
وثائر تشتعل عيناه بالنيران، يشعر بأن هناك من يتجاوز حدوده هو، يتعدى على ما يخصه هو!
"ولماذا لا تصده؟!"
حمحم بخشونة وزفر بغيظ قائلًا بعينين شاردتين على بُعد أمتار:
_كنت.. كنت أخبرك أنكِ بإمكانك التحدث مع رَغَد وترتيب أمر رؤيتك سيلا معها، وأنا سوف أ...
"طفح الكيل!"
اندفع دون إتمام عبارته حينما لاحظ اقتراب ابن عمها منها بخطواته؛
ربما يقترب من أجل استيضاح الكلمات؛
وربما تقف هي كضابط المرور فلا يستطيع أحدهم النظر إليها بأفكار غير لائقة؛
لكنه.. ببساطة لا يتحمل!
...
"هيا يُسْر، أشعر بضيق الصدر، كفانا احتفالًا عند هذا الحد!"
قالها وهو يمسك بيدها بشدة، غير واعيًا بهذه الذي تركها دون اعتذار فلحقته، وغير مباليًا بهذا الذي يرمقه بحقد فهم سببه منذ فترة ولم يعد يهتم!
_ماذا هناك ثائر؟!
سألته يُسْر بدهشة، وقبل أن يُجيبها تدخل رمزي متسائلًا بغضب:
_لماذا تجذبها بهذه الطريقة؟
وهنا التفت إليه هاتفًا بعنف:
_وما شأنك أنت؟!
اتسعت عينا يُسْر ورهام بينما تابع ثائر بنبرة مُحذرة:
_اسمعني جيدًا! أنا أتحملك بصعوبة لأنك ابن عم زوجتي لا أكثر، لكنني لا أريد منك أن تنظر بوجهها حتى، هل تفهم؟!
وتدخلت رهام بغيظ فاح من صوتها، وتعابير وجهها:
_ ماذا دهاك ثائر؟ لماذا تحدثه بهذا الشكل؟!
والتفت إليها بنفس العنف، مع إضافة بعض الاشمئزاز، متمتمًا من بين أسنانه:
_لا أعتقد أنني طلبت رأيِك أو رأيه!
وبينما يتجه إلى الخارج بإصرار جاذبًا إياها استمعت إلى غمغمته بوضوح:
_ربما كنت مخطئًا بالحضور إلى هنا، فلتذهب اللياقة واللباقة إلى الجحيم ولنعود إلى الافتراء بكل ترحيب إذن!
حاولت التملص منه قائلة بخفوت لم ينفصل عنه الغيظ بعد:
_اترك يدي ثائر! أنا لم أخبر أحدًا بأنني سأنصرف الآن.
التفت إليها وعيناه تحملان جنونًا واندفاعًا نادرًا ما يسمح لهما بالظهور علنًا، ليقول بابتسامة حملت نذيرًا خالصًا:
_سأفاجئك! أنا زوجك وأخبرك بأننا الآن سننصرف، فلنفعل بآخر ذرات التهذيب التي أحتفظ بها بمعجزة، أو لنولي الأمر لحامل جوال البطاطا! ما رأيك؟!
ومع أن دقات قلبها تعالت بسرعة وهي تتمنى لو يُنفذ تهديده فقد ارتسم العناد بعينيها لتشتد نظراته قائلًا بحنق:
_هيا بنا! لا أستطيع تحمل تواجدك معه بمكان واحد، أحترق غيرةً عليكِ يُسْر، كم مرة عليّ أن أخبرك بهذا؟!
وخافقها الذي أخذ يرتج بين أضلعها لم يمنعها من أن ترد ببقايا تحدِ:
_سأنصرف لكن من أجل ألا يلاحظ عمي الأمر، أنا لا أخاف من تهديداتك كما تعلم!
واقترب مجددًا ليهمس بأذنها مُحذرًا:
_يجدر بكِ أن تخافي يُسْر، أصدقك القول هذا هو الوقت المناسب لأن تخافي، لأنني في هذه اللحظة كمجنون هارب من مشفى الأمراض العقلية، سأفسد هذا الحفل ولن ألوي على شيء!
وبآخر كلماته تركزت نظراته على شفتيها؛
بينما دقاتها سببت لها طنين في أذنيها؛
ووجهه الذي احتقن اشتياقًا واشتعالًا أنبأها دون إضافة كلمات بوجوب انصرافهما الآن دون تأخير دقيقة واحدة!
**********
"إلى أين ذهب ثائر ويُسْر؟ ولماذا تضحك بهذا الشكل؟!"
ألقت رَغَد سؤاليها على زيدان الذي يقف بأحد الأركان لا يستطيع التوقف عن الضحك..
_لقد فاتكِ مشهد لن تريه كثيرًا! لقد تحققت دعوتي وبات أخي مجنونًا، لو لم أنشغل بالمراقبة لكنت التقطت له الصور!
وببلاهة سألته رَغَد وهي تطالع الاستمتاع الذي يقفز من عينيه بغزارة:
_أية صور؟
حمحم بحرج حينما لاحظ انتباه بعض الأشخاص بالقرب لصوت ضحكاته، ليشيح بوجهه قائلًا:
_سأحكي لكِ فيما بعد، رهام قادمة، سألقي التحية على عم يُسْر وسأنتظرك بالسيارة، لا تتأخري!
ولما انطلق مبتعدًا جاءها صوت أختها من خلفها، نزِقَا، حانقًا:
_هل صار ثائر أبلهًا أم ماذا؟ كيف يتصرف بتلك الهمجية؟!
التفتت إليها ولاتزال علامات عدم الفهم على وجهها ترتسم، لتسألها بفضول:
_أية همجية؟ ماذا حدث؟ لقد كنت أهاتف طبيبتي فلم...
قاطعتها رهام بغيظ وهي تشير بيدها بلا هدف:
_البِك تركني أحدث نفسي وعميت الغيرة عينيه ليختطف زوجته وينصرفان دون أن يتمتعان حتى بالتهذيب ويستأذنان من أصحاب الحفل!
ضاقت عينا رَغَد وهي تحاول ربط الخيوط ببعضها طالما أن لا أحد سيخبرها بالأمر دونما ألغاز:
_أية غيرة؟
ومن بين أسنانها أجابتها رهام:
_جلمود الصخر ذلك لم يتحمل كَون رمزي يتحدث مع ابنة عمه لدقائق، ألا يعلم بأنه من تركها بإرادته من قبل لأجلي أنا؟!
أطلقت رَغَد زفيرًا بطيئًا وهي تخمن أخيرًا ماذا حدث أثناء غيابها، وراغبةً في محو هذا الغرور المُقيت عن ملامح أختها أجابتها ببرود:
_يعلم بالطبع يا رهام، ومن الواضح أنه يسعد بذلك كثيرًا!
حدَّقت رهام بوجهها بغيظ لم تستطع إخفاءه، كما لم تستطع فهم سببه، وقبل أن تهم بِرد لاذع عاجلتها رَغَد بهدوء:
_دعك من ثائر ويُسْر، ها قد حققتِ ما تمنيتِ وتزوجتِ ممن أردتِ منذ سنوات، هل أنتِ سعيدة؟
والسؤال بسيط.. يحتاج لإجابة أكثر بساطة؛
"نعم، أنا سعيدة!"
أو..
"لا، لست سعيدة على الإطلاق!"
ما بالها لا تستطيع الجزم بشأن إحداهما؟!
التفتت بعينيها حيث يقف زوجها الحالي تنتشر على وجهه أبلغ علامات الغضب بعدما هتف به زوجها السابق بنبرة صارمة، ناهية، آمرة إياه ألا ينظر إلى زوجته الحالية!
دوار..!
تشعر بدوار!
ولا تستطيع الإمساك بإجابة تمنحها يقينًا وثباتًا، لكنها بنبرة مفتعلة سرورًا لم تشعر به منذ وقت ليس بالقليل، أجابت شقيقتها:
_بالطبع.. أنا سعيدة للغاية، أحب رمزي وهو لا يستطيع الاستغناء عني.
لكن رَغَد لم ترغب بإخبارها أن كذبها واضحًا، ولم تأبه بالأصل، لِذا انتقلت إلى هدفها الأكثر أهمية:
_وماذا قررتِ بشأن سيلا؟ هل تريدين رؤيتها ومحاولة بناء علاقة ودية معها؟
نظرت لها رهام بتردد لثوانِ، ثم ما لبثت أن قالت بنبره حلَّ الضياع عليها ضيفًا:
_لا أعلم رَغَد، هناك شيء بداخلي يمنعني، أنا.. أنا لا أشعر تجاهها بتلك المشاعر، لا أرى بها سوى ثائر وأيامي معه، لا أرى بها سوى سبب تعاستي القديمة!
وبعينين جامدتين أمعنت رَغَد النظر بها، بينما أردفت هي:
_كما.. كما أنني أعتقد أنها تبادلني شعوري، ربما هذا أفضل لي ولها.
وباقتناع تام أضافت:
_ستبقى الأعوام الست بيننا إلى الأبد، لن تنشأ بيننا علاقة طبيعية مطلقًا، كما.. أنني أطمئن بوجودك إلى جوارها، لا أظن بأنها تحتاجني.
ولم تستطع رَغَد إخفاء نظرات الحسرة التي ترمقها بها، فَعَلَّقَت بخفوت:
_هي بالفعل لا تحتاجك رهام، ليس بسبب وجودي وحدي، لكن لِوجود يُسْر أيضًا!
احتدت نظرة رهام تلقائيًا فتابعت رَغَد بنبرة متأملة:
_سبحان من نزع منكِ أمومة لا تستحقينها ومنحها لأخرى باتت وكأنها تتمتع بها تلقائيًا!
توترت عينا رهام فتهرَّبت بالنظر من شقيقتها مرددة بارتباك:
_رَغَد أنا..
وقاطعتها رَغَد.. قاطعتها موقنة أن نهاية المطاف قد حانت، وبصدق قالت:
_لا أعاتبك رهام، ولا أطالبك بشيء لا تستطيعين تقديمه، أتمنى فقط ألا تندمين، لأن الندم تأخر كثيرًا حتى يحل ضيفًا عليكِ، ولن يفيدك الآن بشيء على الإطلاق.
حدَّقت بها رهام بخوف، فأضافت رَغَد ضاغطة على كلماتها البطيئة الواثقة:
_أنتِ على وشك دفع ثمن نتيجة اختيارك.. للأبد!
وارتعد قلبها، خوفًا، وتوجسًا..
لا تحب دفع الثمن؛
لقد دفعت ثمن تخليها عن رمزي من قبل، ولا تريد دفع ثمن آخر!
هي ستعيش بسعادة مع من اختاره قلبها منذ الأبد؛
ستعيش بسعادة مع الرجل الذي تخلَّت لأجله عن عائلتها، والمستوى الرفيع، والحياة المُرفهة..
وطفلتها؟!
هي طفلة ثائر الجوهري!
**********
"طالما أنت كنت مستمتعًا للغاية بالتحدث مع زوجتك السابقة، لِمَ تمنعني من تبادل بعض الكلمات مع ابن عمي؟!"
ما إن وضعت سيلا بفراشها وعادت إلى غرفتها لتجده_خلافًا للأيام السابقة_ يجلس مرتاحًا على فراشهما حتى هتفت بهذا السؤال بغيظ لم ترغب بالتحكم به..
وما كان منه إلا أن هَبَّ واقفًا ليهتف بها بغضب وفير:
_بعض الكلمات؟! "بعض"؟! نحن لا نتبادل حوارًا من خمس دقائق متواصلة منذ أسابيع، لكنكِ تثرثرين معه كأنكِ أوصلتِ لسانك بمذياع!
وأضاف صائحًا:
_والحقير يحدق بكِ بكل وقاحة!
وبالرغم من أن الأمر لا يعنيها حقًا وهي بالأصل صارت تنزعج من اسم رمزي وسيرته، فإنها هتفت به بحنق:
_لا تسبه!
ليميل مقتربًا منها وشعلة جنونه تزداد جذوتها حتى باتت لتشعر باللهيب يلفح وجهها هي، وبتحذير صارم ردد:
_سأقتله إن تحدث إليكِ ثانية يا يُسْر، سأقتله!
ولا تعلم أي خاطر غبي جعلها تسأل هذا السؤال، بغيظ، وتوجس:
_أنت تغار منه، أليس كذلك؟!
ارتد إلى الخلف يضرب كفًا بالأخرى والذهول يعربد على ملامحه، ثم صاح بها مستنكرًا:
_أتسألين حقًا؟! لقد أخبرتك بنفسي كثيرًا أنني أفعل، هل عليّ أن أنشر إعلانًا بالجريدة أعترف به بهذا أم ماذا؟
واستكمالًا لنفس الخاطر الغبيّ، سألته بصراحة:
_على من تغار منه يا ثائر؟ عليّ أم على...
وعلى الفور هدر بها ناهيًا وهو يتجه إلى باب الغرفة ليوصده بالمفتاح قبل أن ينتشله ليضعه بجيب بنطاله:
_اصمتي! اصمتي واجلسي كي أخبرك كيف أنكِ صرتِ بلهاء خرقاء تغمضين عينيكِ عن نور الحقيقة وتتفوهين بالخرافات!
اندفعت إلى الباب تحاول فتحه بإصرار مع علمها بأنها لن تستطيع بالطبع، وهتفت بأقصى طاقة الغضب التي تملكت منها وسيطرت عليها تمامًا:
_أنا لا أريد الاستماع إليك، توقف عن سجني هنا وافتح الباب!
لكنه_مجددًا_ جذبها ليُجلسها رغمًا عنها على المقعد المواجه للفراش، وصاح أثناء اتجاهه إلى أحد الجدران ليغلق مفتاح الضوء:
_ستستمعين يُسر، ستستمعين إلى كل كلمة وبعدها اهربي كما شئتِ!
وبصياح متناهي الغضب سألته وهي تهب واقفة:
_لِماذا أطفأت الضوء؟ أشعله فورًا!
لكنها قبل أن تتجه إلى حيث يوجد المفتاح منتظرة صياحًا أعلى فاجأتها نبرته المناقضة تمامًا لِما كان يصرخ بها للتو!
فكانت أجشة؛
خافتة؛
بالهموم مُثقلَة!
_رِفقًا بي يُسر، أنا سأكشف عن جرحي للمرة الأولى فارحمي كبرياء تستسلم راضية من أجلك وحدك!
تسمرت مكانها لا تواصل اتجاهها إلى مفتاح الضوء، ولا تعود إلى مقعدها، وانتشرت ذرات الحذر في الغرفة المظلمة دون أن تفهم السبب!
لكنها لم تنتظر طويلًا حيث أردف:
_ما سأقوله يُسر.. لا يعلم بشأنه أقرب الناس إليّ، لا يدري أي شخص بتلك التفاصيل، لِذا لن أؤكد مدى أهمية كتمانها بالنسبة لي.
ازدردت لعابها وهي تدرك أنه جلس على الفراش الآن، والتزم الصمت لثوانِ..
لا تراه.. لكنها به تشعر!
_أخبريني يُسْر! أتعرفين ما هو الفرق بين العدالة والقانون؟
وفاجأها السؤال أيضًا، بحثت عن إجابة نموذجية لكنه لم يكن ينتظر حقًا، حيث تابع ببطء:
_لقد رأيتها منذ سنوات، مع أبيها بالشركة، لاحظت بالطبع مدى لباقتها وتهذيبها ومحاولتها لَفْت انتباهي فانجذبت إليها، وحينما شعرت بأنني تجاوزت مرحلة الإنجذاب أسرعت بِطلب الزواج منها لأنني آمنت بأنها النهاية الطبيعية و...
تشتعل.. تحترق.. تتآكل كل خلية بجسدها بينما يتحدث ببساطة عن قصته الأولى!
لِذا قاطعته بلهجة حملت كبرياءًا صارخًا:
_لست في حاجة لِسماع قِصة عِشقك لها ثائر، فأنا لدي معلومات كافية عن الأمر.
ومن بين نيران أوجاعه أثلج وجهه بابتسامة دافئة، ليقول بصوت مبحوح:
_ليس هذا وقتًا لِغيرة لا محل لها يُسر، أما عن العشق أنا لم أقل مُطلقًا أنني عشقتها، إنما أحببتها فقط.
وبصوت أكثر عمقًا أردف:
_العِشق لم يُخلَق بِقلبي سِوى لِواحدة!
ازدردت لعابها وهي تشيح بوجهها بعيدًا عن نظراته التي لا تراها، فما كان منه إلا أن استعاد خيط الحديث:
_تزوجنا على الفور، شهران من السعادة والرضا، شهران من الشعور بأن كل شيء في مكانه الصحيح، العمل يزدهر وأنا أعيش حياة سالِمة مع زوجة لطيفة، حتى أختها تبدو مُهتمة بأخي.
وسكت..؛
سكت ليتألم، وتوقن هي أنه الآن يتألم؛
لا تراه.. لكنها به تشعر!
_وبدأنا المُنحدر، ملل، شجارات لا دوافع ولا حصر لها، سخط تام على كل شيء، بقاء لدى أهلها لأيام دون إبداء أسباب، وأنا لا أدري أين المُشكلة!
وابتسامة صادقة رافقت كلماته التالية:
_ثم فجأة هاتفتني والدتها قائلة :" زوجتك حامل يا ثائر!".
واتسعت الابتسامة، واهتز صوته بفرحة طاغية، ثم تابع بحنان وكأنه يعيش نفس اللحظة الآن مجددًا:
_كدت أصل إليها طائرًا، سأصبح أبًا بالفعل، هناك طفل صغير ينتظرني وربما يحمل لي بعض الأمل في استعادة هناء مفقود.
ومُحيت الابتسامة، وحلت مكانها الدهشة، وجاء الغضب مع الحقد ملوحين باحتلال كلماته:
_والصدمة كانت رغبتها في إجهاضه، والصدمة القاتلة كانت طلبها الطلاق للمرة الأولى.
ورفع رأسه لينظر حيث من المفترض أنها تقف، ليقول بجدية:
_أصدقك القول لِوهلة كنت على وشك تحقيق مطلبها، لكنني شعرت بالشفقة عليها واعتقدت أنها ربما تعاني ذلك الغضب المفرط بسبب الحمل.
وعاد الحزن مع الألم، وعاد القهر مختلطًا بالكثير من الندم:
_ وثمانية أشهر من العذاب الخالص، أهملت عملي وبدأت الشجارات بيني وبين زيدان من أجل تكثيف وقت تواجده في الشركة حتى ظن أنني أردت السيطرة عليه وتسييره، أصبحت أبقى إلى جوارها طوال الوقت، أُدلل وأُغازِل وأبحث لها عن دوافع كي أتحمل في صبر.
وزادت حشرجة صوته أثناء متابعته بلهجة تلونت بالسواد التام:
_ويوم الوضع كان من أسوأ الأيام بِحياتي، ما إن أصبحت حالتها أفضل كانت أول عبارة تنطقها:" أنا أكرهك ثائر، أنت السبب!"
وضعت كفها على فمها وعيناها تتسعان بلا تصديق؛
إن كان يعاملها بذلك الحنان والاهتمام، كيف بامرأة عاقلة أن تكرهه؟!
_وبالرغم من الجرح الذي تخللني فإنني عزيت الأمر إلى ألمها الشديد وتجاوزت، وكان كل أَمَلي أنها عندما تحمل رضيعتها بين يديها ستشعر بِحنان الأم الطبيعي وستكُف عن سخطها عليّ.
وانطلقت منه ضحكة ساخرة، متألمة، ليضيف بلا اكتراث توقن هو أنه علامة لكل الاكتراث:
_وصدمة أخرى عندما رفضت بِإصرار أن تقوم بإرضاعها، رَمَتها بِنظرة جانبية ثم أولتها ظهرها، فَسَّرت الأمر بأنه اكتئاب ما بعد الولادة كي لا أُصاب أنا بالجنون، أي أم ترفض حمل رضيعتها؟!
زفر أنفاسًا ثقيلة وصمت لدقيقة كاملة لم تفعل هي خلالها شيئًا سوى أنها ظلت بمكانها ثابتة، تنتظر استئناف، تحترم حزن، تقدر عذاب..
_أصررت على أن تزور طبيبة نفسية، والتي أكدت لي أنها لا تعاني شيئًا، لكنني لم أصدقها وتشبثت باعتقادي فحاولت مع طبيبتين آخرتين لأجد نفس التشخيص، والاكتئاب استمر لِشهر، ثم شهرين، ثم عام كامل، بدأت أنا أسمح لِغضبي بالظهور، بدأت أصرخ بها معترضًا وموبخًا، عندئذِ جَددت هي طلبها بالانفصال، ثم تركت القصر ثانية.
وضحك مجددًا بسخرية من نفسه بالرغم من أنه لم يخبرها..
_هنا جاء دور أمي لِتقنعني بأنني من لا أعلم كيفية التعامل معها، جميعهم عايشوا هدوءها ورِقتها وحُزنها، لكن صياحها وسخطها وغضبها كانوا حقوقًا حصرية لي وحدي.
والصمت طال لدقيقتين أو ثلاث، لا تعد، ولا تهتم، فليصمت كما يشاء وليتحدث وقتما يشاء؛
ستنتظر!
_وفي العام الثالث، وفي يوم سيء آخر أصررت أنا على أن يكون بداية جديدة لِثلاثتنا معًا، فسيلا_غريزيًا_ أظهرت تعلُّقًا شديدًا بها بالرغم من جفائها معها.
وتسارعت أنفاسه التي سمعتها واضحة، والآن هي متيقنة من أن ما سيقوله سيكون جارحًا كسكين.. أو ربما خنجر!
الخنجر دومًا دليل الخيانة؛
وهي تعلم أنها مُقبلة على قصة الخيانة!
_خرجنا في نزهة إلى أحد مراكز التسوق الذي أعلم أنها تحبه، كانت سيلا سعيدة للغاية وهي تتحسس الألعاب بفضول ثم تنتقي ذلك الدب بتصميم.
والابتسامة التي تتخلل أية كلمات تذكر سيرة طفلته يبدو أنه يرسمها كي لا يستسلم للجنون، لكنه استطرد بجمود:
_أما هي فكانت كما حالها الدائم، لا مُبالِية، لا مُهتمة، في عالم آخر تمامًا، وفجأة انقلبت الموازين والأمور تسير أمام عيني وأنا لا أراها.
وأنفاسها هي من تسارعت رغمًا عنها، لكنه تابع بلا توقف طويل:
_فجأة ارتبكت وتوترت، كانت تتلفت حولها بحثًا عن شيء ما، أو.. أو شخص ما!
وابتسامته الساخرة _رغم صمتها_ كان لها صوت عندما أردف بعد قليل:
_كانت كالصنم الذي دَبَّت به الروح فجأة، وبالرغم من قلقي ودهشتي، فإنني شعرت بالأمل مرة أخرى، ذلك الأمل الذي وأدته هي عندما قالت ببساطة: "أنا لا أحبك، لم أفعل يومًا، ولن أفعل إلى الأبد!"
وضحكة أعلى ارتفعت منه وهو يتمتم بحسرة:
_كم كنت أحمقًا!
وأخيرًا تخلت عن ثباتها لتقول بصوت خافت:
_ثائر، لا تتابع، توقف!
لكنه هز رأسه رافضًا، وبإصرار قال:
_لا يُسر، سأتابع لأنني أريد ذلك، أريد إطلاعك أنتِ بالذات دون غيرك، فاسمحي لي!
وأُجبِرَت على الصمت مجددًا، ليستكمل هو بكلمات لاهثة بعض الشيء:
_تلك الليلة تأكدت من نوم سيلا ولم أبق إلى جوارها طويلًا كما عادتي كي أعود إليها لنضع حدًا لذلك العبث، وعندما ذهبت إلى الغرفة تلقيت أقسى صفعة على وجه رجولتي وكرامتي!
ولهاثه صار أقوى وأكثر سطوعًا، بينما أضاف بحقد انفلت منه:
_كانت تهاتف صديقتها باكية باستغراق تام مُسددة بِكل كلمة طعنة نافذة إلى قلبي الغبي!
ونظر حيث تقف، وتعلم هي أنه يحدق بها بترقب..
لا تراه.. لكنها _بالطبع_ به تشعر!
_أتعلمين ماذا كانت تقول زوجتي؟
هزت رأسها نفيًا للسؤال، ورفضًا للاستماع، لكنه تابع بنبرة ثلجية تناقضت تمامًا مع فحوى كلماته الحارقة:
_ " لقد رأيت رمزي اليوم! يا الله كم اشتقتُ إليه؟! لم يراني سُهى، كنت على بُعد خطوات منه ولم يراني."
شحب وجهها في ظلام الغرفة بينما يواصل هو حديثه ببساطة:
_ "لم يكن باستطاعتي أن أُهروِل إليه كما اعتدت، لم يكن باستطاعتي الارتماء بأحضانه والشكوى إليه، لم يكن باستطاعتي التمتع بحُبه وحنانه."
ارتفع حاجباها إلى أقصاهما حتى نست أن تطالبه بالسكوت، ليضحك ثانية ثم يقول وكأن الأمر لا يعنيه على الإطلاق:
_ "أنا أذهب كثيرًا إلى محل عمله لأراه من بعيد، لكن اليوم كان قريبًا بِشدة!"
تخلصت من حالتها المتخشبة وهي تطلب منه بصوت خرج ضعيفًا:
_كفى ثائر!
وثائر كان قد انتقل بالزمن إلى حيث تلك الليلة، فأردف بلا أدنى اهتمام بطلبها:
_ "أموت سهى، بل أتمنى الموت ولا أجده، ولا أجد سِوى العذاب مع رجل آخر."
ارتفع صدرها وهبط بتنفس سريع لتتجه إلى الباب قائلة برجاء:
_ثائر لا أريد الاستماع، افتح الباب!
_ "حب؟! عن أي حب تتحدثين سُهى؟ أنا لم أحب بحياتي سِوى رمزي، أما ثائر فأنا ألعن نفسي كل يوم لِزواجي منه."
ندت عنها شهقة واضحة فتوقفت بمنتصف المسافة، لتُعاجلها عبارته التالية، القاتلة:
_"لا أهتم إن كان ثائر يُحبني أم لا، أنا لا أطيقه، لا أتحمل بقائي معه، أنا.. أنا أشعر بالاشمئزاز منه، أشعر بالكراهية لنفسي كلما اقترب مني، أنا أكاد أن أمزق جلدي حينما يتسخ بلمساته، أشعر أنني أخون رمزي! "
انطلقت رأسًا إليه لتجلس على ركبتيها أمامه متمتمة بتوسل:
_حبيبي أرجوك لا أريد الاستماع، أرجوك توقف، لا أتحمل.
_"أكره رؤيته، أكره كوني زوجته، أكره اضطراري لِتقبُّل كل ما يُقدمه بينما أنا لا أحلم سِوى بخلاصي منه، حتى كلمة أحبك التي يُلقيها على مسامعي تثير بداخلي غثيانًا لا حدود له."
وسَكَت.. وبَكَت، ثم زفرت بارتياح عندما توقف، لكنه خدعها، فقد كان يخبىء الخنجر الأخير للنهاية!
"أكون معه فأتخيله رمزي لأحارب رغبة قاتلة بالتقيؤ!"
ربما توقفت دقات قلبها لِثوانِ؛
ربما نست أن تتنفس؛
وبالتأكيد لا يرى عينيها الجاحظتين بظلام الغرفة!
هذه المرة لم تطالبه بالتوقف، ربما لأنها هي الآن من تشعر بالغثيان حقَّا، فاستغل الفرصة هو ليتابع بتهكم:
_وأعتذر إن كنت سأخذل توقعاتك فلم أتمسك بهدوئي أكثر وصفعتها، مرتين أو ثلاث لا أتذكَّر..
واندلع الحقد بصوته وهو يضيف بغضب:
_كِدت أُلقي عليها يمين الطلاق لكنها_المُجرمة_ توسلتني ألا أفعل وهددتني أنها ستأخذ سيلا، ثم منحتني اختيارًا آخر بأن أجعل زيدان يبيع أسهمه لوالدها حتى لا يُكدر حياتها في حالة الطلاق!
ثم مط شفتيه بلامبالاة قبل أن يقول قال بقهر:
_عرضت عليها المال فرفضت، صِراخ مُتبادل وشجار يزداد على مرأى من الجميع الذين لا يفهمون السبب، ثَقُلَت كفة كرامتي وأوشكت على الموافقة على احتفاظها بسيلا كي أتخلص منها.
مسح وجهه بكفيه ثم تابع هامسًا:
_وكان خطئي أيضًا، بلحظة سقطت سيلا في المسبح وانقطعت أنفاسها لِثوانِ أدركت أنا خلالها أنني لن أستطيع تحمل ابتعادها عني يومًا واحدًا.
وبنبرة مكتومة تحدث بعد قليل بينما هي تكافح حتى لا تتفوه بكلمة يفهمها بمعنى مخالف:
_وما إن أصبحت حالتها أفضل حتى اتخذت أصعب وأسوأ قرار بإمكان أي رجل اتخاذه، لا تتخيلي بِمَا كنت أشعر كلما رأيتها واضطررت لالتزام الصمت كي لا تتأثر طفلتي أكثر أو كي لا أظلم شقيقي فأجعله يتنازل عن حقه!
وثقل صوته أكثر، وازداد قهره أكثر ليقول بغضب:
_أخبريني إذن يُسْر! ما الفرق بين العدالة والقانون؟
والألم الذي يشفى هو منه الآن يتسلل إليها تلقائيًا؛
ترغب بقول الكثير، تتمنى فعل الكثير، لكنها لن تتحمل أن تُزيد في جرحُه إن لم تتخير كلماتها..
وبذات الغضب أردف:
_القانون يقتضي أن تحتفظ هي بطفلتي التي لا تحبها، القانون يقتضي أن أُحرَم من طفلتي التي لا أتخيل حياتي دونها.. لكن ماذا عن العدالة؟
كان يسألها حقَّا هذه المرة وينتظر الإجابة، لكنها للأسف لم تملكها!
فما كان منها إلا أن همست بألم:
_يا إلهي! ثائر!
هز رأسه رفضًا قائلًا بصرامة:
_لا يُسر، إياكِ! لا أستحق إهانتك بالإشفاق عليّ، لم يكن هذا دافعي كي تعرفي.
سارعت هي بكلمات مرتجفة، حانية:
_لم أُشفِق، أقسم أنني لم أُشفق، أنا فقط.. فَهِمت.
لم يعلق فتابعت هي برجاء:
_هل يمكنني تشغيل الضوء؟ أرغب برؤية عينيك حبيبي!
ازدرد لعابه والقلق يحتله مجددًا؛
لا يرغب بأن تراه الآن؛
ربما سيقضي الليلة خارج القصر بأكمله، أو ربما حتى سيسافر إلى حيث المنزل الصيفي و..
_لا يُسْر، سأخرج أنا و...
لكن الضوء انتشر بالغرفة فورًا بعدما تغاضت عن رفضه بعناد، وعادت حيث كانت لتوها تجلس؛
عادت وكأن ثائر الذي دخل هذه الغرفة منذ دقائق ليس هو نفسه الذي تراه الآن؛
وكأنه أصغر عُمرًا، وأَخَف هَمَّا!
وكأنه كان مريضًا وتم علاجه!
وكأنه نزح عنه كل الثقل!
_لا أمل بِعنادك مُطلقًا.
قالها بابتسامة ضعيفة، يحدق بها بعينين صافيتين؛
عينين لرجل يتعطش للصدق، يتوسل الأمان، يذوب بهذا العشق بنظراتها له!
أحاطت وجهه بكفيها فاستسلم صاغرًا، مُرحبًا، لرائحة قربها مستنشقًا، وبكل قوة المُحببة إليه قالت:
_استمع إلي جيدًا، أنت ثائر الجوهري، لا يخضع، لا ينحني، لا يستسلم لأفكار مثل تلك، ربما عانيت اختبارًا سيئًا، ربما عايشت أيامًا صعبة وتحملت ما لا يتحمله رجل مهما كانت المبررات، لكن.. لكنني فخورة بك ثائر، أكل هذا الحنان يختبئ خلف قسوتك؟! أكل هذا الحب يختبئ خلف إدعاءك بالكراهية؟!
أغمض عينيه جاهلًا بالرد المناسب، لكنها أجبرته على فتحهما على الفور عندما تابعت بصرامة:
_أنت حافظت على ابنتك بِكل استطاعتك ثائر ولم تتنازل عن حق شقيقك، يجب عليك التفكير بالأمر من هذا المُنطَلَق.
وأغمضت عينيها بألم شديد وهي تُفسر أخيرا ابتعاده يوم تقاربهما الأول؛
لكن جبينها تجعد بندم وهي تتذكر كلمات ألقتها بنفسها عليه باليوم التالي كذبًا مُعلنة رفضًا لم تشعره ونفورًا لم يطرق بابها مُطلقًا؛
"كيف كان شعوره وقتها؟!"
"كيف كان تقبلُه لسكين مُماثل للمرة الثانية؟!"
لكنها فتحت عينيها لِتُغلق كل ذكريات الماضي وأسرار موجعة كشفها أمامها كيلا تنتابها غيرة لا داعِ لها، واعدة نفسها وإياه دون كلمات أنها ستبذل كل جهودها كي تعوضه!
وابتسمت بحنانها الذي بات يُدمنه بالفعل، لتقول بدلال لا تمل من رؤية تأثره به:
_وإذا فكرنا في الأمر مليًا ستجد أنه لولا حدوث كل ذلك لِما تقابلنا، ولِما أحببتك.
واستجاب؛
وشدها لأحضانه مُتخلصًا من عِتابه الصامت لها، ورغبته بمعرفة مدى تمسكها به؛
وارتفعت يداه ليحيط بجذعها هامسًا:
_ولِما عشِقتِك أنتِ وحدِك يا قطرات الندى!
ثم مال عليها ليُقبلها بشوق خرج عن سيطرته بعد أسابيع طويلة، ولا أكرم منها من مُضيف!
**********
على مهل يسير وبلا هدف يتأمل أرجاء الفيلا الواسعة؛
لكنها تضيق على أنفاسه وكأنها القبر!
الجدران عصرية التصميم؛
لكنها _في هذه اللحظة_ تجثم على الصدر!
يستعيد ذكريات عشوائية لا يعلم لِماذا الآن بالتحديد تندفع إلى عقله..
يوم أن شارك محمد الجوهري بنسبة قليلة في شركته.. لكنه نوى ألا يقف عند هذا الحد؛
يوم أن مرض محمد الجوهري فأولى القيادة لابنه الأكبر.. فشعر بأنه قارب على تحقيق أهدافه؛
يوم أن طلب ثائر الزواج من ابنته الكبرى.. فكاد أن يرقص طربًا وهو يرى نفسه بعد فترة قليلة قد حاز ما يصبو إليه؛
يوم أن لاحظ إعجاب الصغرى بزيدان.. فرأى فيه الأمل الجديد بعد أن خاب القديم بسبب حنكة ثائر!
والفشل جرَّ فشلًا وأنتج آخر؛
حتى قام زيدان بخطبة أخرى واقترب موعد الزفاف؛
لا يتحمل العقبات ويحب التغلب عليها!
وقد تغلب عليها حقًا، وانتظر بصبر.. لكن عاد الفشل مُضاعفًا؛
فالكبرى أضاعت كل خططه هباءًا، والصغرى لا تساعده!
ثم استيقظت القصة التي دفنها في نفس القبر مع الضحية..
للمرة الأولى يقع تحت طائلة التهديد؛
وللمرة الأولى لا ينتبه إلى ذيل ثعبان التف حول عنقه فكاد يزهق أنفاسه!
والآن..
يكاد يرى نفسه مُعلَّقًا بأحبال المشنقة، أو إن استطاع أكثر المحامين مهارة مساعدته سيقضي بقية حياته بالسجن!
أسيرضى بهكذا نهاية؟!!
بخطوات ثقيلة.. بطيئة.. يائسة دخل إلى غرفة المكتب؛
تطلع إلى كل جزء منها مليًا بينما أنفاسه تزداد ثقلًا وكأنها أطنان من الرمال ترتفع في صدره!
ولماذا ضاقت حتى هذه الغرفة الآن عليه حتى يشعر بأن الجدران ستلتحم معًا فتدعسه أسفلها؟
وبتؤده اتجه إلى مقعده الوثير، وبثقة فتح الجارور، وبرهبة امتدت يده إلى هذه العُلبة التي تحوي أقراص مُنومة، وبلا تردد ابتلع ما فيها كاملًا!
**********
بعد خمسة أشهر:
مستسلمة تمامًا لأصابعه التي تتخلل خصلات شعرها بينما كلاهما يتهرب من النوم بإصرار رغبًة بقضاء أكبر وقت بصحبة هذا الليل الذي يحمل نسمات يستمتعان بها سويًا.
على المقعد الواسع بشرفة غرفتهما تجلس بين ذراعيه، وعلى ضوء خفيف يتسلل من أعمدة الإنارة بالحديقة تحدق به مليَّا، ليشعر هو بها فيفتح عينيه وينظر إليها مُبتسمًا!
_لِمَ لم تنامي حتى الآن؟!
سألها بخفوت أثناء انتقال أصابعه من شعرها إلى وجنتها، فأجابته ببساطة وهي تنظر لها بتفحص يُغرقها به أكثر:
_لا أشعر بالرغبة بالنوم.
مالت شفتيه في ابتسامة موحية وهو يقرص مقدمة أنفها قائلًا:
_أخبريني بما ترغبين إذن وسألبي على الفور!
تمسحت كالقطة على صدره لتجيبه ببطء:
_أرغب بهذا الدفء ثائر، لا أشبع مُطلقًا من هذا الدفء.
ووصلت أصابعه إلى شفتيها هامسًا بإغواء:
_باستطاعتي تحويله إلى اشتعال هذه اللحظة، ما رأيك؟!
أفلتت منها ضحكة رقيقة قبل أن تهمهم بدلال تعلم خطورته عليه جيدًا وتستغله بذكاء:
_ثائر!
ونجحت، ليميل طابعًا قُبلة حنونة على ثغرها مغمغمًا بحرارة:
_يا نيران ثائر التي لا تنطفئ يومًا!
اتسعت ابتسامتها وهي تشرد بخاطر معين، مجرد توقع لكنها تخشى أن يخيب هذه المرة أيضًا، ليس من أجلها فهي كعادتها تتسلح بالصبر، لكن خشية إحباطه هو!
أشهر مرت منذ أغلقا كل صفحات الماضي التي أرقت حياتيهما، واتخذا عهودًا على عدم ذكرها ثانية!
لكن يظل هوسه بحُلم الإنجاب لا يدعه وشأنه إطلاقًا!!
تعترف أنها بأول شهرين اعتقدت أن هذا الهوس عائد إلى شعوره بالذنب تجاه طفلهما الذي لم يُكتب له الميلاد، لكنها بمرور الوقت تأكدت أنه يتوق بالفعل للحصول على طفل منها هي بالذات!
بكل شهر ينتظر، يحسب الأيام، يتشوق، ويستعد.. حتى يتلقى خبر عدم حدوث الحمل فيرتد خائبًا، يقتات اليأس عليه لبعض الوقت، ثم ما يلبث أن يحسب الأيام بحماس مرة أخرى.. وهكذا!
لكنها نجحت بتشتيته والتهرب منه منذ أمس الأول ولم يسأل، ربما بسبب تلك الصفقة الجديدة التي أوشك على أن ينجح باقتناصها فانشغل قليلًا عن هذا الأمر!
_أتعتقدين أن هناك احتمالية لأن تكوني حاملًا هذا الشهر؟
ابتسمت باستسلام وأغمضت عينيها، لثوان ظلت صامتة تضم نفسها إلى صدره أكثر قبل أن تجيبه ببساطة:
_أعتقد أنني حامل بالفعل!
ودفعها بعنف قبل أن يقفز واقفًا، ليسألها بذهول:
_يُسْر! ماذا قلتِ؟!
وبأسرع مما توقعت نزعها من حالة السلام التي كانت للتو تسبح بها، ثم قالت بتوجس:
_قلت أنني ربما..
لكنه جذبها من يدها لتقف رغمًا عنها ثم دفعها إلى داخل الغرفة وهو يقول بحزم:
_هيا بنا! هيا معي!
والتقط قميصًا من فوق المشجب ليضعه على جذعه بإهمال بإحدى يديه، ثم التقط إسدالها من نفس المشجب وألقاه إليها فأمسكت به تلقائيًا وهي تسأله بِحَذر:
_إلى أين ثائر؟! ماذا تفعل؟!
وتثبتت نظراتها على ما تحمل بين يديها لتسأله بحذر أكثر وضوحًا:
_ماذا أفعل به؟!
بينما هتف هو أثناء ارتداء بنطالًا رياضيًا لا يتماشى مطلقًا مع القميص الرسمي الأنيق الذي وضعه:
_ارتديه بالطبع يُسْر!
لكنها طردت الفكرة المجنونة خارج عقلها لتقول بقلق:
_الفجر لم يؤذن بعد!
وضع أحد طرفي القميص بداخل بنطاله ونسى أن يضع الآخر أيضًا وهو يرد عليها بنزق:
_ارتديه لأننا سنخرج حالًا، سأخبرك بالطريق، هيا!
...
"نريد إجراء اختبار حمل الآن!"
قالها بنبرته الصارمة للطبيبة التي اعتادت رؤية العجب أثناء نوباتها الليلية بهذا المعمل، وبينما نظرت له بارتياب أشاحت يُسْر بوجهها بعيدًا بحرج، قبل أن تهمس بأذنه بغيظ:
_أتعلم أن هيئتي بإسدال الصلاة، وهيئتك بأزرارك المعقودة بفوضوية وشعرك المشعث مع وجهك الشاحب يعطون إيحاءات بأننا ارتكبنا خطئًا ونود التأكد من أجل سرعة التصرف؟!
لكنه منحها نظرة حازمة ثم رد بجدية:
_هكذا خطأ أنا أفخر بوقوعه، فقط اصمتي ورددي الدعاء بأن تكون النتيجة إيجابية!
...
"النتيجة إيجابية!"
قالتها الطبيبة بامتعاض واضح وهي تضع أمامهما تقريرًا يثبت عبارتها البسيطة..
لكن مردودها عليهما معًا لم يكن أبدًا بسيطًا!
أو عليه هو بالأخص!
_أتعنين أن زوجتي حامل؟!
سألها بصوته الذي تحشرج دون سبب، لكن الطبيبة خمنت السبب بالطبع وهي ترى أن وجهه قد شحب تمامًا، بينما الذهول يعربد على ملامحه بحرية تامة!
وبنفس الامتعاض أجابته بلهجة متهكمة ذات مغزى:
_نعم، "زوجتك" حامل!
لثوان ظل ينقل عينيه المتسعتين ذهولًا بين الطبيبة ويُسْر..
الأولى كانت تحدق به بتوجس وبسخرية وبالكثير من الاتهام؛
أما الثانية فكانت تشفق عليه حقًا رغم شعورها بالغيظ منه!
صدره يرتفع وينخفض بطريقة منذرة بالخطر، وجبهته تتفصد بالعرق رغم برودة الجو بسبب المكيف، حتى أن أصابعه أخذت ترتجف فلم يلاحظها!
ولمَّا تأكدت الطبيبة من شكوكها، هَمَّت يُسْر بسحبه خارجًا.. لكنه بنفس اللحظة دفع يدها برفق.. ليَخُرَّ ساجدًأ!
التصقت جبهته بالأرض لدقيقة كاملة بينما يُسْر تحدق به بانشداه أثناء وصول همساته الشاكرة اللامتناهية إلى أذنيها وأذن الطبيبة التي تحول امتعاضها إلى دهشة ثم ابتسامة بعد أن استوعبت حقيقة الأمر!
لكم تمنت يُسْر لو كان هاتفها معها هذه اللحظة! لكانت قامت بتوثيقها بالصوت والصورة لتُطلِع هذا الكائن برحمها عليها مستقبلًا فيعرف كم كان يتمناه والده!
والده.. الذي وقف أخيرًا يحدق بها بنفس الذهول؛
وفي حين أن شحوب وجهه تحول إلى احتقان في علامة واضحة لإخفاء دموعه انحدرت دمعاتها هي بسخاء على وجنتيها المتوردتين تأثرًا.
_أنتِ الآن تحملين طفلي يا يُسْر، أنتِ ستنجبين طفلًا يحمل اسمك واسمي معًا بشهادة القيد!
رددها وهو يتحسس بطنها المسطحة دون اهتمام بالطبيبة التي ترقرقت عيناها بالدمع أيضًا!
وبينما كانت هي تبحث عن رد سحبها برفق إلى الخارج، ودفعها أيضًا برفق داخل المصعد، وما إن أُغلقت أبوابه حتى جذبها إلى أحضانه مُقبلًا جبهتها بعاطفة دافقة وهو يردد شكرًا متتابعًا.
*****نهاية الفصل الرابع والثلاثين*****
إلى اللقاء في الخاتمة
في انتظار آرائكم وتصويتكم 💜💜💜

وأذاب الندى صقيع أوتاري   (مُكتملة)Where stories live. Discover now