١٧..دوّامة مشاعر

1.4K 82 22
                                    

وقفت هزان و ابتعدت عن ياغيز لبضع خطوات قبل أن تلتفت نحوه و ترد بعصبية:
_ ياغيز..حُبّا باللّه..ماذا تريد أن تفعل؟ هل تريد أن تصيبني بالجنون؟ عن أي زواج تتحدّث؟ هل الأمر بهذه البساطة؟ ليلة البارحة أخبرتني بأنك لن تضغط علي و لن تستعجلني و اليوم تقترح أن أتزوجك؟ قراراتك المتسرعة هذه و وليدة اللحظة ليست سوى سبب إضافي لكي لا أثق بك..من يدري ما هو القرار الفذّ و المفاجئ الذي قد تتخده غدا؟ الأمر بيننا صار يتخذ منحى سريعا و مخيفا..أخبرني ياغيز..ماذا تعرف عنّي لكي تعرض علي الزواج؟ منذ متى نعرف بعضنا نحن لكي نتحدث عن هذه الخطوة الجدية؟ هل نسيت كيف كانت علاقتنا و مالذي كان بيننا؟ أبهذه السهولة نقفز من مرحلة الى أخرى و كأننا نلعب لعبة ما؟ ثم مالذي تريد اثباته لي بهذه الخطوة؟ هل تريد بأن تثبت لي بأنك تغيرت الى الدرجة التي ترضى فيها على نفسك أن تتزوج امرأة قضت معك ليلة مقابل المال؟ أهذا هو التغيير بالنسبة اليك؟ هل تريد أن تريح ضميرك على حسابي أم ماذا؟ هل الأمر هو مجرّد اثبات سلطة و نفوذ؟ وقعت في الحب و قررت أن تتزوج لكي لا تترك مجالا لغيرك و لكي يضيع من يدك ما تريده لنفسك؟ مالذي خطر ببالك فجأة لكي تعرض علي عرضا وليد اللحظة كهذا؟ هل كنت تعتقد بأنني سأطير من الفرح و سأقبل على الفور لمجرّد أن العظيم ياغيز ايجمان عرض علي الزواج و اختارني أنا دونًا عن كل الفتيات اللواتي عاشرهن؟ هل القليل الذي أعرفه عنك كافٍ بالنسبة اليك لكي أرتبط بك لبقية حياتي؟ لا..اعذرني..هذا ليس كافيا بالنسبة الي..و قرار مصيريّ كالزواج لا يتخذ هكذا دون سابق تفكير او تخطيط.
كان يسمع كلماتها و وجهه ينطق بألمه المضاعف..ألم الاصابة و الجروح..و ألم قلبه الذي كان يمنّي النفس بأن تقبل بعرضه..حاول أن يقف لكنه لم يقوى على ذلك..أنّ متألّما فاقتربت منه و قالت:
_ لا تنهض..لن تقوى على الوقوف و رجلك مثخنة بالجروح..ابقى هنا و سأصعد بضع خطوات على هذه التلّة القريبة لكي أتصل بجلال.
همّت بالابتعاد عندما وضع يده على ذراعها و تمتم بصوت ضعيف:
_ سامحيني هزان..لم أقصد ازعاجك..و عرضي لك لم يكن وليد اللحظة كما ظننت..بل فكرت فيه سابقا و تحديدا منذ تلك الليلة التي اعترفت فيها لنفسي بأنني أحبّك..أريدك أن تتزوجيني ليس ارضاء لضميري و لا لإثبات نفوذي أو سيطرتي كما قلت..أريدك زوجة لي لأنني لم أعد قادرا على تخيل حياتي من دونك..لأنني أحبك و لأن هذا النفس الذي أتنفسه لم يعد يعني لي شيئا ان لم تكوني بجانبي..لأنني صرت متأكدا تماما بأنك المرأة الوحيدة التي أريد أن أقضي معها بقية حياتي..هزان..أنت لست إمرأة عاديّة بالنسبة إلي..متى ستفهمين ذلك؟ أنت مميزة جدا و لا تشبهين إلا نفسك..و هذا يجعلني أدرك قيمتك و مميزاتك الكثيرة..و هذه المميزات هي التي تجعل أي رجل يتمناك زوجة له..لا تستهيني بنفسك أبدا..و لا تجعلي ما حدث يفقدك ثقتك في نفسك..دعي الماضي يذهب دون رجعة و..
قاطعته:
_ ياغيز..أخبرتك سابقا بأنني أحتاج الى الوقت لكي أنسى و أدفن الماضي..و أحتاج أيضا الى الوقت لكي أعرفك أكثر..لكي أتعوّد عليك..و لكي أثق بك و أتقبّل هذا التجاذب الغريب الذي يحدث بيننا..الزواج بالنسبة الي قرار مصيري و خطوة جدية لتحديد منحى حياتي..و لست مستعدة لاتخاذ قرار كهذا بتسرّع و تعجّل..لهذا..سأعتبر بأنني لم أسمع منك هذا الكلام..و سأنساه و كأنه لم يحدث..و سآخذ وقتي لكي أحدد طبيعة العلاقة التي أريدها معك..و أتمنى منك أن تتفهم هذا..و ألا تستعجل الأمور مرة أخرى..لأن هذا يزعجني و يربكني.
طأطأ رأسه و همس باستسلام:
_ حسنا..كما تريدين..و من جهتي لن أزعجك بأي تصرف أو كلام مرة أخرى..سأحاول أن أدع الأمور بيننا تأخذ وقتها الطبيعي..و آسف مرة أخرى.
ربتت بخفة على كتفه قبل أن تبتعد عنه و تصعد التلّة..رآها تتكلم عبر الهاتف ففهم أنها وجدت تغطية هناك..عادت اليه بعد وقت وجيز و قالت:
_ الحمد لله أنني وجدت تغطية في الأعلى..لن يتأخر جلال و سيحضر رفقة الشباب لاصطحابك الى المزرعة.
لم يجبها..كان يئن بصمت و قد شحب وجهه كثيرا و كان ينشب أصابعه في فخذه لكي لا يصرخ من شدة الألم..جسده كان يرتعش و قطرات العرق كانت تلمع على جبينه..وضعت هزان يدها على جبهته لتمسح العرق فشعرت بحرارته المرتفعة..غمغمت بصوت خافت:
_ يا إلهي..إنك تحترق.
اختلج جسمه بشدة و راح يردد بنبرة ضعيفة:
_ أشعر بالبرد الشديد..أطرافي تؤلمني..و عيوني ثقيلة.
أحاطت هزان وجهه بيديها و قالت:
_ ياغيز..انظر الي..لا تنم..تحدث الي..لا تغمض عيونك..سيصل جلال و البقية خلال دقائق..لا تستسلم أرجوك.
ثم تفقدت جراحه فوجدته ينزف من جديد..أخرجت منديلا من جيبها و ضغطت به على الجروح لكي توقف تدفق الدماء و عيونها مثبّتة عليه..رأت رأسه يميل على الشجرة فنبّهته من جديد لكي لا ينام..
نظر اليها بعيون ثقيلة و غمغم بصوت ضعيف:
_ هو السبب..هو من جعلني أقترف أبشع الأخطاء..لقد ملأ رأسي بالأفكار السيئة عن النساء.
سألته لكي تسايره و تفتح معه حديثا يلهيه و يمنعه من الاستسلام للنوم:
_ عمّن تتحدث؟ من هذا؟
أجاب بصعوبة:
_ انه..أبي..هو..من..صنع..مني..وحشا..بلا روح..و بلا قلب..هو من شوّهني و حوّلني الى مسخ بشع جدا..لقد أخرج كل سمومه بعد أن تركته أمّي و ملأ بها رأسي..آذاه كثيرا هجران أمي له..هو يحبها..و هي..تركته..و تخلت عنه و عني..و خلّفت وراءها خرابا لا تعلم عنه شيئا..أنقاض زوج و بقايا إبن..أكرهها..من كل قلبي..لأنها تركتني تحت رحمته..لماذا لم تأخذني معها؟ لماذا؟ ألست ابنها؟ أتكره الأم ابنها الى درجة التخلي عنه؟ انها تكرهني..هذا أكيد..و إلا لما كانت تخلت عني..هو كان منهارا..و طوال الوقت كان يثمل و يخاطب صورتها..يعاتبها..يلعنها..ثم يبكي كالطفل الصغير..و أنا كنت أمامه..أنا اثبات لوجودها القاسي في حياته..علّمني كره النساء..و جعلني أحقد عليهن..و أعاملهن معاملة سيئة..و لم يكن يسمح لي بمخالفته الرأي أبدا..كان يسيطر علي بطريقة غريبة..كنت..أرتعب كلما نظرت في عينيه..أخاف..و أقتنع بكل ما يقوله لي..و أنفذه..رغما عني..تطبعت بطباعه..و صرت معدوم الثقة في النساء..و لا أصدق بأنهن قادرات على الحب و الوفاء..كنت كلما أعجبتني فتاة اصطحبتها معي الى سريري..ثم ينتهي الأمر هناك..و أتجاوزها الى المغامرة التالية..دون تورط..و لا عواطف..كنت أرضي نزواتي و شهواتي فقط..لم يسبق لي أن شعرت بما شعرت به معك أنت..أنت مختلفة..أنت لا تشبهينهن أبدا..أنت نادرة..و متفردة..و متميزة..و رائعة..أنت..من أعجبت بها منذ أول مرة وقعت عيني عليك فيها..كنت في مكتبك في باريس..و كنت قد دخلت..و رأيتك من النافذة..كنت تتحدثين عبر الهاتف..أعجبتني..كثيرا..و أردت أن أحصل عليك..و استغللت موضوع المال..و حدث ما حدث.
و هنا صمت و سعل بشدة قبل أن يستأنف كلامه:
_ و أنا آسف لأنني فعلت ذلك..آسف من كل قلبي..لكن ياغيز القديم لم يكن ليتصرف بطريقة مغايرة..أبدا..لأنه تعود على ذلك..و تربى عليه منذ أن كان طفلا صغيرا..ثم ولد داخلي شعور غريب لم أتذوقه من قبل..شعور بعدم الاكتفاء..آسف لأنني أقول هذا..رغم الليلة التي قضيناها معا..كنت أشعر بأنني ناقص..و بأنني أحتاج الى أكثر من ذلك..شعور الحاجة..هو بداية حبي لك..أن أحتاج اليك..و أبحث عنك..حتى و لو كان ذلك بطريقة خاطئة..عندما عرضت عليك ليلة ثانية..لم أكن..أبحث عن المتعة..بقدر ما كنت محتاجا لقضاء وقت معك..لسماع صوتك..لملأ رئتي برائحتك..ثم افترقنا..و مضت أربع أشهر أتيت فيها مرتين أو ثلاثا الى باريس لكي أراك..و رغم أنني كنت واثقا بأنك تتفادينني..و لا تريدين رؤيتي..الا أن احتياجي لرؤيتك كان أكبر من كل عقل و منطق..كنت حاجة ملحّة بالنسبة الي..و مرضا لا شفاء منه..ثم التقينا مرة أخرى..في الحفل..و ليلتها..عشت صراعا رهيبا..و كنت ممزقا بين اعترافي باحتياجي لك و بين انكاري لذلك..و ها أنا اليوم أمامك..و قد اتضحت الصورة تماما في ذهني و في قلبي..ياغيز القديم مات..و لن أعيد إحياءه أبدا..من أجلي أنا..قبل أن يكون من أجل أي شخص آخر..لأنني..و بعد أن رأيتك و تعرفت عليك و أحببتك..صرت أخجل من ماضي..و أريد أن أدفنه الى الأبد..لا يشرفني ما فعلته سابقا..و لست فخورا به..اما هذا الياغيز الذي ولد على يديك..فهو نسخة جديدة..نقية..تريد أن تبدأ حياتها من الصفر..بالطريقة الملائمة و الصائبة..معك..ان اخترت أن تدفني ماضيك أيضا..و ان قبلت بي رفيقا في هذه الحياة..و حتى ان لم تقبلي..فلن أسمح لنفسي بأن أتشوه من جديد..بل سأكون ياغيز الذي أفتخر أن أكونه.
كانت علامات الدهشة مرتسمة على ملامح هزان و هي تسمع كلام ياغيز عن أبيه و عن تأثيره السيء عليه..لكنها كانت سعيدة بإدراكه لأخطاء الماضي و برغبته الشديدة في البدء من جديد..لأجل نفسه قبل أي أحد آخر..وضعت يدها على يده و همست:
_ ما مررت به قاسٍ و مؤلم..و أنا الآن صرت أتفهم ذلك..مع الأسف..بعض الأبناء كثيرا ما يكونون ضحية آبائهم أو أمهاتهم..و من الجيد أنك تعي حجم بشاعة الماضي و أنك تريد أن تدفنه و تتخلص منه..قد تحتاج الى بعض الوقت لكي تفعل ذلك..لكنك ستنجح..مادامت رغبتك صادقة.
سمعا صوت سيارة تقترب منهما فوقفت هزان و التفت ناحية الصوت ثم صاحت بسعادة:
_ ها قد وصل جلال.
اوقف جلال سيارته ثم ترجل منها صحبة جنيد..قالت هزان:
_ الحمد لله أنكما أتيتما..سأجلس في المقعد الخلفي و ضعاه عندي..احذرا..رجله تنزف و تؤلمه بشدة..و حرارته مرتفعة أيضا.
اقترب جلال من ياغيز و القلق باد على وجهه..تساعد هو و جنيد على حمله و وضعاه بجانب هزان..قال جلال و هو ينطلق مسرعا بالسيارة:
_ الطبيب في المزرعة..اتصلت به قبل المجيء الى هنا..ياغيز يبدو شاحبا جدا..هزان..لا تسمحي له بأن ينام.
اجابت:
_ لا تقلق..هذا ما كنت أفعله طيلة النصف ساعة الماضية..لكنه نزف كثيرا..أتمنى بألا تكون ساقه قد تضررت كثيرا..اللعنة على الساعة التي خرجنا فيها من المزرعة..لم أكن أعلم بأن كل هذا ينتظرنا.
رد جلال و قد لاحظ قلقها و لهفتها عليه:
_ اهدئي هزان..سيكون بخير..ياغيز قوي و سيتجاوز هذا..لن يصيبه مكروه بإذن الله.
جذبت هزان ياغيز لكي يستلقي على رجليها و راحت تمسح العرق عن جبينه و تلمس جبهته..نظر اليها بعيون مثقلة و قال:
_ أحبك.
سألها جلال:
_ هل قال شيئا؟
ردت و قد بدا عليها الارتباك:
_ حرارته مرتفعة..انه يهذي..يقول كلاما غير مفهوم.
لم يقل جلال شيئا و واصل القيادة في صمت..بعد دقائق..وصلوا الى المزرعة..قام الشباب بإنزال ياغيز و اصطحبوه مباشرة الى غرفته حيث كان الطبيب في انتظاره..اغلق جلال الباب خلفه و بقي مع ياغيز في الداخل..اما هزان فكانت تقف أمام الباب عندما اقتربت منها أختها زينب و سألتها بلهفة:
_ أين هو؟ كيف حاله؟ أريد أن أراه.
منعتها هزان من الدخول و هي تجيب:
_ اهدئي..الطبيب يفحصه..رجله متؤذية جراء المصيدة التي علقت فيها..و نزف الكثير من الدماء..لننتظر و نرى ماذا سيقول الطبيب.
كان وجه زينب شاحبا و القلق باد على ملامحها..أخذت تذرع الردهة جيئة و ذهابا قبل ان تلتفت نحو أختها و تقول بنبرة عتاب و لوم:
_ لا أفهم مالذي أخذكما الى هناك..لدينا عمل نقوم به هنا..أليس هذا ما أتينا من أجله؟ مالداعي إذا لهذه الجولات و النزهات خاصة اذا كان المترافقين شخصان لا يطيق أحدهما الآخر؟ هل كان الأمر يستحق لكي ينتهي به المطاف جريحا هكذا؟
رمقتها هزان بنظرة حادة قبل أن تجيب و هي تجز على أسنانها:
_ زينب..توقفي عن لومي..لست أنا المسؤولة عما حدث لياغيز..كنت سأذهب لوحدي لكي أتنزه لكنه أصر على مرافقتي لأنه يعرف المكان جيدا..ما حصل كان حادثا مفاجئا..و كان من الممكن أن يحصل لي بدلا منه..ليس أمامنا الآن سوى أن ندعو بأن يكون على ما يرام..أما هذا الهراء الذي تقولينه فلا طائل منه على الاطلاق.
اقتربت منها أختها و أمسكت يديها ثم همست بصوت مرتعش:
_ اعذريني أختاه..لم أقصد..لكنني..خائفة جدا عليه..كنا نلتقط بعض الصور عندما أخبرني جلال بمكالمتك و بما حدث..انخلع قلبي من صدري خوفا عليه..هزان..افهميني أرجوك..لا أحتمل بأن يصيبه مكروه..أختاه..أنا..و رغم تحذيرك لي..و محاولاتك أن تحميني منه..لكنني..وقعت في حبّه..أنا أحبّه..و من كل قلبي.
جمدت هزان في مكانها و هي تسمع اعتراف أختها..ابتلعت ريقها بصعوبة و قالت:
_ زيزي..المشاعر قد تكون خداعة بعض الأحيان..لنتجاوز هذه المحنة و بعد ذلك أعيدي ..
قاطعتها زينب بعصبية:
_ أختي..لماذا تصرين على الاستخفاف بمشاعري؟ لماذا لا تصدقين ما أقوله؟ لماذا تفعلين هذا هزان؟ ألأنك لم تجرّبي الحب من قبل؟ أو تُراك بدأت تكنين المشاعر لياغيز و لهذا تحاولين ابقائي بعيدة عنه؟
أبعدت هزان يدي أختها عنها و صاحت بها:
_ هذا يكفي..زينب..كفي عن هذا الهراء..أتفهم مشاعرك و أحترمها..لكن..ليس هذا الوقت المناسب لذلك.
انفتح الباب و أطل منه جلال فركضتا نحوه و سألتاه بصوت واحد:
_ ماذا قال الطبيب؟
أجاب:
_ الحمد لله أن اوتار الساق و الأعصاب سليمة لكنه نزف كثيرا و يحتاج الى دم..هناك مستوصف قريب سنذهب اليه أنا و جنيد و نعطي القدر اللازم من الدم..من حسن حظنا أن الطبيب يعرف ياغيز منذ الصغر و يعرف زمرة دمه و هذا ما جعله يحضر كيسا جاهزا قام بتعليقه له الآن..لكنه قد يحتاج أكثر..لهذا يجب أن نكون مستعدّين.
سألته هزان:
_ و الحرارة ؟ ماذا فعل بشأنها؟
رد:
_ حقنة وريدية و دواء قوّي سيكونان كفيلين بخفضها..عن اذنك..يجب أن نتحرك.
خرج جلال مسرعا أما هزان فاقتربت من الباب و انتظرت خروج الطبيب..و ما ان أطل حتى سألته بلهفة:
_ كيف حاله دكتور؟
أجاب:
_ انه مستقر حاليا..الجراح التي في ساقه عميقة لكنها لم تؤذي الأعصاب و لم تلامس العظم..حرارته ماتزال مرتفعة و يلزمها بعض الوقت لكي تنخفض..أعطيته دواء يجعله ينام..و حقنته بمضاد للالتهاب..عندما يفيق يجب أن يأكل جيدا و أن يشرب هذه الأدوية..و ممنوع منعا باتا أن يغادر سريره أو أن يدوس على رجله..سأبقى هنا لبعض الوقت تحسبا لحدوث أي طارئ.
فأشارت هزان الى السيدة مديحة بأن تصطحبه الى غرفة الجلوس و أن تعدّ له القهوة..و قبل أن يتحرك سألها:
_ هل أنت التي كنت معه في الغابة؟
أجابت:
_ بلى.
قال الطبيب:
_ من الجيد أنك كنت معه..الطريقة التي اعتمدتها لتطهير الجرح كانت ناجعة جدا و حمت الأنسجة من التجرثم و التضرر..انه محظوظ جدا بوجودك معه..هل لك خبرة في التمريض؟
ردت:
_ نعم..لقد تلقيت ذات مرة دورات تكوينية في فرنسا.
ابتسم الدكتور و قال:
_ ستكونين أنت المسؤولة عن تغيير الضماد و عن اعطاءه أدويته إذا..و هو لن يرفض أخذ الدواء خاصة ان كان من يد حبيبته.
احمر وجهها خجلا و ردت:
_ أنا لست حبيبته..أنا أعمل معه فقط.
ربت الطبيب على ذراعها ثم تبع مديحة الى غرفة الجلوس..التفتت هزان نحو أختها فوجدتها تنظر اليها في صمت..تجاهلت نظراتها و ذهبت الى غرفتها لكي تغير ملابسها التي تلطخت بدماء ياغيز..دخلت الى الغرفة و أغلقت الباب خلفها..جلست على حافة السرير و وضعت رأسها بين كفيها..كانت مصعوقة من تسارع الأحداث من حولها..كل شيء يتخذ نسقا سريعا و مخيفا..و كأنها نائمة و تحلم..و هذا الحلم ساعة يكون لذيذا و جميلا..و أخرى يتحول الى كوابيس مزعجة تستيقظ منها مفزوعة..كانت تعي جيدا بأنها صارت تكن بعض المشاعر لياغيز ..و بأنها لم تعد تراه سيئا و حقيرا كما كان في السابق..لكن..بالنسبة اليها عرض الزواج الذي تلقته منه كان سابقا لأوانه و مستعجلا و مربكا..و هي لا تريد أن تستعجل و أن تستسلم بالكامل لهذه المشاعر قبل أن تكون أكيدة منها مائة بالمائة..فهذا التحول الغريب الذي تعيشه ليس سهلا عليها استيعابه و لا تصديقه..و هذا الخوف و التردد الكامنان عميقا في نفسها يجعلانها تتروّى و تتمهّل لكي لا تندم لاحقا..هذا كله من جهة..و من جهة أخرى مشاعر اختها تجاه ياغيز..و حبها الذي اعترفت لها به..ماذا ستفعل حياله؟ لن تقف أكثر من هذا في وجهها؟ و لن تحاول أن تمنعها عنه لأنها ان فعلت فستثير شكوك زينب و ستصدمها..ستترك ياغيز هو الذي يوضح لها الأمور  عندما تصارحه..في السابق حاولت أن تحميها منه بسبب استهتاره و مجونه..أما الآن..فستكون أنانية منها أن تمنعها من حبه في الوقت الذي كانت ترى فيه تغيره الايجابي..مشاعرها تخص ياغيز وحده و هو من سيتولى اعطاءها الجواب اللازم..لكنها تحزن عندما تدرك بأن ياغيز سيكسر قلبها و سيهدم أحلامها قبل أن تحققها..انها أختها التي تحبها أكثر من أي شخص على وجه هذه الأرض..و تكره أن تراها حزينة..و تمقت أن ترى دموعها و انكسارها..هذا الأمر ليس بيدها..و لا تقوى على تغييره..
تأملت الدماء على ثيابها و تذكرت خوفها و لهفتها على ياغيز..لا تريد أن يصيبه مكروه..و لا تريده أن يتأذى..تسعدها ابتسامته..و يحزنها ما عاناه و ما مرّ به منذ الصغر..الآن صارت تتفهم تصرفاته الماضية..رغم أنها لا تتقبلها لأي سبب كان..لكنها تستطيع أن تستوعب ما دفعه لذلك..فليس سهلا على طفل صغير أن تتخلى أمه عنه و ألا تتواصل معه لسنوات طويلة..هذا سيفقده ثقته بالنساء كنتيجة طبيعية و منطقية..فأغلب الرجال الذين يعاملون النساء بطريقة سيئة يكونون في الأصل ضحايا أمهاتهم أو نساء خلفن جرحا عميقا في قلوبهم..هذا بالإضافة الى تأثير والده و سيطرته عليه..حازم هو المسؤول لوحده عمّا آل إليه ياغيز و عمّا صار يتبنّاه من أفكار و ما صار يقوم به من تصرفات جراء الكلام الثقيل الذي ملأ به عقله..و الآن صارت ترى في عينيه رغبة صادقة في التغير و الشفاء من الماضي..و هذه الرغبة الصادقة كفيلة بأن تجعلها تقف معه و تساعده لكي يصحح أخطاء الماضي و يتخلص من أعباءه الثقيلة..و لعل ذلك ينجح في مساعدتها هي أيضا على نسيان ما حدث بينهما سابقا و على دفنه عميقا فلا يعود أبدا.
غيرت ملابسها و خرجت من غرفتها..توجهت مباشرة الى غرفة ياغيز..وجدت الباب مواربا..أطلت برأسها فرأت زينب تجلس بجانبه على حافة السرير و تمسك يده بين يديها..كان هو نائما و لم يكن واعيا بما يحدث..مسحت زينب دموعها و خاطبته بصوت خافت:
_ أحبك ياغيز..أحبك من كل قلبي..و لا أقوى على مقاومة هذه المشاعر التي تجتاحني و تسيطر علي..اليوم..كاد قلبي ينخلع من صدري من شدة خوفي عليك..لا أحتمل أن يصيبك مكروه..أبدا..ليتك تنظر داخل عيوني لكي ترى نفسك فيها..و ترى الحب الكبير الساكن فيهما..لا يهمني ما يقوله الآخرون..و لا تهمني تحذيراتهم..أنا أرى فيك ما لا يرونه و لا يعرفونه..أنت انسان رائع ياغيز..و أنا أعدك ان منحتني فرصة واحدة بأن أغير نظرتك لكل النساء..صدقني..ستصبح شخصا آخرا معي..شخصا سعيدا و راضيا و كتفيا..هيا..تماسك و افتح عيونك..عد إلي..لكي أمسك يدك أمام الجميع و أصرخ بأعلى صوتي بأنني أحبك..افتح عيونك و انظر الي..هيا حبيبي..كن قويا كما عهدتك.
ثم اقتربت منه و قربت فمها من فمه و طبعت قبلة على شفتيه..قبلة كان لها تأثير غريب على هزان..لقد شعرت بوخزة قوية في قلبها و بضيق شديد في صدرها..و اشتعل جسدها فجأة و كأنه يحترق بألسنة من اللهب الحارق..لم تكن تدري ما ذلك الشعور و ما ماهيته..لم تجربه سابقا و لم تتذوق طعمه المرّ..شعور قاسٍ و لاذع و مرير..ينتابها للمرة الأولى في حياتها..لم تفهمه..لكنها كانت واثقة تمام الثقة بأنها لم تحب المشهد الذي رأته..و لم تستسغه..و لا تحبذ أن تراه مرة أخرى..أبدا.

مِن أجل أُختيTempat cerita menjadi hidup. Temukan sekarang