رحماء بينهم (الفصل الثاني والخمسون)

5K 367 18
                                    

الفصل الثاني والخمسون]]
رواية #رُحماءٌ_بينهم
#علياء_شعبان
•~•~•~•~•~•~•~•
"وكان مَجِيئكَ إلى قلبي كالعامٍ الذي جاء مُغيثًا للناس".
•~•~•~•~•~•~•~•
كان اندفاعها سيلًا كاد أن يُبدد قواه؛ فحينما يراها تضطرب جميع حواسه وتتأجج أنفاسه وتتصاعد؛ فهي المرأة الوحيدة التي استطاعت أن تنتصر عليه ولم يكُن يتخيل أبدًا أن ثمة امرأة على وجه البسيطة يمكنها أن تخفس بقواه الأرض وتحني قامته خجلًا، اختنق حانقًا يتساءل كيف للماضي أن يعود ليُدمر ما عاش عُمرًا يبنيه، لم يتخيل أبدًا أن تلك الضعيفة الوضيعة ستظهر أمامه من جديد على هيئة كبرياء امرأة غاشمةٍ، لقد نال ما اشتهى منها ومرَّ ولم تعبر إلى ذاكرته مرة أخرى!!
خطت خطواتها الواثقة نحوه قبل أن تقف في المنتصف وبقيت "سكون" خلفها، حدقت "نجلا" فيه بنظرات نارية قبل أن تردد بنبرة ناقمةٍ:
-خلي عندك ضمير مرة واحدة وقول لها الحقيقة، بجاحتك مش هتغير معرفة بنتك بوساختك.. رُد عليها؟؟
رفعت سبابتها أمام عينيه ثم استكملت بملامح عدوانيةٍ ونبرة محذرة:
-لو فكرت تمد إيدك على بنتي تاني يا سروجي.. هدمرك في ظرف ساعة.. أنا معايا كُل حاجة ممكن تتخيل إنها تقضي عليك.. اوعي تكون فاكر إنِّي ساكتة عنك خوف؟ لأ.. سكت طول الوقت دا علشان أوصل لبنتي.. بس بعد الوصول.. بدأ العد التنازلي لأيامك.
اكفهر ملامح وجهه قبل أن يصيح مُنفعلًا بصوت رخيمٍ:
-والله وطلع لك صوت يا نجلا!!
نجلا وهي تضحك ملء شدقيها بتهكمٍ:
-وأعلى بكتير من صوتك اللي فاكر إنك بتخوفني بيه!
مطت شفتيها بامتعاضٍ ثم رددت بشفقةٍ مُصطنعةٍ:
-إنتَ ضعيف أوي يا عثمان، ضعيف بيستخبى ورا صوته.
تأججت النيران داخله وقدحت عيناه شرًا قبل أن يصيح بنبرة نارية:
-أنا هوريكِ الضعيف.
أنهى جملته ثم همَّ يرفع ذراعه عاليًا وقبل أن ينزل به على وجهها كان "ماكسيم" قد انتفض مُسرعًا نحوهما ثم وقف حائلًا بينهما وقبض بشراسةٍ وغضبٍ على رسغه ثم تكلم بلهجة عاتية تستشيط وعيدًا وغضبًا:
-أنا ممكن أحرقك في قلب بيتك لو قلبك جابك تاني وفكرت تلمس شعرة منها، كُل أعدائك لحُسن حظك ناس متربيين إنما أنا وِسخ وتربية شوارع وحواري.. لازم تخاف مني.
ابتلعت "سكون" غِصَّة مريرة في حلقها قبل أن تصيح بأنفاس مضطربة في اختناقٍ:
-رُد عليَّا يا بابا.. رُد وريحني!!
نفض ذراع الأخير قبل أن يصيح غاضبًا:
-أيوة بنتها يا سكون.
ابتسمت "نجلا" ابتسامة ظافرة وهي تعقد ذراعيها أمام صدرها وترمقه بنظرات ثاقبة بينما حدقت فيه "سكون" مصدومةً، لا تفهم سر هذه الصدمة؟؟ أم أنها ناتجة عن اعتراف والدها الذي وجدته مستحيلًا وظنت أنها ستبقى مُشتتةً للأبد، في هذه اللحظة التفتت إلى "نبيلة" ثم أردفت وهي تبتلع ريقها في بكاء:
-يعني إنتِ كُنتِ عارفة إنه خاطفني من حُضن أمي؟؟ ووافقتي؟؟ وافقتي تحرقي قلب أم على بنتها؟؟ المفروض إنك تحسي بمشاعرها لأنك أم زيها!!!
نجلا وهي تلتفت صوب "نبيلة" ثم تبغضها بنظرات حانقة وتقول بسخريةٍ:
-أشك.
أسرعت "سكون" تلتفت إلى "نجلا" وقبل أن تتكلم وجدت "عثمان" يصيح هادرًا من شدة الغضب:
-اطلعي برا يا نجلا إنتِ واللي معاكِ دا؟؟ ولو فاكرة إنه هيحميكِ مني تبقي غلبانة.. كل حلقة كسرتيها في سلسلة استقرار عيلتي هبكيكِ عليها دم.
ابتسمت ابتسامة مستخفة لم تصل إلى عينيها ورددت باستنكارٍ:
-استقرار عيلتك على حساب استباحة أعراض ومشاعر الناس؟؟.. لسه بِجح وفاكر إن مفيش أقوى منك بس خلاص عصر ظُلمك انتهى بولادة نجلا جديدة ودا وقتي يعني أنا اللي هبكيك دم على موت أبويا المقهور وطلاقي وخطف بنتي وفراق عيالي.. أنا عندي ما يكفي من أسباب علشان امحي اسم مجرم زيك من الوجود.
ابتسمت "سكون" بمرارة من بين بكائها وهي توجه إليه سؤالًا يحوم حول عقله طوال الوقت:
-مش فاهمة.. رفضت إزاي تعترف بيَّا وبعدين خطفتني؟؟ خوفت مثلًا على اسمك يتربط باسم خدامة؟؟؟
كانت الدموع تنسكب بغزارة من عيني "نبيلة" التي لن تستطع الكلام على الإطلاق وكل ما عليها أن تنظر إلى زوجها في دهشةٍ، كان "عثمان" يرمقها بنظرات ثاقبة بينما تكلمت "نجلا" وهي ترفع أحد حاجبيها وتردد بلهجة ثابتة:
-لأ.. بس معنديش مانع أقول لك أنا السبب الحقيقي.
التفتت بتروٍ نحو البقية تنظر إلى أعينهم الجاحظة في صدمةٍ وكأنهم ضيعوا طريق الكلام في هذه اللحظات، ثم عادت مرة أخرى تنظر إلى "عثمان" في صمتٍ بينما سألتها "سكون" متوجسةً:
-أيه السبب الحقيقي!!
تعمقت نظراتها داخل عينيه قبل أن تقول بصوت متروٍ بطيء:
-أقول يا عثمان؟؟
كان ينظر إليها بعينين حادتين ولكنها شعرت بارتباكه وتغير ملامحه التي أصبحت أقل حدةً ليقول بلهجة شديدة:
-نجلا بقول لك اطلعي برا!!
اِفتر ثغرها عن ابتسامة مستمتعة بتوتره قبل أن تقول بثباتٍ:
-جبان.
استمتعت "نجلا" كثيرًا وخف الغليل المتراكم في قلبها درجة واحدة فقط، أكد ببجاحة بأنها والدة "سكون" الحقيقية وبهذا يكون قد أكد على كُل ما ارتكبه من آثام نحوها، شعرت ببعض الارتياح من اعترافه وكذلك قَبول ابنتها لها بسرعة كبيرة فقد عرفت عن "سكون" اللين والرحمة؛ فلا تقبل أن تجور على حقوق الناس أو تتغافل عن الظُلم الواقع عليهم، شعرت بانتماء هذه الفتاة لها حينما عادت إلى حياة عثمان من جديد وأجرت أبحاث مُفصلة عن حياته وأعمار أبنائه وطباعهم ليتسلل الشك إلى قلبها بشأن هذه الفتاة التي عرفت عنها القوة والكبرياء!
-خلينا نمشي يا ماكسيم.
تشدقت بها "نجلا" في حزمٍ وهي ترمقه "عثمان" شزرًا قبل أن تستدير وتتجه صوب بوابة القصر فيما تبعها "ماكسيم" في ثباتٍ، الفتت "سكون" تنظر إلى "نبيلة" بعينين دامعتين قبل أن تتابع بصوت مخنوقٍ:
-إنتِ ليه مش بتتكلمي؟؟ إنتِ كُنت عارفة كل دا وموافقة عليه؟؟؟
هزَّت "نبيلة" رأسها إيجابًا دون أن تنطق، تجهمت معالم وجه الأخيرة بغضب كبيرٍ قبل أن تستدير ثم تهرع للحاق بـ "نجلا" ليصيح فيها "عثمان" بصوت جهوريٍ مُحذرٍ:
-سكون.. إنتِ رايحة فين؟!!
التفتت برأسها نحوه قبل أن تردف بتمرُدٍ وغضبٍ شديدٍ:
-رايحة ورا أمي!!
صرخ بحدةٍ يحذرها:
-لو خرجتي من باب القصر اوعي ترجعي له تاني لأني هعتبرك ميتة.
سكون بنظرات فاترة ترد:
-مش كفاية بُعد عنها لحد كدا؟؟ على العموم اتطمن واعتبرني ميتة.
هرعت مجرد أن أنهت كلامها، توجهت خلف "نجلا" وما أن خرجت من بوابة القصر الخارجية حتى وجدتها تستقر داخل سيارتها وتستعد للمغادرة فهرولت صوبها ثم وقفت أمام النافذة بعينين تلمعان بالدمعٍ، تبادلت "نجلا" نظرات عميقة ومؤثرة معها قبل أن تفتح زجاج النافذة ثم تقول بصوت مخنوقٍ:
-يمكن تكوني زعلانة على أبوكِ لأنك في النهاية بنته، بس بالنسبة لي هو ولا حاجة وعُمري ما هغفر له فراقك عني.. إنتِ كدا عرفتي الحقيقة كاملة والاختيار يرجع لك.
تكلمت "سكون" فورًا حالما افضت الأخيرة ما في جوفها؛ فقالت بنبرة مهزومة:
-أنا جاية معاكِ.
اهتز قلب "نجلا" فجأة، كيف لعبارة بسيطة أن تُحيي فيها كُل شيءٍ، صور بريق لامع في عينيها قبل أن تفتح باب السيارة لها في سعادة طغت على صفحة وجهها، استدارت ثم صعدت "سكون" بجوار والدتها بينما ظل "ماكسيم" واقفًا بسيارته خلف سيارة "نجلا" ينتظر رحيلها أولًا للاطمئنان على سلامتها.
انطلقت بالسيارة فورًا وداخلها يرقص فرحًا بينما خارجها بقى هادئًا مؤازرة لمشاعرٍ ابنتها المتأذية من ذلك الوغد، تنفست "سكون" بعُمقٍ قبل أن تلتفت بعينيها إلى والدتها ثم تقول بصوت خافتٍ:
-طبعًا إنتِ دلوقتي بتسألي نفسك إزاي بالسهولة دي تقبلت حقيقة إنك أُمي؟!!!
ابتسمت "نجلا" ابتسامة هادئة قبل أن ترد:
-لأ مش بسأل نفسي يا سكون عارفة ليه؟؟ لأن اللي مريت بيه يستحق إنك تتقبليني عليه ولأن شخصيتك ما هي إلا امتداد ليَّا؛ لا تحبي الظُلم ولا أكل حق الناس وطبعًا أنا متفهمة إن قبولك ليا عبارة عن سبب تنصريني بيه على أذى عثمان ليه وأسف منك على اللي عمله!!
سكتت هنيهة ثم أضافت بصوت مهزوزٍ:
-عارفة إني عُمري ما هتحب زيّ أي أُم طبيعية لأن الظروف والدنيا أجبرتني أخلف بس مع إنها لو ادتني فُرصة كُنت هبقى أُم يتحلف بيَّا، أُم والله كافحت كتير علشان تأكل عيالها وتبعد عنهم الجوع والموت.
ذرفت دمعة من جانب عينها بينما بقى وجهها ثابتًا لم يخشع متأثرًا بآلام لن ترحل عنها لطالما تمتلك ذاكرة من حديد، تنهدت "سكون" تنهيدة ممدودة بعُمقٍ قبل أن تقول باختناقٍ يسيطر على حلقها:
-أنا أوقات كتير بكون مُمتنة لنفسي؛ نفسي اللي رافضة الظُلم والقهر؛ نفسي اللي لا يمكن تكون في مكان مش مرغوبة فيه أو تتشارك نَفَس واحد مع شخص ظالم.. علشان كدا كان غصب عني طول الوقت بحاول أرسم لبابا صورة حلوة لأني خوفت.. خوفت ما أقدرش أقف قصاده وأواجهه بعيوبه.. تغاضيت عن أخطائه في حق اخواتي علشان بس أفضل بحبه وصورته ما تتهزش في نظري.. قولت أهي عيوب بسيطة وإحنا في الآخر أولاده بس مطلعتش عيوب بسيطة أبدًا.
نجلا وهي تردد بملامح مكفهرة:
-عثمان أقذر مما تتخيلي ودي مش الجريمة الأولى له ولا حتى الفيديو اللي شوفتيه.. شايف أرواح الناس زي البهايم اللي بيدبحها في مصنعه.. سهلة وميتبكيش عليها.
أطرقت "سكون" برأسها قبل أن تردد باكيةً:
-بس مش قادرة أتخطى فكرة إنه أبويا.. مش قادرة أكرهه.. مش قادرة ما أخافش عليه.. نفسي يفهم إن الأذى بيترد والدنيا بتدور.. قلبي موجوع عليه لأنه في غفلة.
تنفست "نجلا" بقوة قبل أن تتابع بهدوءٍ وصوت متراخي:
-لو بتقولي لي الكلام دا علشان أتراجع عن قراري في إني أحبسه وأفضحه تبقي شريكة في جرايمه يا سكون.. لو سامحتي في سنين عُمرك اللي ضاعت وإنتِ مخدوعة في حضن واحدة مثلت دور أمك فأنا مش هسامح لأن أنا ملقيتش اللي يعوض أمومتي عنك ولا عن إخواتك.
في هذه اللحظة توقفت "نجلا" فجأة بالسيارة ثم ابتسمت ابتسامة بسيطة في وجه ابنتها وقالت بهدوءٍ ولين:
-أنا حكيت لك قصتي.. حاربت علشان أوصل لك.. كشفت لك كل الحقيقة.. شاركتك أوجاعي على أمل إنك تحسي بلهفتي عليكِ وعلى أمل أن الزمن يعوضني كُل السنين دي ويقر عيني بيكِ وبأختك وكُنت أتمنى لو يحيى كان عايش.. أنا راضية أعيش معاكم يوم واحد لو هموت بعده بس أعيشه وأسمع كلمة "أُمي" وعارفة إن دا شبه مُستحيل وأنا دلوقتي فاهمة تخبطك وهحترم رغبتك في وقوفك جنب أبوكِ بس من فضلك وإنتِ واقفة جنبه وبتدافعي عنه افتكري إن في روح خصيمه له ليوم الدين.. روح سرق منها كل حاجة.. سرق شرفها.. أيامها.. أحلامها.. سرق شبابها حتى عيالها سرق ومخلاش.. بكاها وسابها للمصير ينهش فيها والذكريات تاكل من روحها.
نظرت صوب الباب وقالت بغِصَّة مُرةٍ:
-تقدري تكوني جنب أبوكِ دلوقتي يا سكون لأن الجاي شديد عليه.
أجهشت "سكون" بالبكاء في هذه اللحظة وارتفع أنينها ثم التفتت تنظر إلى الأخيرة لبضع ثوانٍ قبل أن تندفع إليها ترتمي إلى حضنها وتتشبث بوِسطها بكلا ذراعيها، بادلتها "نجلا" العناق وهي تسحب نفسًا طويلًا مرتاحًا إلى صدرها فبدت كالتي ترتوي من بعد ظمأ، بدأت تمسح برفقٍ على خصلات شعرها وهي تردد باكيةً منهارةً:
-عارفة إني كُنت هسميكِ أشجان؟؟ تعبيرًا عن أحزاني ساعتها.
ابتسمت "سكون" برقةٍ من بين بكائها وهي تقول بصوت مضطرب خافت:
-لأ.. كدا الحمد لله إني اتخطفت.
انطلقت ضحكة منهزمة من فمٍ "نجلا" وكذلك "سكون" التي أغلقت عينيها تستمتع بقُربها ولا تنكر أن هذا الحُضن يختلف عن حُضن نبيلة، حتى المشاعر والأنفاس هنا مُختلفة؛ بها من الطمأنينة والشغف ما لم تشعر به من قبل بقُرب الأخيرة، تذكرت "سكون" تلك العبارة التي قالتها أثناء مواجهتها بالداخل، فتنهدت بقوة قبل أن تقول وما تزال مستقرةً بين ذراعي نجلا:
-بما إنك صارحتيني بكُل حاجة فأنتِ نسيتي تقولي لي سبب خطف بابا ليا بعد ما كان رافضني؟؟
رمقتها "نجلا" بطرف عينيها قبل أن تقول بابتسامة يغلفها الانبهار:
-صدقيني إحنا مش محتاجين "دي إن أيه" علشان أعرف إنك بنتي، الطبع يغلب أي تحليل والله.. عَنيدة وشوافة.
•~•~•~•~•~•~•~•
هكذا مرَّ شريط الساعة الأخيرة من توقد الأحداث أمام عينيها حينما ظهرت من خلف الحائط ووقفت بقامة راسخة أمام "وَميض" التي ركزت ببصرها عليها قبل أن تسقط بين ذراعي زوجها مُغشيةً عليها، ارتجفت أطراف "نجلا" ما أن رأت غياب وعيها وكذلك "سكون" التي جحظت عيناها في صدمةٍ بينما أسرع "تليد" بحملها فورًا قبل أن يتجه بها واضعًا إياها على الأريكة ثم هرول فورًا إلى غرفة نومهما ليعود وفي يده قنينة عِطره، تكلم بصوت مخنوق أجشٍ وهو يرفع رأس زوجته على ذراعه:
-المفروض كُنتِ تسأليني يا سكون قبل ما تقرري من دماغك، مش كُل الناس يقدروا يواجهوا الحقايق بنفس ثباتك، كان لازم ترجع لي!!
جلست "سكون" على رُكبتيها أمام الأريكة تتشبث بكف "وَميض" بينما فتح "تليد" غطاء القنينة وسكب منها القليل على باطن كفه ثم قربه من أنفها يجبرها على اشتمام الرائحة ليعود وعيها إليها ثم توجه ببصره إلى "نجلا" التي تفرك كفيها معًا في توترٍ وقال بصوت رخيمٍ:
-واضح إنك ما فهمتيش كلامي يا نجلا؟؟؟ قولت لك وَميض مش عندها أي بوادر مسامحة ليكِ ومش بالسهل عليها تظهري قدامها!!
عاد ببصره إلى زوجته مرة أخرى وبقلبٍ مُلتاعٍ بدأ يضرب وِجنتها برفقٍ وصوت مُرتابٍ:
-وَميض!!!
بدأت أهدابها تتحرك ببُطء فالتقط أنفاسها بمثابرةٍ ثم رفع رأسها إلى صدره وقال بلهجة لينة:
-سمعاني!!
بدأت تفتح عينيها تدريجيًا ثم نظرت صوب عينيه مُباشرةً في صمتٍ مُريبٍ بينما تكلمت عيناها بدلًا عن فمها فانسكبت دموع غزيرة من عينيها على ذراعه، التاع قلبه ألمًا وحُزنًا عليها فيما تكلمت "سكون" بنبرة ملتاعة آسفة:
-أنا آسفة.. أنا مكنتش عايزاها تتوجع.. كنت شايفة إن معرفتها بالحقيقة بدري أفضل من التمادي في الكذب.. مكنتش عايزاها تعيش اللي أنا حاسة بيه دلوقتي!!
ابتلعت "نجلا" غِصَّة مريرة في حلقها وهي تقترب منهم أكثر ثم تقول بصوت مُضطربٍ:
-وَميض.. حاولي تسمعيني يا بنتي حتى لو هتيجي على نفسك شوية!!
اتقدت أنفاس "وَميض" ما أن سمعت صوتها وأسرعت تدفن وجهها في صدره تخبره بهذه الطريقة رفضها التام الاستماع، أطرقت "نجلا" في خجلٍ قبل أن تتفهم رغبتها في الصمت:
-سامحيني يا بنتي!!
ابتعدت مُسرعةً من بين ذراعيه قبل أن تلتفت إلى "نجلا" ثم تصرخ في وجهها بانهيارٍ:
-أنا مش بنتك.. متقوليش يا بنتي.. أنا ماليش أُم .. عيشت طول عُمري فاكرة إن ليا أُم بس اتفاجئت إني اتولدت من رحم البحر.. لكن إنتِ معرفكيش ومش عايزة أعرفك.
انهارت "نجلا" تبكي بقهرٍ ينقطع له نياط القلوب عاجزةً منكسرةً أمام ابنتيها لتردف بانهزامٍ:
-بس إنتِ كدا بتكسريني يا وَميض.. إنتِ حتى مش قادرة ولا بتحاولي تسمعي أسبابي!!.. طيب على الأقل سامحيني!!
رمقتها "وَميض" بنظرات نارية قبل أن تصرخ بأعلى صوت لديها والذي على إثره جاء الجميع تقريبًا وعلى رأسهم الشيخ سليمان:
-لو بينك وبين الجنة ذنبي مش هسامحك ولا هقبل بيكِ في حياتي، غدرتي بيَّا فإزاي ببجاحة طالبة غفراني؟؟
التفتت مُسرعةً إلى زوجها ثم توسلت إليه بشهقات مرتفعة:
-خليها تمشي يا تليد.. مش عايزة أشوفها قدامي.. وجع الدنيا كُله في قلبي منها.. غدرت بيَّا.
أوشكت أن تفقد عقلها تمامًا، قامت بملامسة خديه ثم ترجته باستجداءٍ وانهيارٍ:
-إنتَ قولت لي إنها غدرت بيَّا.. غدرت بينا.. كان ليا أخ مش كدا؟؟ مات بسببها صح؟؟ مات وسابني وحيدة طول السنين دي، طب كانت سابتني في حُضنه ومشيت، كان هياخد باله مني وكُانت الدنيا هتعلمنا وهسند عليه ونكمل.. استكترت حياتنا علينا واستكترته عليا.. مين الأم اللي مهما كان دافعها ترمي عيالها في البحر؟؟ دي جبروت مش أُم.
ارتجف قلب "نجلا" من فرط الوجع الذي طالها من كلمات "وَميض"، أغمضت عينيها ووضعت كفيها على أذنيها في قهرٍ قبل أن تحاوط "سكون" وِجنتي شقيقتها يكفيها ثم تتابع باستجداءٍ:
-علشان خاطري يا وَميض اهدي؟؟ حقك عليا.. حقك عليا أنا!
نهضت واقفةً في مكانها ثم بدأت تُقبل رأس شقيقتها برفقٍ بينما صرخت "وَميض" بقهرٍ وهي تدفن وجهها في صدر زوجها الذي اشتعل غضبًا ولكنه تجرعه حتى لا تشتعل الأجواء أكثر من ذلك وهنا أبصرت "نجلا" الشيخ الذي يقف صامتًا بجوار الباب بعد أن أصبح لديه علمًا بخبايا الأمور وعلنها؛ فاستنتجت "نجلا" ذلك من صمته المهيب لتهرول مائلةً على كفه ثم تحاول تقبيله وهي تتوسل إليه قهرًا:
-علشان خاطري يا شيخ سليمان قول لها تسامحني؟ كلامها دابحني والله كلامها دابحني!!
تراجع الشيخ بضع خطوات قبل أن يتابع بصوت هادئ يحثها فيه على النهوض:
-استغفر الله.. قومي يا بنتي.. كُل أزمة بمشيئة الله محلولة.
كانتا "رابعة" و "مُهرة" تقفان بجوار الشيخ ولا تفهمان ما يجري أبدًا ورفض "نوح" الدخول خشيةً أن يكون ثمة ما لا يجب رؤيته ورغم قلقه الشديد على صديقه مما يجري معه نتيجة الصراخ الذي طال أذنيه إلا أنه قرر البقاء بالخارج، نظرت "رابعة" إلى المائدة بحسرةٍ فقد كانت "وَميض" في أوج سعادتها بقضاء عشاء متألقٍ مع زوجها ولكنها الآن في دنيا غير الدنيا لا تكف عن الصراخ والعويل وبقيت مُتشبثة بأحضان زوجها كأنما أُلقيت طمأنينة الدنيا أجمع بين ذراعيه، أخذت تهمس بحروف لا تُفهم وقد شعرت بالإعياء الشديد وهالة من السخونة تحيط عينيها فأغلقتها باستسلام.

"رُحماءٌ بينهم". (كمثلِ الأُترُجَّةِ)Where stories live. Discover now