نجاة

142 18 60
                                    

فتحت عيناي بعد مدة لا أعلمها، أيام بلياليها ربما، لكن ما أثار دهشتي بعد نجاتي؛ هو المكان الذي أنا به الآن.

جدران من المرجان والصخور البحرية، يمكنني أيضاً رؤية الشعاب المرجانية في الأرجاء، فوق سرير مخملي وكأني أسبح في ماء رخو، ويغطيني ربما جلد حيوان ما؛ لكنه بغاية الدفئ رغم البرودة القاتلة.

الى جواري رجل أكاد أجزم أنه تخطى الخمسين، لكنه ليس مثلي ومثل رفاقي، فقط لديه الى جوار أذنيه ما يشبه الخياشيم، وعليه رداء لامع وكأنه من حراشف الأسماك.

- حمد لله على سلامتك بني.

وجه الكلام إلى بصوت رخيم، ومطمئِن ربما.

- شكراً جزيلاً لك سيدي... ولكن أين أنا؟؟

- فقط نادني بعمي عامر... طبيب المملكة أنا... وأنت هنا في المملكة بعد أن أنقذتك نور.

عجب يتلوه عجب، ليس باسمه لكن بالمملكة، أي مملكة هي.

- عذراً عمي عامر لكن أي مملكة هي؟ ... ومن نور؟

مسح على رأسي برفق مع ابتسامته المطمئنة:

- لا بأس عليك يا بني فقط ارتاح... سأرسل لك الطعام والشراب حتى تستعيد عافيتك، وكل شيء ستعرفه... لا تقلق من شيء.

أومأت برأسي فخرج من الغرفة وبعدها أتاني أحدهم بالطعام، حسناً كله طعام بحري لكنه بكل اللذة التي لم أتوقعها، لربما لأني لم أتناول الطعام من فترة.

.
.

مرت عدة أيام ويأتيني "عم عامر" كل عدة ساعات، يطمئن عليّ ويغير ضماداتي، ويهديني بعض الطمأنينة في هذا المكان الغريب.

في أحد الأيام شديدة البرودة دخل علي شخص غيره ومن يأتيني بالطعام، وجه رأيته من قبل، عينان كالزمرد الأخضر، وشعر أسود طويل كالليل، وفستان لامع أحمر اللون كحراشف الأسماك كما رداء ذاك العم.

كانت تلك الفاتنة تحمل بيدها غطاء كالذي معي، وبصوت رقيق حازم:

- آمل أن المكان ليس بارداً كثيراً عليك أيها الضيف... أخبرني عمي عامر بأنك أصبحت بحال أفضل.

لن أقول اني صمدت أمامها، لكني بالطبع لست منكباً على وجهي أتبع شهواتي وغرائزي، فأومأت برأسي مردفاً:

- الفضل لعم عامر بعد الله أني أصبحت بأفضل حال... لكني لازلت لا أعلم أي شيء عن هذا المكان ولا عن منقذي لأرد له الجميل...

- لست بحاجة لرد أى شيء... أنت فقط وقعت في طريقي ففعلت ما يمليه علي ضميري... أما عن المملكة فهي مملكة "إلكدونيا".

يبدو أنها "نور" التي أُخبرت باسمها، ولكن مملكة "إلكدونيا" لا أدري أين تقع على الخريطة أو من مَلِكها، لتقطع أفكاري بصوتها:

- لابد أنك من سكان السطح ولا علم لك بمملكتنا... لا بأس فنحن سكان البحر ولا نخرج كثيراً.

بكلماتها إتضحت أفكاري، إذاً غرابة المكان والأفراد هنا لانهم ليسوا بشراً، أو ربما أنا الغريب عنهم هنا.

ناولتني الغطاء الذي كان بيدها، ليلامس كفي كفها لثوانٍ، ويقشعر جسدي لِلَمستها.

جسدها دافئ بعكس المكان، وصوتها رغم حزمه حنون، أما عن نظرتها وسيرها وجلوسها فهي كأميرة من أميرات الخيال، نبيلة التصرف والكلام.

استأذنتني للخروج وأردفت أن أحدهم سيرافقني لخارج الغرفة قريباً.

بعد عدة ساعات من الإنتظار، وبعد أن تناولت طعامي الذي اعتدته في هذا المكان، يطرق بابي أحدهم وبعد الإستئذان يدلف الى الغرفة أحد الرجال، متوسط القامة، شعر أسود طويل، بشرة بيضاء، عينان سوداوين، ورداء من حراشف فضية اللون.

جلس الى جواري على أحد الكرسي، بوجه مبتسم وصوت هادئ تكلم:

- مرحباً بك يا ضيفنا في المملكة... آمل أنك بحال جيدة.

- بأفضل حال والحمد لله.

- دام حمدك يا رفيق... دعني أعرفك بنفسي، أنا جهاد وقد كلفتني نور بعمل غاية فى الأهمية... أتدرك ما هو.

هززت بكتفي، ليردف:

- سأكون مرافقك طوال مدة تواجدك معنا، وحتى نجد طريقة نعيدك بها الى ديارك... لذا هلا عرفتني بك.

أسعدتني فكرة رجوعي للديار، فبانفجار الطائرة ظننتها النهاية، وها أنا ذا ضيف لأحد الممالك المخفية عن العالم.

- سعيد بلقياك يا جهاد... أنا مجاهد ضد الإحتلال الغاصب... وإسمي هو شمس الدين.

اختفت الإبتسامة عن محياه، وظهر على وجهه علامات الحزن والإستياء.

- إحتلال آخر.

صمت لبرهة حتى عادت البسمة على وجهه.

- سأدعو الله أن يعود موطنك حراً... وتعود إليه سالماً.

- سيعود حرا حتماً... حتى وإن لم أعد.

أومأ برأسه وهب واقفاً.

- حان وقت خروجك من هذه الغرفة... المرضي بحاجة للحركة حتى تتعافى قلوبهم ليستعيدوا عافيتهم.

لف الغطاء حول كتفاي، وأمسك بيدي حتى أنهض، يمكنني الشعور بالفعل أن إصاباتي تكاد تلتئم، وأني بحاجة للحركة، فجسدي يكاد يتخشب من جلوسي هكذا.

.
.

وها أنا ذا خارجاً بمكان أعجب من العجب، لربما رأيت مشهداً كهذا في برنامج للأطفال، حينما يتكلمون عن الحوريات وعالم البحار، لكن يبدو أني دخلت إلى أحدها.

بنايات ليست عالية مصنوعة من الشعاب المرجانية والصخور، هناك أيضاً أشجار لا أعهدها على الأرض، الأطفال يلعبون بسعادة، الرجال يعملون ونساءهم يساعدون، والجميع كحال "عمي عامر"، ويحيط بكل هذا الجمال شيء أشبه بفقاعة هواء ضخمة، وكأنها كرة زجاجية ضخمة، وهاهو "جهاد" إلى جواري يحادثني ليمحو وحدتي، ويحادثني عن مملكته الحبيبة.

وما أثار حيرتي لهذا المكان أكثر، رغم طبيعية الأشخاص هنا.

"لماذا الجميع حافي القدمين".

.
.

ربيع القبّار "مكتملة"حيث تعيش القصص. اكتشف الآن