P49

39 7 2
                                    

أشعُر  بأنّ داخلي مبعثر ، فوضوي ، متشابك ومعقّد بشكلٍ يصعبُ فهمُه ..
أشعُر بأنّي مختنق ، وبأنّ هذا الهواء لا فائدة تُذكَر من وجوده ..
هذهِ الدُنيا تضِيقُ بي ، وحتى غُرفتي التي هيَ ملاذي أراها الليلة لا تسعني ..
نظرتُ إلى ساعةِ هاتفي نظرةً خاطفة ..
رأيتُ أنّها تُشيرُ للساعةِ الحاديةِ عشر مساءاً ..
قررتُ تغيير ثيابي والخروج على الشاطيء القريب من شقتي ..
لعلّي أجِدُ بينَ موجاتِ البحر راحتي وأُعيدُ أنفاسي الهادئة..
أقفلتُ بابَ الشقة ونزلتُ مشياً على أقدامي ..
وبينما أنا أسير ، رجعَت ذاكرتي قديماً ، حيثُ الحنينُ إلى الماضي .. حيثُ تلكَ المرأةِ الهادئة التي جعلَت حياتي صاخبة ، سعيدة ، مرحة ، وكُنتُ شخصاً يختلف كثيراً عمّا أنا عليهِ الآن ..
آهٍ لو ألقاها يوماً ما ،
فبعدَ مرورِ هذهِ السنواتِ كُلّها لم تُفارقُ فكري ولا خيالي يوماً ..
لحظة !
هَل بدأتُ أهذي ؟
مابالُ عقلي يُفكّرُ بلقاء ، ما بالُ قلبي يحِنُّ إلى الآن ..
بالتأكيد هيَ الآن تعيشُ حياتها مع زوجها ورُبما أطفالِها ..
ليسَت مثلك ، أنتَ من سمحتَ لنفسكَ بالإختباءِ بينَ فوضى الحنين ..
وبينما أنا أتصارعُ مع أفكاري ، وأجلِدُ نفسي تارة وأُشفِقُ عليها تارةً أُخرى ..
وصلَ مسامعي صوتُ موجاتِ البحر ..
نظرتُ حولي بتفحص ، لم أرى كثيراً من الناسِ هُناكَ وهذا شيءٌ أسعدني ..
أخذَت أقدامي تسيرُ بدونِ وعي منّي ، وعينايَ مُغمضتان ، ورأتايَ أحسّت بشيءٍ من الإنتعاش بدخولِ هواءٍ عليل إليها بعدَ دُخانِ السجائر الذي كانَ يملؤها ..
مشيتُ ومشيتُ ، لا أعرف كم المُدة ، ولم أكُن أُريدُ أن أعرف ..
كُل ما يلتقطهُ جسمي هو موجاتُ البحر ،
وإحساسه بالرمالِ الناعمة التي تُلامسُ قدماه ..
خَفّ ذلكَ الصراع الحاد ، وكُل شيء فوضوي في داخلي يُنصتُ الآن ..
نصفَ ساعةٍ من الوقتِ مرّت من راحتي ، وأنا لازِلتُ مُستمراً ..
في المشي ومُغلقُ العينين على هذا المكان الذي لم أتوقع أنهُ سيُريحني لهذهِ الدرجة ..
لحظاتٌ وإذا بي أشمُّ عطراً ليسَ غريباً عليّ ..
هذهِ اللحضات قلبت الهدوء داخل جسمي إلى صخبٍ كثيف ..
قلبي بدأ يخفق بشدّة ،
إنّهُ عطرها الذي بقيَ كالوشمِ في ذاكرتي ، يستحيلُ لي نسيانه ..
توقّف لا تتسرع رُبما هُناكَ شخص يضع العطرَ ذاته !
لا هذا هُراء ، ماذا أقُول ينبغي لي أن أبحَث ..
كُنتُ أبحث وقلبي يخفق ، وعقلي تتشاجرُ الأفكارُ داخله ، وبدأتُ أعرق ، وقدماي لا أعتقد أنّهُما ستحملاني ..
ينبغي لي أن أُواصِل ،
حتى لمحتُ على بعدِ أمتارٍ من أمامي ..
فتاة ، تُشبهُ القمر ليلاً ، ورُبما الشمس أو كليهِما ..
فتاة خطفَت قلبَ رجُل لا يعرِفُ للعاطفةِ طريق ، فتاة .. مرّت على حياتي ذاتَ يومٍ ولونت سوادها بروحها الساحرة ..
دنوتُ ، اقتربتُ ، حاولتُ القُربَ أكثر ..
بقيتُ عشرُ دقائق ورُبما أكثر ..
أُحاولُ فيها نطقُ اسمها الذي لم أنطقهُ لسنين ..
أُحاولُ أن أضعَ حداً لقلبي الذي يكادُ أن يخرُجَ من أضلاعي ..
نطقتُ اسمها وأنا أرتجِف ،
_جُـ جُـ مما نـ.  ة
وحينَ التفتت ، توقفَ الكُون ..
وكِدتُ أسقُطُ على أرضٍ أشُك بأنّها تحمِلُني ..
رأيتُ الصدمة واضحةً على ملامحِ وجهها البريء ،
رأيتُ تلكَ العيون وهيَ لا تكادُ تصدّقُ وجودي بقُربها ..
وسمعنا دقاتُ بعضنا البعض العنيفة ،
ولأولِ مرة ، خرجَ صوتُها الذي لطالما اتخذتهُ حياةً لي ..
والدموعُ تنهمرُ من بينِ عينيها ، نادتني ..
_مـ حم د
أخذتُها على الفورِ بينَ أحضاني ،
وكلانا غرقَ بدموعه ، ولم يقدر على الكبت ولا تجاهُلِ شعورهُ تجاهَ الآخر ..
ضممتُها لدقائق مرّت وكأنّها سنين ، شعرتُ حينها بأنّ القدر قد أعطاني مكافأة صبري أخيراً..
أبعدتُ رأسها قليلاً من صدري ..
_أينَ كُنتِ طولَ هذهِ السنين ؟ كُنتُ أبحثُ عنكِ في كُل مكان ، في واقعي وخيالي وكتاباتي واحلامي وكُل شيء يخصني ..
اشتقتُ إليكِ حدّ اليأس ، حدّ الموت ..
_لا تُكمل ، أنا من عِشتُ بعدكَ جُثة تسيرُ بينَ الناس ،
فقلبي وروحي ودُنياي كِلُّها أخذتها معك حينَ ابتعدنا ..
أنامُ على الحبوبِ المنومة ، ولا أستيقظ بسهولة أبداً ، إلّا بعدَ أكوابٍ من القهوة ، مرضٌ ووحدة وضياعٌ واشتياقٌ وقلق عشتهُ بعدك ..

لم أكُن أُريدُ سماعَ آلامِ صغيرتي أكثر ، خبأتُها بينَ صدري مرةً أُخرى ، وكأنني أحميها من همومِ الحياة ومن ذاكرتها المؤلمة ..
فهيَ بجانبي الآن وعادت أخيراً إلى أضلعي ..
_أعدكِ لن أترككِ أبداً ..
_أبداً ؟
_أبداً أبداً ، هذهِ المرة حتى الموت لن يُفرقُنا ..
_أُحبُك ..
_وأنا أُحبُكِ صغيرتي ..
ثمّ قبلتها قُبلةً طويلة..
بطولِ سنينِ البعد ، على ضوءِ القمر الخافت ، وبينَ لمعانِ النجوم ، وعلى صوتُ أمواج البحر السعيدة ..
عادت قلوبنا الهرمة ، أطفالاً ترقصُ بسعادة .
_كوثر

لِقاءWhere stories live. Discover now