الفصل الاول

16.7K 236 11
                                    

1 ـ طوق من نـــار

رن جرس الهاتف بينما كانت جيني تضع اللمسة الأخيرة على
رسمها لزي جديد . . . وتأففت بنفاذ صبر . أكــثر ما يغيظها أن
يقاطعها أحد وهــي تعمل , مما يقطع عليها تركيزهــا .

ووضعت القلم بين أسنانها وسارت بسرعة إلى الهاتف .
ـ نعم . . ؟
ـ هل لــي أن أتحدث مع الآنســة جيني نيوهام ؟
في الصوت لكنة أجنبية , وشـــيء من التردد . بدا على وجه
جيني القلق والصدمــة . فقالت وهي تنزع القلم من فمها :
ـ هـي . من المتحدث .
ـ جيني ؟
ـ من يتكلــم ؟
ـ إيفا .
وسارعت المرأة لتضيف وكأنما خشيت أن تقفل جيني الخط :
ـ أنا مضطرة للاتصال بك . . إن روبرتو . . .
فقاطعتها جيني بخشونة :
ـ لن أتحدث عنه . . . لا الآن ولا أبداً . . . لقد قلت لك من
قبل إيفا . لا أريد جرح مشاعرك . . فانا اعرف أن قصدك الخير ,
ولكنــــي لم أعد أعير ابنك أي اهتمام . .
وردت إيفا بصوت مختنق بدا و كأنه البكــاء :
ـ لم تفهمي قصدي جيني .
فردت جيني ببرود :
ـ بل أفهم جيداً . . أوه . لا تبكـــي إيفا ! لا يجب أن تدعي
الأمر يكدرك . روبرتو لا يستحق ذلـك مطلقـــاً .
وعاد صوت البكاء أعمق من قبل , ومسحت جيني شعرها بيدٍ
مرتجفة :
ـ إيفا . بحق الله لا تبكــي ! أنا آسفــة .
وهمس الصوت المرتجف المخنوق .
ـ إنه يموت . . . يموت يا جيني .
وللحظــات وقفت جيني شاردة تنظر إلى السماء الرمادية . . .
وبدأ تأثير الصدمة يظهر , فتقلصت معدتها , واتسعت عيناها ,
وصــرخت غير مصدقة .
ـ مــاذا تعنين ؟
.
بالكـــاد استطاعت أن تلفظ الكلمات , فقد خرجت وكــأنها همسة
شبح من بين شفتيها الشاحبتين من شدة التأثر . وأصدرت إيفا نحيباً
جديداً وقالت :
ـ كان يقود سيارته عندما انزلقت وانقلبت به , إذ فوجـــئ
بصهريج زيت منقلب على الطريق . وكان هو أول الواصلين ولم
يلاحظ هذا إلا بعد فوات الأوان . . وأمضى المسعفون ساعتين
لإخراجه . إنه شديد الشحوب لفقدانه الكثير من الدم .
ـ اوه يا إلهــي ! هل هو فاقد الوعــي ؟
ـ لهذا أتصل بك . . لقد استعاد وعيه منذ لحظات وأول شــيء
تلفظ به هو اسمك .
ـ اسمي ؟
وأغمضت جيني عينيها بأسى . وتابعت إيفا الحديث بسرعة
وكــأنها تخاف من أن تقفل جيني الخط :
ـ سأل عنك , ومتى ستأتين . . . جيني إنه يعتقد أنك ما زلت
زوجته .
وطال الصمت بينهما , وأنفاس جيني تتقطع , والألم فــــي
عينيها . ثم ســألت بخشونة :
ـ لمَ تقولين هذا ؟
ـ إن الأمــر واضح . . لقد قال : أين جيني ؟ أين زوجتي ؟ فـــي
البداية ظننته يهلوس . . وبعد حين أدركت أنني مخطئة . . . جيني
لقد فقد ذاكرته , نسي أي شــيء حدث له خلال الخمس سنوات
الماضية . . نســـي أندرو . . . وعندما ذكرت اسمه أمامه لم يعرفه
فأصبت بالصدمة , إنني خائفة .
ـ وهل كان واعياً للحادثة .
ـ يقول الأطباء نعم . . . ولكن الإصابة في رأســه خطرة . لقد
أجروا له عملية عند وصوله المستشفى , ويقولون إنهم خفضوا من
الضغط على الدماغ . . ولكن من يعلم ؟
ورطبت جيني شفتيهــا :
ـ قلت . . قلت إنه يموت . هل هذا رأي الأطباء ؟
ـ أنت تعرفين الأطباء جيني , إنهم لا يعطون الجواب
الصحيح , ويراوغون دائماً . ولكنك ترين الأمــور بادية على
وجوههم , ينظرون إليك فتعرفين كل شـــيء بوضوح .
ـ ولكن ماذا قالوا ؟
ـ أوه . . . إنه ليس على ما يرام . . إنه مصاب بشكل خطير . .
كما قالوا لي , والآن قالوا إذا استطعت المجيء . . سيكون هذا
أفضـــل .
ـ إذا استطعت ؟
واتسعت عيناها , وأصبح اخضرارهما شديداً مقارنة مع بياض
بشرتها . . وعضت على شفتها وقال ببطء :
ـ إيفا . . لا يمكنني الحضور .
ـ إنه يسأل عنك طوال الوقت , يريد أن يعرف لِمَ لــم
تزوريه . أوه . . جيني . . ألا تستطيعين فهمي ؟ إنه يعتقد أنك كنت
معه في السيارة ساعة الحادثة , وأنك مُت , وأننا نخفي الخبر عنه .
راقبت جيني عصفوراً طار من على شجرة قريبة , فارداً جناحيه
دون صعوبة . يرتفع وينجرف مع الهواء الحار . . إنها لا تستطيع
التفكير بروبرتو سوى إنه قوي وشرس , ولا تستطيع أن تتصور بأنه
سيموت . فهو دائماً كان بالنسبة لها مفعم بالحياة . ثم تابعت إيفا :
ـ أعلم أن معاملته لك كانت سيئة .
الملاحظة جعلت شفتي جيني تلتويان بمرارة وقالت قبل أن
تستطيع منع نفسها :
ـ ما هذا التصريح المتأخــر !
ـ ولكنه يموت ! لا يمكنك رفض رؤيته . . جيني . . تعرفين أنه
لا يمكنك .
.
صحيح . . إنها تعرف , وهذا ما جعلها غاضبة , وقد غلف
الحزن نظراتها , وهــي تتطلع من النافذة , وتابعت إيفا بســرعة :
ـ ســأرسل لك سيارة . وكل ما عليك فعله أن تقفــي قرب سريره
لبضع لحظــات ليرى أنك سالمة . . وهذا لن يؤذيك يا جيني .
كان فــــي كلامها سخرية خفيفة , أدهشت جيني , فلطالما كانت
إيفا لطيفة معها . . فقالت بقلق :
ـ لا بأس .
فتنهدت إيفا ارتياحاً . أقفلت جيني الخط , وأخذت تحدق في
السماء . . المطر ينهمر , رذاذ خفيف ينقر الزجاج وكـــأنه
الأصــابع .
لم تر روبرتو منذ خمس سنوات . . ولقد عانت كثيراً لتتخلص
من ذكراه ولتمسح طيفه من عقلها الباطن . . كانت تحلم به ليلة بعد
ليلية ولسنوات . . كارهة نفسها لعدم قدرتها على السيطرة على
مخيلتهــا .
التقيا وكانت لا تزال صغيرة . . لا خبرة لها بالحياة . . وتقبلت
طابع شخصيته الأكبر سناً والأقوى دون أن تدرك حتى ما كان
يحدث لها . روبرتو , وبطرق كثيرة , كان يجعلها طيعة له . . يعيد
قولبتها وكأنه النحات يقولب الصلصال الطري . يتمتع بفرض
الغموض عليها . . ولقد مرت بنوع من الصراع الداخلي مع نفسها
عندما حاولت التخلص من سيطرته .
لقد كانا متناقضين . . . كان شديد السمرة بقدر ما هي شديدة
الشقار . . مسيطر على نفسه بينما هي متقلبة . . هو متصلب شرس
لا يلين بينما هي حساسة وسريعة العطب . . . ومن الجنون أصـــلاً
أنها انجذبت إليه . . ولكنها أصيبت بالدوار لوجوده كالفراشة أمام
الضوء الساطع , لا تهتم أن تحرق جناحيها . . و روبرتو اغتنم كل ما
فيها من ضعف ليتمسك بها دون رحمــة .
تستطيع أن ترفض الذهاب . . . بالطبع . . . و لكن إذا كان
يموت . . فهل تستطيع الرفض ؟ قد لا تستطيع مواجهة عالم هو
ليس فيه . حتى كراهيتها له تعطيها سبباً للحياة .
تخلصت من دائرة أفكارها المجنونة القاسية , ونظرت إلى
ثيابها . الملطخة بالدهان . . يجب أن تغير ثيابها وغطت رسومها ,
ثم دخلت الحمام , خلعت ملابسها واستحمت , ثم ارتدت فستاناً
صوفياً أخضــر اللون قاتماً .
عندما سمعت رنين جرس الباب كانت جاهزة , فتحت الباب
فإذا بها أمام شاب صغير خطا إلى الأمام وقال مقطباً :
ـ مرحبا جيني .
ـ هل أنت جوليان ؟
لم تستطع أن تصدق أنه ذلك الشاب اليافع أين الخمسة عشرة
سنة عندما قابلته آخر مرة . . . أين التصرفات الخرقاء , والبثور
والبشرة الناعمة , من هذا الشباب ذي الأعوام العشرين , الأنيق
الرقيق , بشعره الذي يصل إلى ياقة قميصه ؟ . . شبهه بأخيه أكثر
بروزاً الآن من ذي قبل . .
ـ كيف حالك جوليان ؟
ورد عليها بصوت خشن :
ـ أنا بخير .
كان دائماً متعلقاً بأخيه , فهم عائلة مترابطة . . الباستينو لهم
علاقة متينة منسوجة بدقة . ولقد وجدت جيني صعوبة كبيرة في
البداية في الانتساب لهذه العائلة . . وأحست في البداية بالمقاومة
لها . . والعدائية . . وحتى الغيرة . . وبالتدريج أحست أنها تلبس
ثوبهم , ولكن في النهاية لم تعد تستطيع الاحتمال .
وأخذ جوليان منها المعطف الذي تحمله وساعدها على
ارتدائه , وقال :
ـ السماء تمطر . . ولدي مظلة , سنضطر إلى الركض نحو
السيارة عندما نخرج .
.
كان قد مضى زمن طويل لم تركب جيني فيه سيارة فخمة كهذه
السيارة . ونظرت ساخرة إلى الفراش الأبيض المنجد , وإلى لوحة
العدادات اللماعة وكـــأنها صنعت لطائرة حربية .
وملس جوليان شعره الأسود إلى الخلف , واستدار لينظر إليها .
ـ تبدين أكثر جمالاً ممـــا أذكرك جيني .
كان في عينيه وميض إعجاب وهما تحومان حولها لتستقرا
قليلاً عند الساقين اللتين برزتا من تحت حافة الفستان . وكان يمكن
أن تجد اهتمامه الرجولي بها مثيراً لولا أنه ذكرها بأول لقاءٍ لها مع
أخيه . وســألته :
ـ كيف حاله وهل شاهدته ؟
ـ لقد رأيته . وماذا أستطيع أن أقول . . يبدو بحالة رهيبة . .
لقد أحسست بالدوار عندما وقفت قرب سريره وشاهدت عن كثب
ما حدث له . لطالما كان رجلاً قوياً , والآن قد أصبح حـطـــاماً .
فارتعدت جيني !
ـ أنا آسفـــة !
ـ هل أنت آسفــة حقاً ؟ أتســاءل .
فاتسعت عيناها :
ـ وماذا تعنـــي ؟
ـ أنت تكرهينه وأنا لا ألومك , فلديك أسبــابــك , ولكن
أرجوك , لا تدعـــي الحزن وأنت لا تشعرين به . لا بأس بذلك أمام
أمــي , فهي رقيقة القلب لتصدق بأنك لا زلت مهتمة . . أما أنا فلا
أطيق الكذب . فلو كنت مكان روبرتو , ولو كنت أموت , فلن
أرغب في أن تبكـــي قرب سريري .
فلمعت عيناها الخضراوان غضباً :
ـ لم أكن يوماً ممثلة بارعة لأدعي أي شـيء جوليانو . . فأنا
ذاهبة لأراه لأن والدتك توسلـت إلــي . . ولأجــل راحة نفســـي
قبلت . . إنها فكرة سخيفة أن أراه ثانية . لو أنه في وعيه لما فكرت
بالأمر . ولكن إيفا رجتني , وأنا مولعــة بأمك جداً .
كان لجوليانو بقية من الذوق ليخجل , فاحمر وجهه , ووضع يداً
معتذرة على ذراعها .
ـ جيني . . . أرجوك . . أنا آسف حقاً . أنها الصدمة لرؤيته
هكذا , جعلتني أعتقد أن لا شــــيء آمن , لاشــيء ثابت . . قد كان
دائماً صخرة العائلة . . الأقوى بيننا كلنا , كان بالنسبة لــي الأب منذ
وفاة والدي .
أجفل جيني لهذه الذكرى . . فهي لا تريد أن يذكرها أي شــيء
بأنطونيو باستينو . فقد كان عدوها منذ البداية , وآخر مرة رأته فيها
أهانـها بمرارة وأذلها . ولم يخفف موته بعد ذلك بأشهر من شعورها
بالكراهية له .
ـ ألا يجب أن نذهب الآن ؟
ـ أوه . . أجل . بالطبع .
بعد لحظات من انطلاقهما ســــألته :
ـ ماذا تفعل الآن جوليانو . . . أتعمــل في المؤسســة ؟
ـ بالطبع . . وما غيره ؟
فرددت بسخرية :
ـ وما غيره . .
ـ أعمـــل هنا في نيويورك .
ـ أوه . . لم أكن أعلم هذا . . منذ متى أنت هنا ؟
منذ سنة . أمضيت في لندن مع روبرتو ثم أرسلني إلى
هنا لأكتسب المزيد من الخبرة .
ـ وهل تعجبك السكنى في نيويورك ؟
ـ ليست مثل روما .
وابتسم . . فابتسمت بدورها :
ـ صحيح .
ـ أنا مشتاق للشمــــس .
ـ وهل ستعود إلى لندن أم ستقيم هنا ؟
فهز كتفيه :
ـ هذا عائد لقرار روبرتو . . إذا عــــاش .
وساد صمت متوتر , مرفق بأفكــار صامتة , ثم ردت عليه
بغضــــب :
ـ بالطبع سيعيش ! لا تستسلم جوليانو , فروبرتو لن يسمح لك
بهذا لو عرف . يجب أن تؤمن بأنه سيتحسن .
ـ ولكنك لا تصدقين هذا وإلا لما جئت .
.
بساطة رده صدمتها , ونظرت إلى الطريق متنهدة والدموع تنهمـر
من عينيها . إنه محق , إنها تتظاهر بالهدوء , لكن في الحقيقة . إنها
تشعر بالبؤس يملأ نفسها ولا تجرؤ على البوح به .
توقفت السيارة بهما خارج أبواب المستشفى الزجاجية , وخرج
ليساعدها على النزول واضعــاً ذراع تحت مرفقها , وقـــال :
ـ يجب أن أوقف السيارة بعيداً . انتظري هنا . . لن أتأخـــر .
صحيح أن المطر توقف ولكن السماء ما زالت مكفهــرة , وكأن
المزيد من المطر يتجمع تحت الغيوم , وعاد جوليان بسرعة ليمسك
بذراعها ثانية . . وسارا عبر المدخل المكتظ نحو مصعد فــــي
المؤخرة . ودخل وراءها جمهرة من الناس , وما أن توقف المصعد
حتى بدأ جوليان يشق طريقه معتذراً ليخرجا . ولحقت به جيني ,
قلبها يدق بقوة جعلتها تظن أن كل من كان قربها قد سمعه .
إنها لم تشاهد روبرتو منذ خمس سنوات .
ودخل بها جوليان إلى غرفة الانتظار . أحست بالقشعريرة . .
أسرعت إيفا راكضة نحوها , وذراعها مفتوحتان .
ـ جيني . . أوه يا عزيزتي !
وتعانقتا . . الخد على الخد , رأس إيفا الأسود أقصر من رأس
جيني الأشقر بقليل . كانت قد نسيت كم أن إيفا صغيرة الجسم ,
فبين ذراعيها بدت العجوز كالطفل لصغر بنيتها . وتراجعت جيني
عنها لتنظر إلى البشرة السمراء والعينين البنيتين اللتين تحملان
الحزن والألم . وبدت إيفا أكبر سناً , فمنذ خمس سنوات كانت
متوسطة العمر تمضي أوقاتاً طويلة أمام المرآة لتظهر أصغر سناً . أما
الآن فهي تبدو مسنة . لقد انقض الزمن عليها كالذئب , فحرمها من
حيويتها . وخسرت من وزنها , وتجور خداها , وأصبحت عيناها
أعمق تحت حاجبيها السوداوين الكثيفين . . . وقالت إيفا مرتجفة
محاولة الابتســام :
ـ كم اشتقت لك .
ـ وأنا كذلك .
ـ كم هي الحياة ساخرة . . أخيراً عدنا والتقينا . . ولكن
الأسبــاب مريعة !
ونظرت جيني إلى من حولها في الغرفة : آنا تعرفها , لم تتغير
أبداً ولا شعرة منها تغيرت . كانت تجلس منعزلة , إنها الفتاة الوحيدة
في العائلة . وجهها الممتلئ هادئ لا ينم عن شــيء وعيناها
السوداوان دون أي تعبير . إنها أكبر ببضع سنوات من روبرتو ,
ومتزوجة من مهندس ايطالي . . زواجها سعيد , ولديها اربعة
أولاد كما كانت تعرف آخر مرة . ثلاثة أبناء وبنت . ولكن الاولاد
بكل تأكيد لا يحملون اسم باستينو ولذلك لا حساب لهم , وآنا
تعرف هذا وتمتعض منه . كانت تكره جيني , لأنها لو حملت بأي
طفل فسيحمل اسم باستينو .
.
لويس كان يجلس قرب آنا . بدا سميناً و ضخماً . . كتفاه
العريضان يتناسبان تماماً مع سترته المفصلة بدقة على قياسه .
ولروبرتو علاقة تخلو من الود مع ابن عمه . فهو على كل الاحوال
باستينو . ابن أحد ثلاثة اشقاء , عملوا جاهدين لبناء إمبراطورية
باستينو . وباستمرار انتقال لويس الدائم من نيويورك إلى لندن ,
ومن لندن إلى روما , لم يكن عدواً لجيني . . بل على العكس فلقد
حاول عدة مرات إظهار إعجابه بطريقة سمجة اضطرت معها إلى
ردعه ببرود . . وها هو الآن يبتسم لها متمتماً بالتحية فردت عليه
تحيته بهدوء .
وجلس ولد صغير إلى جانب لويس , ويده في يده . عرفت من
هو وخفق قلبهـــا ألمــاً .
ولاحظت إيفا نظراتها إلى الصبي . . فقالت بنعومة :
ـ إنه أندرو .
انزلق الصبي من كرسيه ليأتيها راكضاً , ووضعت إيفا يدها على
رأسه الأسود , وأدارته نحو جيني :
ـ جيني هذا أندرو . . أندرو . . . هذه جيني .
وأحست جيني وهي تنظر إلى الطفل بالغضب والتأثر معاً . إنه
صورة عن أبيه . له عينا عائلة باستينو السوداوان المائلتان إلى
الأعلى , يحيط بهما رموش سوداء كثيفة ترتفع إلى فوق . . وشعر
أسود براق , أنف مستقيم متكبر , وجنتاه مرتفعتان . وحده فمه
الزهري الناعم الملــيء بالحداثة والرقة ذكرها بذلك الفم الذي كان
يجبرها يوماً على الاستسلام .
ـ مرحباً أندرو .
امتدت يده بأدب , وأمسكت بها . وأحست بالألم المفاجــئ
للسرور الذي أحست به لملمسها . . وتفحصتها عيناه . . وكأنه
يعرف كل شــيء عنها . . ولكن هل أخبروه بــشــيء بحق الله ؟
تقدمت آنا . . والامتعاض باد في كل حركاتها , وأدارته ثانية
لتعيده إلى المقعد , ونظرت إيفا لابنتها , وتنهدت . . ثم استدارت
إلى جيني وســألتها :
ـ هل ستدخلين الآن لرؤيته ؟
عند باب الغرفة توقفت والتفتت بقلق إلى جيني .
ـ ستكونين حــذرة . . ألن تفعلــي ؟ لا تدعيه يتكلم , ابتسمي له
فقط .
تبتسم ! وتنهدت بصمت , هل تعلم إيفا ما تطلب منها . . .
ومررت يدها إلى شعرها , وحملقت عينا إيفا بالخاتم الماسي الذي
لمع في يد جيني . . . فصاحت :
ـ لا يمكنك وضعه .
للحظات بدا عدم الفهم على جيني , ثم احمر وجهها ونظرت
إلى الخاتم الماسي في يدها . وتأوهت إيفا :
ـ لو شاهد هذا . . .
فقاطعتها جيني :
ـ ولكنني مخطوبة . . وسأتزوج قريباً .
وبدا الارتباك على إيفا , وأخذت شفتاها بالارتجاف .
ـ جيني . . أنت لا تفهمين . . إنه يعتقد أنك لا زلت زوجته .
ـ إنه مخطئ إذن .
ـ ولكن عليك أن تتظاهري لبضع دقائق . . ستسبب الحقيقة
صدمة قاسية له . . . وأي شــيء يمكن أن يقلب توازنه . . فهل
تستطيعين تحمل موته على ضميرك ؟
ـ أوه . . . يا إلهــي ! أنت تطلبين الكثير إيفا !
وببطء سحبت الخاتم من يدها وسألت :
ـ والآن . . ماذا ؟
فتحت إيفا حقيبة يدها , وببطء مدت راحة يدها المفتوحة
فأجفلت جيني مما رأته هناك :
ـ لا . . لن أفعــل !
ـ إنه يموت . . . ولن تتمكني من الرفض . لن اسمح لك .
وارتجفت جيني , ومدت يدها إلى الخاتم , خاتم زواجها
القديم , ووضعته في اصبعها . . إنه خاتم وراثي للعائلة . . إيطالي
قديم الصنع , له شكل أفعيان ملتفان , ولطالما أثار التعليقات بين
صديقاتها . منذ خمس سنوات خلعته ورمته عبر الغرفة إلى والده .
وانحنى أنطونيو يومها ليلتقطه , ويبتسم ببرود ويقول بلؤم :
ـ سيعود الآن ليكون في اليد المناسبة التي يجب أن تضعه لولا
أن تزوجك روبرتو .
.
أمسكت إيفا بذراع جيني لتضغط عليها :
ـ شكراً لك حبيبتي . هيا الآن . . إنه بانتظارك .
وأمسكت بيد جيني لتقودها إلى الداخل . . التفتت الممرضة
الجالسة عند الطاولة بفضول , وأخذ قلب جيني يخفق
بجنون , و بدأت تحس بالتعرق في يدها وعلى مؤخرة عنقها عند
أسفل الشعر .
وعلمت أنها تتعمد ملاحظة تفاصيل ما حوله كــي لا تنظر
مباشرة إلى عينيه السوداوين البارزتين من تحت الأربطة البيضاء .
ـ جيني !
صوته كالهمس . . أخف بكثير من أن يسمع . . تقدمت من
سريره .
ـ كنت خائفاً من أن تكوني قتلت في الحادث ويخفون الأمــر
عني .
ـ كنت مسافرة . . . وعدت فور سماعـــي بالخبر .
وتفحص وجهها بنظرته الساخرة المألوفة وتمتم :
ـ لا بد أنك ذعرت . ولكنني أرفض الموت . عندما أخفوا عني
أخبارك تساءلت اذا كنت ســأحتمل الحياة بدونك . . . ولكنني بعد
رؤيتك أنا مصمم على الخروج من هنا , حبيبتي .
والتفتت إلى إيفا , ثم عاودت النظر إليه , فرأته يقطب :
ـ ألن تقبليني جيني ؟
انحنت فوقه مرتجفة , وقلبها يضرب بصوت مرتفع , ولامست
خده بشفتيها . وكانت على وشك أن تستقيم , ولكن يده السليمة
أمسكت بها , ثم لامست وجهها . . ووقعت يده فجأة وأغمــض
عينيه .
وأخرجتها إيفا من الغرفة وذراعها حولها :
ـ إنه دائماً هكذا ! فجأة يصحو ثم فجأة يغيب . . . ولكن هذه
المرة أظنه سينام مرتاحاً لعلمه أنك سالمة . شكراً لك جيني .
ـ لا تشكريني . . بحق الله !
ـ أدرك أن الأمر كان محنة لك .
ـ محنة ؟ كان كالجحيم . . . مم تظنين أنــي مصنوعة ؟ من
حديد ؟ كنت مضطرة للوقوف هنا لتقبيله , وسماعه يناديني . . .
حبيبتي . يا إلهــي . . كم أحسست بالدوار . . . وأنت تشكريني ؟
وانتزعت الخاتم الذهبي الثقيل من إصبعها وأعادته لإيفا :
ـ خذي هذا . لا أريد أن تقع عيناي عليه ثانية . . أو على أي
واحد منكم !
اندفعت في طريقها متجاوزة إيفا , وخرجت راكضة من
المستشفى وكأنما الجن يلاحقها . . تنتحب صامتة . فــي موقف
السيارات توقفت , لم تكن تدري كيف تذهب . . . وفكرت
أخيراُ . . سيارة تاكسي . . يجب أن تحصل على تاكسي . واستدارت
نحو مكتب الاستعلامات لتستخدم الهاتف كي تطلب سيارة تاكسي .
ووجدت نفسها تواجه جوليان , الذي نظر إليها نظرة إشفاق غاضب
قائلاً :
ـ تبدين فظيعـــة .
ـ دعني وشـــأنــي جوليان . . أرجوك !
ـ لا تكونـــي سخيفة . . ســأوصلك .
وانتزعت ذراعها من يده .
ـ ألا تفهم ؟ لقد اكتفيت منكم ! أريد الذهاب لوحدي . . لقد
اكتفيت من عائلة باستينو . . ليوم واحد !
ضحكت بهستيريا وأكملــــــت :
ـ ماذا أقول ! ليوم واحد ! بل للعمـــر كله !
وقال بهدوء جعله يبدو أكثــــر نضجــاُ من سنه :
ـ أفهمـك . ولكنــــني لن اسمـــح لك بالذهاب وحــــدك , فحـــــالتك
بائسة . . . ولا يجب أن تتركي لوحدك جيني . لقد أمرتني إيفا أن
أبقى معك إلى أن تصلـــي شقتك .
وحاولت الخلاص منه , ولكنه لم يتكرها تفعل . . . وقادها
أخيراً إلى سيارته وادخلها إليها . . طريق العودة كانت أكثر صمتاً من
ساعة الذهاب . خــارج شقتها , نظر إليها وهو يطفــئ المحرك .
ـ جيني . . . أمــي ارادتني أن أقول لك . . .
فصاحت يائســة :
ـ لا أريد أن أسمع شيئاً .
فتحت الباب وخرجت قبل أن يتمكن من ملاحظة ما فعلت .
وخرج مستديراً أمام السيارة , ولكنها كانت قد اصبحت داخل المبنى
ووجدت مفتاحها ودخلت الشقة , اقفلت الباب , واتــكأت عليه . . .
تتنفس بعمق .
وبدأت الدموع تنهمر على وجههــا . . وقرع جوليان الباب
وناداها دون جدوى . . فهــي لن تستطيع التحرك حتى ولو
أرادت . . . وأخيراً سمعت وقع أقدامه تبتعد . . . . وببطء , انزلقت
على الأرض . . وغابت عن الوعـــي .

   الدوامة - شارلوت لامب        روايات احلام  Where stories live. Discover now