الفصل الثاني

9.3K 179 4
                                    

2ـ أقوى من النسيان

وقف غرانت في غرفة عملها مائلاً رأسه ينظر إلى رسوم الأزياء
الملونة , بنظرات رصينة لطيفة .
ـ أنت تتحسنين كل يوم . . ولسوف تلمعين في عالم الأزياء
أكثر من دانــــي أتعلمين هذا ؟
ـ وهل يعلم دانــــي بذلك ؟
ضحكت ونظرات عينيها الخضراوين تتراقصان .
ـ بالطبع يعلم . إنه يعرف أكثر من أي منا , دائماً يقول إنك
ستصبحين رائعة .
واقترب غرانت ليحدق بالخطوط الــدقيقة واللمسات الناعمة
لرسم زي الفستان أمـــامه :
ـ يعجبني هذا . . غريب كيف يبدو متماسكاً عن بعد , ويزداد
غموضــاً عن قرب .
ـ ليس من المفترض أن تنظر إليه وأنفك فوقه .
واستدار لينظر إليها ضاحكاً , ثم تقدم ليحتضنها ولامس أنفه
خدها مداعباً :
ـ أنت لا تطاقين جيـــني .
ـ ومــاذا تعني ؟
ـ جميلة , ذكية . . وهذا ليس عـدلاً .
فضحكت :
ـ ليس عدلاً ولمن ؟
ـ لكل إناث الأرض .
ونظرت إليه بعاطفة , ومالت بطريقة كلها ثقة , ولفت ذراعيها
حول وسطــه . . وهمست :
ـ ولكننـــي أحبك .
وارتفع حاجباه :
ـ عندما أطريك ؟
ـ بل فـــي كل ثانية من اليوم .
ـ هذا ما أحب سماعه . . . والآن يجب أن أذهب . . . فلدي
زبون أقابله بعد قليل .
ـ أيجب أن تذهب ؟ لم أراك كثيراً هذا الأسبوع .
إنها بحاجة لرؤيته , وخاصة بعد زيارتها لروبرتو . . لم تكن قد
ذكرت شيئاً أمامه بخصوص الزيارة بعد , فقد وجدت صعوبة في
محاولة الشرح , والله يعلم أنها قصة بسيطة , ولكن أي ذكر لروبرتو
باستينو يجعل غرانت يغضب .
وقال لها بلطف :
ـ بعد أن نتزوج ستتغير الأمور . . . ستصبح مختلفـــة .
غرانت كان يحبها منذ سنوات طويلة , حتى وهي متزوجة من
روبرتو . وكانت دائماً تعرف هذا . فهو لم يبقِ الأمر سراً , ولكنها
لم تستجب له ســوى في السنة الأخيرة , إذ وجدت فيه الأمان الذي
تحتاجه .
قال لها وهو في طريقه إلى الباب :
ـ سيعود دانـــي من باريس بعد يومين .
ـ أعلم . . لقد أرسل لــي برقية . . لا بد أنها كلفته ثروة ! إنها
رسالة أكثر منها برقية .
فضحك غرانت :
ـ أعماله رائجة , وباع كل التصاميم .
ـ هذا يفسر الأمر . هل أبرق لك أيضاً ؟
ـ لا . . بل اتصل هاتفياً . . من هي لورين ؟
ـ لورين ؟ لا أدري . . . هل ذكرها لك ؟
ـ عدة مرات , ولكنني لم أفهم ما هي علاقتها به .
ـ أنت تعرف والدي العزيز . . . ربما تكون عارضة أزياء .
فابتسم غرانت :
ـ آسف لـلسؤال .
فلكمته :
ـ ولماذا ؟ أنا فتاة كبيرة الآن , والأيام التي كان يخبئ فيها
صديقاته عني قد ولت . أتساءل إذا كانت تعرف الطبخ . . أتذكر
لينا ؟ كان طبخها كالحلم .
ـ وكانت عارضة أزياء رائعة . . . تلك الأكتاف الرائعة . . .
وضحكا معــاً . . . وقالت له :
ـ أيها المحتال . . . كتفـيها هاه !
ففتح الباب وقال :
ـ أنسى دائماً أنك لا تتأثرين بشــــيء .
ـ بعد عيشي مع داني طوال حياتي ؟ كيف يمكن أن أتأثر من
شــــيء ؟
وقطب وجهه :
ـ ليس هناك شـيء من الغيرة في نفسك . . أليس كذلك جيني ؟
كلماته جعلتها تجفل واسودت عيناها . انحنى وقبلها على
خدها ثم رحل . عادت إلى غرفة عملها , ووقفت قرب النافذة
تتمتع بشمس الخريف الدافئة , لقد تغير الطقس في اليومين
الماضيين . وتوقف المطر والريح . وحدها الأشجار العارية سوى
من بضع ورقات كانت تذكرها بالخريف .
ليس هناك شــيء من الغيرة في نفسك ! إن معرفته بها قليلة !
وفكــرت بالمشاعر الوحشية الطاحنة التي عذبتها مرة . . وامتدت
يدها إلى معدتها وكأنمــا تلك المشاعر قد عادت لتعصرها ثانية .
وأغمضت عينيها وصرخت . . يا إلهــي ! وبدا صوتها غريباً , مغايراً ,
في الغرفة المشمسة .
لم تسمع شيئاً من عائلة باستينو منذ هروبها من المستشفى يوم
زارت روبرتو . . لا بد أنه استعاد عافيته , فهي لم تشاهد أي خبر
في الصحف عن موته . مجرد فقرة صغيرة تروي الحادثة وتقول إنه
مصـــاب .
.
حاولت مرة الاتصال بالمستشفى لتســأل عنه , وبالرغم من
امتداد يدها إلى الهاتف , إلا أنها تراجعت . . فلو أنه مات لأبلغت
بالأمــر . ولكن أحلامها كانت تفيض بذكــراه . كرامتها وحدها منعتها
من العودة إلى المستشفى لرؤيته ثانية , ولو للحظات , و لتسمع
صوته الأجش يقول (( حبيبتــي )) .
واستدارت غاضبة عن النافذة لتجلس وتبدأ العمل . . وأخذت
ترسم وجه فتاة ترتدي الزي الذي تصممه . . . ثم توقفت فجأة
لتنظر إلى الرسم بذهول . . قسمات وجه أندرو الطفولية أخذت
تبدو لها من خلال الرسم . فــأجفلت .
ومزقت الورقة من دفتر الرسم , وكادت تقطعها لولا رنين
جرس الباب الذي أوقفها فوضعتها من يدها وتوجهت لتفتحه .
ووقفت إيفا بلطف , وقساوة معاً . وجهها النحيل ملــــيء
بالتصميم . .
وتنهدت جيني :
ـ ماذا تريدين إيفا ؟
العينان السوداوان كانتا ثابتتين :
ـ ألا تريدين معرفة ما إذا كان قد مات أم بقــي حياً ؟
ـ لو أنه مات لعرفت . . . العالم كله كان سيعرف .
وهزت إيفا رأسهـــا :
ـ كيف يمكن لك أن تكونـــي قاسية ؟ إنه بحاجة لك . اذهبـــي
إليه . . لمَ ابتعدت ؟
رفعت جيني كلتا يديها لتمررهما على شعرها لتخرب تصفيفته
الناعمة :
ـ إيفا . . أشفقـــي علي لأجــل الله !
ـ كنت أتمنى أن لا أطلب هذا منك . . . ولكن روبرتو هو فــــي
المقام الأول عندي يا جيني .
ـ إنه هكــذا دائماً . . إنه الأول لدى الـجميع .
فحملقت إيفا بها بعينين واسعتين :
ـ ألهذا الدرجة مرارتك , لقد كان فاقد الوعي معظم الوقت منذ
أن زرتيه . . ولكنه استفاق الآن . . وهو يسأل عنك ثانية .
فشحب لون جيني واشتد بياضه :
ـ أتعنين أنه لم يسترجع ذاكرته بعد ؟
فهزت إيفا رأسها نفياً . . . فاستدارت جيني إلى الشقـــة :
ـ يا إلهــــي !
ولحقت بها إيفا , تنظــر من حولها بفضول , تلاحظ ترتيب غرفـــة
العمل , وكيفية تعليق رسومات الأزياء فوق الــحائط وعلى الرفوف .
ـ إذن . . هنا تعملين ! لقد بدأت تحققين النجاح . هكـــذا
سمعت . ولا بد أن والدك فخور بك .
ـ أجل . . إنه فخور بي . . إيفا . . لن أستطيع الذهاب . . إذا
كان قد أصبح بصحة أفضل . . فيجب إعلامه بالحقيقة .
ـ ونقتلــه !
ـ لن تقتله الحقيقة !
ـ لقد سمعت ما قاله . . بدونك لا يريد العيش .
واستدارت جيني على عقبيها , مرتجفة , عيناها مليئتين
بالاتهـــام :
ـ كلانا يعرف إنه عاش من دوني خمس سنوات . ولن يموت
الآن لمجد تذكره أننــي لم أعد زوجته .
ـ ولكنه لا يتذكر, وصدمة إبلاغه ذلك قد تحدث له ضرراً لا
يمكن إصلاحــه .
بالرغم من اضطرابها , ضحكت جيني :
ـ إنه أقوى من هذا . . . رأسه أقســى من الصلد .
ـ كان هكذا . . . ولكنه الآن ضعيف , هش , يتمسك بالحياة
بخيط رفيع , وأنا أرفض قطع ذلك الخيط بقولــي له ما يرفض
سمــاعه .
والتقت عيناهما . . فتنفست جيني بصعوبة :
ـ لا يريد أن يسمعه ؟ ماذا تعنين ؟
فتمتمت إيفا :
ـ أوه . . . جيني . . . أنت تعرفين بالضبط ما أعنــي . . . لقد
حصلت على رأي أخصائي نفسي بهذا الأمر . . روبرتو لم يفقد
ذاكرته فقط . . بل إن عقله الباطن يرفض أن يتذكــر .
وأخذت جيني تتحرك بقلق :
ـ ولماذا ؟ . . أعرف ما تحاولين عمله إيفا . . . ولكنك لن
تنجحي . . يجب أن تتقبلــي أنني و روبرتو قد انتهى أمرنا معاً ,
وهكذا كان منذ خمس سنوات . وحادثته لن تغير من الواقع شيئاً .
بعد ثلاثة أشهر ســأتزوج ثانية . وأنت تعرفين هذا .
وتجاهلت إيفا ملاحظتها وقالت بخشونة :
ـ روبرتو يحمي نفسه . . . هذا ما قاله الطبيب النفسي . . . إنه
يعرف أنه مريض وقد يموت . . . لذلك عاد إلى أيامه السعيدة
معك , وهذا يشعره بالأمان . ويعطيه سبباً ليعيش من أجلــه
ـ أتعرفين ما تقولين ؟ إنها ليست الحقيقة .
ـ يا عزيزتي . . أنا واثقة . . . روبرتو لم يفقد ذاكرته نهائياً , بل
فقد الجزء الأخير منذ فقدك . لقد أقفل عليها الباب . حــتى
أندرو . . ابنه . . . الذي يحبه . . . صدقيني . . . لا يذكره . ولا
يمكن له أن يرفض تذكــر ابنه للاشــيء . ومع ذلك ينظــــر إلى الولد
دون أحساس ويســأل : من هذا ؟
وعضت جيني شفتها .
ـ يا للولد المسكين ! وهل تألم لهــذا ؟
فتنهدت إيفا :
ـ لقد تكدر بالطبع . ولكنني أبعدته عن الجو , وشرحت له أن
إصابة أبيه جعلته يفقد ذاكرته , وأظنه فهم الأمر .
واستدارت جيني . . . تلف ذراعيها حول نفسها وكــأنها تكاد
تتجمد من البرد . . . وقالت :
ـ مهما يكــــن . . . لن أستطيع الذهاب .
.
وتقدمت إيفا من الطاولة , حيث ورقة الرسم المنزوعة من
الدفتر الكبير . . والتقطتها لـتنظــر إلى الرسم غير مصدقة :
ـ هذا عظيم . . . عظيم جداً . . . كــم أنت بارعة يا جيني !
فــاحمر وجه جيني .
ـ أوه . . . إنه مجرد خربشة من الذاكرة .
ـ ولكنك التقطت ملامح وجهه ببراعة . هل لــي أن أحتفظ بها ؟
ســأحافظ عليها كأنها كنز . . . جيني . . . أرجوك !
ـ بالطبع .
ـ شكــراً لك .
ونظرت إليها إيفا بعينين دامعتين :
ـ أرجوك اذهبي إليه . . أرجوك !
وتأكدت جيني أن لا مفــر لها . . وستبقى إيفا هنا إلى أن توافق
فقالت :
ـ أوه . . . حسناً .
وفي السيارة سألتهــا إيفا .
ـ مــاذا قال خطيبك عندما أخبرته عن روبرتو ؟
ـ لم أخبره بعد .
ـ ألا يعرف شيئاً عن حالته ؟
ـ أشك في أنه يعرف عن الحادثة أصلاً .
ـ وهل تظنيني سيمانع ؟
فضحكت ببرود :
ـ تعرفين جيداً أنه سيمانع , فأنا خطيبته , ومع ذلك أذهب
لأقف قرب فراش رجل آخــر وأتظاهر إننــي زوجته . . فماذا تتوقعين
منه ؟
ـ مما أذكره عنه , مع ما قلته , كــــان دائماً لطيفاً واسع المخيلة . . .
وبالطبع سيفهم .
توقفت السيارة خارج المستشفى , ولحقت جيني بإيفا إلى
الفناء الداخلـــي , ثم إلى المصعــد . . . خارج غرفة روبرتو توقفتا ,
ومدت إيفا يدها إلى جيني :
ـ الخاتم .
ارتجفت يد جيني وهي تأخذه . وفتحت إيفا الباب هامســة :
ـ ســـأنتظر في قاعة الانتظــــار .
بعد لحظـــات دخلت الغرفــــــة . . وكانت فارغـــــة وصامتة . .
والطيف الملفوف بالأربطــة فوق السرير لم يتحرك وهي تتقدم إليه .
ووقفت بهدوء إلى جانبه . . . ثم انحنت غير قادرة على مقـــاومة
إغراء يدفعهـــا , ولمست بشفتيها جبينه .
وعلى الفور امتدت يده لتلتف حول عنقها . فرفعت نظرهـــــــا
لترى أن جفنيه قد ارتدا عن عيني السوداوين , وهمــس :
ـ جيني . . . حبيبتي . . . أخيراً . . أين كنت ؟
وحاولت الابتعاد عنه دون جرح مشاعره , ولكــــــن يده كان لها
قوة غريبة ولم تتركهـــا . . فقالت :
ـ تبدو أفضـــل حالاً الآن .
ـ قبلينــــــــي ثانية . . . كنت نائماً . . هذا ليس عدلاً . . أريد أن
أكـــــــون مستيقظاً عندما تقبليني .
وقبلته بخفة , ولكن يده ضغطت على عنقهــا , وأبقت وجههـــــــــــا
قربه بينما كان يمرر فمه على خدهـــا .
لم تكن تتصور مطلقاً أنها ستشعر ثانية بهذه المشـــاعر معه .
وآلمها ذلك حتى أنها أرادت أن تهرب . وتخلصــــت من قبضته ,
ووقفت ويداها متشابكتان . . تتنفس وكــأنها كانت تركض .
وتحرك بقلق . . ولاحظت الألم في عينيه , وســألها :
ـ ما بك ؟
ـ يجب أن تبقــى دون حراك . . . فالتكدر لا ينفعك .
ـ ولكنني ســأتكدر أكثر لبرودك معــي . . تبدين أكبر سناً . . .
هل يجب أن تبقى هذه الستائر مسدلة فوق النافذة ؟ أريد أن
أراك . . . اقتربـــــــــي منـي .
واستدارت لتجر الكرسي وتجلس قرب السرير , مبقية رأسها
بعيداً . . لا بد أنه سيلاحظ التغيير عليها , فذاكرته تفتش عن الفتاة
ذات التسعة عشر سنة . وهي الآن امرأة في الرابعة والعشرين .
ـ لا يجب أن أبقى طويلاً .
ـ ولكنك وصـــلـــت لتوك . . ما الأمــر . . لماذا تبتعدين عنــــي
هكــذا ؟
فاستجمعت كل شجاعتها , ومالت إلى الأمـــام مبتسمة :
ـ آسفـــة لهذا . . . كنت قلقة عليك .
فانفجــرت أساريره :
ـ بالطبع ! يا عزيزتي المسكينة ! آسف لأنـــني سببت لك
التعاسة . أنت صغيرة على وضع كهذا . . . يا حبيبتي . والأمــر
صعب عليك . ولكن لست أدري ما حدث , ولا كيف حدث , كل
ما قالوه لــي إننــي حطمت السيارة .
وبدا مريضــاً , ضعيفاً , ولكن لم يبدُ أنه يموت . . إنه منطقــي ,
وواضح التفكير .
ـ لقد انسكب الزيت من صهريج , وتزحلقت السيارة فوقه .
فقطب :
ـ ومتى كان ذلك ؟ آخــر ما أذكــره هو رحلتنا إلى لندن . أذكـــر
عودتنا من مطار هيثرو . . وكنت معـــي في السيارة . . . يومها لم
لم تحصل حادثة أليس كذلك ؟
و أحـــســت بألم في حلقها , وابتعدت بصعوبة .
ـ لم أكن معك ســـاعة الحادثة .
ـ لا . . أمــي قالت هذا . . أذكر . . . لماذا تأخرت عن المجيء ؟
أين كنت ؟ مع داني كما أعتقد ؟ ومع صديقك العزيز غرانت ؟
ووقفت بقوة عن الكرســـي حتى كادت الكرسي تقع .
ـ يجب أن تنام الآن روبرتو . لقد وعدت الطبيب أن لا أبقى
أكثر من دقائق .
ـ أبقي هنا . . لم تردي على ســـؤالي . . هل كنت مع غرانت
كراولــي ؟
ـ لا . . . لم أكن معه . . . كنت مع أبـــي في باريس .
وبدت عليه الراحــــة :
ـ أوه . . . أنا آســف حبيبتي .
ـ والآن يجب أن أذهب .
فهمـــس :
ـ قبليني .
.
وقبلته . رغـــم إحـــســـاسهــا بالعـــذاب , وداعبت يــده شعرهـــا
الحريري . فارتجفت , ثم عاد إلى الاستقاء متنهداً , وبدا لها مرهقاً
حتى أن مشاعر الحنان لديها تحركت نحوه . فقالت له متوسلة :
ـ عــدني أن تنام الآن .
فابتسم وتمتم بصوت ضعيف :
ـ أعدك .
وقبل أن تتركـــه كان يغط في سبات عميق .
وكـــان مع إيفا رجــــل قصــيـــر ممتــلئ تبدو عليه الأهمــيــة . فابتسم
لها ومد يده :
ـ آه . . سيدة باستينو , سعيد جداً لمقابلتك .
فردت جيني بحدة وهي تنظر إلى إيفا :
ـ أن الآنســة نيوهام .
وقالت إيفا :
ـ هذا هو السيد كيلي , الأخصائي الذي سيتولــى معــالجة
روبرتو .
ونظرت إليه جيني دون اهتمام :
ـ هل أنت طبيب نفساني ؟
فرد بسرور :
ـ من بين عدة أشياء . . كيف وجدت زوجك ؟
فردت بحزم :
ـ نحن مطلقان .
فابتسم :
ـ ولكنه لا يعتقد هذا .
ـ مهما كان يظن . . فنحن مطلقان .
ـ قانونياً أجل . . . ولكن إذا لم يكن يتقبل الأمــر . . . فأنت
مجبرة .
ـ هذا مناف للعقـــل !
فابتسم بخبث :
ـ ولكنك هنا سيدة باستينو , وهذا يدل على أنك تتقبلين فكـــرة
ارتباطه بك .
بدت عليها الصدمـــة والشحوب .
ـ لقد جئت لآن أمــه توسلت إلي .
ـ وإن يكــن . . مهمــا كــان السبب الذي تبررين لنفسك به , فلقد
جئت . وهذا مــا يقول لــي إنك ملتزمــة به .
ووضعت جيني قبضتيها على جبينها :
ـ لا !
وأدار الرجل القصير ابتســـامته نحو إيفا :
ـ هل لــي أن أتحدث إلى السيدة باستينو على انفراد ؟
وأمسك بذراع جيني .
ـ هل تسمحين أن تأتـــي معي إلى مكتبي ؟
فقالت إيفا :
ـ ســـأنتظرك هنا عزيزتي .
وقدم لــها كرسياً أمام طاولته , وجلس مبتسماً :
ـ زوجك لا يذكــر الحادثة . . أتعرفين هذا ؟
ـ قال لـــي .
ـ وهل قال لـك آخـــر ما يتذكر ؟
ـ أجـــل .
ـ وهل تسمحين بقوله لــي ؟
فهزت كتفيها :
ـ لست أرى حقـــاً . . .
ـ أرجوك !
فــتـــنــهــدت :
ـ آخـــر ما يذكره رجوعنا من رحلـــة إلى لندن .
ـ ومتى كــان ذلك ؟
ـ منذ أكثر من خمـــس سنوات .
ـ وهل لهـــذا أي ميزة لــديــك ؟
وجمدت الابتســـامة على شفتيها . . ميزة ؟ . . أجــل . . إنها تذكر :
ـ بعد أيام من عودتنا تشاجرت معه وتركته وعدت إلى منزل
أبــي . . .
ولم تستطـع أن تكمــل , وارتجفت شفتاها , واندفعت الدموع
إلى عينيها .
ـ وبعدها . . .
ـ لم يكن مخلصــاً لـــي .
ـ وهل اكتشفت هذا بنفسك ؟
وهزت رأسها ايجابياً وهي تتذكر , لقد نامت عند والدها ليلة . .
ثم في الصباح اكتشفت خطأها , فأخذت سيارة تاكسي إلى منزلها
في الصباح الباكر , وبكل الحب والشوق ركضت لتصل إلى غرفة
نومها , غرفتهما , وفتحت الباب لتجمد وكأنها تلقت رصــاصة في
قلبها .
من على الوسادة قرب رأس روبرتو الأسود , رفعت جيسكا
رأسها ذي الشعر الأحمر مبتسمة , ولم تقل كلمة , بل تحولت
البسمة إلى ضحكة . . . وأخذت العينان السوداوان تسخران منها .
واستدارت جيني دون كلمة وخرجت من المنزل . . . فيما بعد
ذلك اليوم جاء روبرتو ليراها . ولكن والدها رفض السماح له
بالدخول . ومن غرفتها في منزل والدها سمعت الصراخ . . . وحاول
روبرتو اقتحام طريقه إلى الداخل . . . ووصل غرانت . . . وكانت
معركة قاسية , شهدت كل فصل منها وهي ترتجف وتحس بالسقم .
و معاً . . تمكن والدها و غرانت من طرده . وفي اليوم التالي كانت
جيني في طائرة متجهة إلى لندن للإقامة مع عمتها هناك . . . ومن
هناك أرسلت وكالة لمحاميها لإجراء الطلاق . وأرسل روبرتو عدة
رسائل لها . . لم تفتح أي منها . . . وعادت لتتم إجراءات الطلاق
في أمريكا . . . وبعد أسبوع تزوج روبرتو من جيسكا . وبعد الزواج
بثلاثة أسابيع ولدت له أبنها , أندرو . . الولد الذي وضع روبرتو
كل دمغات العائلة عليه , ولا مجال له لإنكــار بنوته .
ـ وهكذا تطلقتمــا ؟
ـ أجل .
ـ وهل رأيته منذ تركتـــه ؟
ـ لا . . .
ـ إنها قضية فتحت وأقفلت . . . أليس كذلك ؟
ـ صحيح ؟
ـ هيا الآن سيدة باستينو . . .
فصاحت بشراســة :
ـ لا تناديني بهذا الاســم !
ـ يا عزيزتي الشابة , وماذا في هذا الاسم ؟ لا يمكن الجدال
حول الأمر , فزوجك بكل مرارة نادم على الطلاق . ويرفض كل ما
مر به منذ يوم تركته . لقد أبعد تلك الفترة عن ذاكرته , لأنه فــي
حالته الحاضرة , عقله الباطن يعف أنه لا يستطيع مواجهة تلك
المرحلة من جديد . وإلى أن يستعيد عافيته سوف يستعيد ذاكرته .
ـ وماذا إذن ؟ لا أستطيع الاستمرار في الادعاء . فأنا مخطوبة
لـــرجل آخــر .
ـ هكذا عرفت . . . منذ متى أنتما مخـطوبان ؟
ـ منذ أكثر من أسبوع .
واتسعت عيناه بخبث .
ـ حقــاً ؟ هذا مثير للاهتمام !
وحـــدقت به جيني . . . لماذا يبتسم هكذا ؟
ـ هل أعلنت خطوبتكمـــا في الصحف ؟
ـ طبعــاً . . .
.
شهرة داني في عالم التصميم , وشهرة دار الأزياء التي يملكها
غرانت , جعلت نشر الأمــر محتماً . حتى أن عدة صحف نشرت
قصصاً صغيرة حول الأمــر .
ـ هل تذكرين تاريخ ظهور تلك القصص ؟
ـ يوم الخطوبة بالضبط . . . أوه . . . لا في اليوم التالي . . .
وتوقفت عن الكلام فجأة وحدقت بالرجل . . . ثم قالت ببطء :
ـ يوم . . حصلت . . الحادثة . . لــ روبرتو !
فابتسم , وبدا الرضى على وجهه .
ـ بالتحديد . . . هذا مــا كنت أرتاب فيه . . . وكما قلت قضية
فتحت وهي مقفلة . . . وواضحة جداً .
ـ بل أكثــــر من واضحة . . . وأنا لا أصدقها .
وضم يديه معاً وكأنه يصلي . . . وابتسم دون أن يخفي رضــاه :
ـ وهل لديك تفسير آخـــر ؟
فوقفت :
ـ ليس في الوقت الحاضر . . . ولكنـــني ســأفكــر بتفسير آخــر .
وانفجــر ضاحكــاً .
ـ افعلـــي هذا أرجوك سيدة باستينو .
فحملقت به غاضبة , وقالت بعد تفكيــر :
ـ ألم يتبادر إلى ذهنك لو أن ظهور خبر خطوبتي هو سبب
حادثة اصطدام سيارة روبرتو . . فقد يكون فقدان الذاكرة شيئاً
متعمداً ؟
فاتســعـــت ابتســـامته :
ـ بالطبع . . . ولكن ليس بالضــرورة كمــا تعنين أنت . فهو لا
يدعـــي سيدة باستينو . . لقد فقد الذاكرة حقاً للخمس سنوات
الماضية . لقد جاهد عقله بكل طاقته ليقفل الستارة عن الذكريات
المؤلمة لحماية نفسه . وكما قلت , عندما يستعيد عافيته الجسدية ,
سيسمــح عقله للذاكــرة أن تعود .
ـ وحتى ذلك الوقت ؟
فهــز كتفيه .
ـ يجب أن أصــــر على أن لا تحرريه من هذا الوهم إلى أن
أسمح أنا بذلك . فقد تكون الصدمة مؤذية جداً له .
وحدقـــت بالأرض تعض شفتيها :
ـ لن يموت . . . وأنا واثقة من هذا . لقد كـــان أقوى بكثير اليوم
عمــا شاهدته أول مرة .
ـ ولكن الصدمــة قد تقتل أي إنســـان وهو بصـحــة كــاملة ,
صدقيني ! وعندمـــا يصــاب شخص كــزوجــك سيكــون الخطــر مضاعفاً .
وأغمضــت جيني عينيها . . . وهمست بيــــأس :
ـ أوه . . . يا إلهــــي ! . . . لست أدري كـــم أستطيع أن أتحمــــل
بعد

   الدوامة - شارلوت لامب        روايات احلام  Where stories live. Discover now