في ظلام الليل القاتم الذي اتخذ من الزنزانة الصغيرة التي تحضنني و رفاقي مسكنا دائما له ، يهمس القلم للورقة بألحان سحرية متناغمة وحالمة ،ترتفع في أنين أشبه بموسيقى علوية لتعانق الارواح الراقصة في سماء البلد السوداء ، السماء الفاحمة كواقعي المر .
في ظلام الليل الذي تنيره شمعة تخترق سجف السواد المحيط بي وبماضي الاليم، أسجل بدماء القلب قصتي التي رسمتها المعاناة بمهارة، و أضاف اليها كل من الظلم، والرعب، و الإستغلال ألوانه، لتصير لوحة من الدمار و صورة للخراب .
في ظلام الليل أخط إليك دون غيرك بقلم المرارة ما وقع معي، فاستمع أيها القارئ بأذني قلبك لما سأحكيه ،و اعتبر بما ستقرأ فانت على وشك أن تدخل عالما يحكمه الطمع و الجشع ، عالم من السواد حيث الغلبة للأقوى . لا يوجد شخص يحميك في هذا العالم ولا حبل تتمسك به . فكل شخص هناك لوثته الرذائل، وكل الحبال بذاك المكان واهية .
بين عويل الارواح الأثيرية و صراخها ، أكتب صديقي هذه الاسطر . انا السجين المعذب أبد الدهر ،القابع في زنزانة منسية ، جدرانها المصفرة من أثر السنين تصيبني بالغثيان .عليها تفنن المساجين قبلنا في تأريخ اسمائهم بأحرف من الدماء لعل الزمن يخلدهم هناك بعد أن سرق شبابهم وحياتهم وأرسلهم وجبة دسمة للموت . أسماء قضت نحبها و تركت خلفها بصمات سوداء في جدران العار و الخزي . على الارضية الإسفلتية ترى أثر خطاهم، خطى متعبة أثقلها الدهر و الهرم ، خطى تحكي آلاف القصص التي لم تكتب قط ، ولم تنطق . وعلى تلك الاسرة الإسمنتية استلقت هياكلهم المتعبة يوما ، هياكل أنهكها العذاب و امتص كل قواها ، و استنزفت الوحدة كل إرادتها فصارت طعما سائغا لجنون .
لكنني يا صديقي لست مثلهم ، ولم أكن يوما . انا رضعت الظلم حليبا اسودا من ثدي أمي، و علمت الخضوع حرفا اساسيا من حروف السلطة لا يصح الحكم دونه، وعاشرت العذاب أخا حتى صار يقلقني أن لا أعذبا . أنا لا يخيفني الظلام فهو موطني، ولا يقلقني الجنون فهو مسكني، ولا أهتم بالوحدة فهي خليلتي . أيظننون بأنهم سيخيفونني بألعابهم الصغيرة تلك ؟ أيظنون أنهم بتلفيق تهمة القتل سيتمكنون مني ؟ أنا سراج غانم ، مجرد الهمس بالأحرف المستعصية لإسمي يجعل أكثر الرجل قوة و ضخامة يقف احترما لي و تقديرا لكل ما فعلت . أنا لم أقتله ، قد لا أكون ملاكا لكنني لست شيطانا او قاتلا، معظم الأشياء التي قمت بها في حياتي كانت أعمالا خيرية رغم أنني عشت في بيئة فاسدة بين أب ثمل وأم قضت نحبها عندما بلغت الثامنة من عمري.
أسمع رنين المفاتيح يقترب ، علي ان أسرع ، لم يتبق لنا الأن إلا بضع ساعات للهرب .النفق شارف على الإنتهاء ، وبعد سويعات قليلة سأكون أعانق الحرية تحت شمس العدالة مع المساجين للذين اقاسمهم الغرفة ، النفق و ذاكرة الالم ، بعد سويعات سيقودنا النفق إلى خارج هذا الظلام العابس، سيقودنا إلى حيت تضحك الشمس و ترقص الازهار و تنشد العصافير ألحانها . قريبا أيها القارئ سنتحرر من هذه القيود و الأغلال التي تعيقنا .لا بد أنك تتساءل الآن ما الذي زج بي في هذه الحفرة السوداء التي لا قرار لها . لا تنكر ، أستطيع أن أستشعر من مكاني الفضول وهو يخنقك ببطء ،و أكاد أراه يلح عليك و يكثر السؤال . لا تقلق فالوقت حان لكي تعرف الأحداث التي أدت إلى كل هذا . هل سمعت يوما بنظرية اثر الفراشة و الفوضى ؟إنها ببساطة تنص على أن أي تغير ضئيل في نظام كبير يمكن أن يؤثر على كل شيء، فمثلا رفرفة فراشة في الوقت المناسب في الصين قد تسبب إعصارا في اميركا . هذا تماما ما حدث معي فمجرد نظرة واحدة أدت إلى كل هذه الفوضى بحياتي .لكنني لست نادما على ما فعلت .
الذكريات بدأت تتوافد ، وتسحبني معها ببطء، عبر سراديب الذاكرة نحو تلك الليلة الماطرة . حيث بدأ كل شيء.
أنت تقرأ
حبال واهية
Short Storyعندما التقت أعيننا لأول مرة منذ سنوات ، تجمد الزمن بنا ، و توقف الكون عن الحركة ،و اختفت الأشياء من حولنا . لم أستطع أن أمنع نفسي من التحديق والإبحار في المحيط العسلي لعينيه ،و اكتشاف اسرارهما التي حيرتني و أرقتني لسنين. كان كالكتاب المفتوح تسهل قرا...