الفصل الثاني : جراح الماضي

349 18 0
                                    

اللعنة على الذكريات فقد اغتالتني.   حنا مينة

حدث هذا منذ سنوات قليلة مضت ، كنت في عمر الربيع ،في أعوام الطموح والمغامرة و الإنطلاق .كنت شابا لا يزال يشق طريقه نحو المجد . شابا قد يبدو غرا ،صغير السن، لكن في عروقه ترقص روح رذي . شاب نالت الحكمة والتجارب من روحه و أشعلتها شيبا ، و فتحت الحياة ذراعيها لإستقباله، و ابتسم له الربيع بعذوبة .  لكن عينيه المسنتين كانتا تريان الجانب الآخر من الحياة، كانتا تريان فيها سوداويتها و ظلمها ، ولا عجب فقد عانى منها الأمرين. هكذا كنت،ولا أزال ، أعيش كما أريد أن أعيش في تحد صامت، عميق الجذور في نفسي،مغروس بقوة في شخصيتي، ليس بسبب دلال والدي فبالكاد عرفتهما، ولا توجيه المدرسة فلم أتعلم منها شيئا،  بل كان أمرا نما في ببطء بسبب البيئة القاسية والظروف الصعبة ، لقد نما في و  ترعرع كما تنمو النبتة في السهب المخيف .

 ولم يكن هو الأمر الوحيد، فالمشي ليلا هو الآخر شب معي وشاب .فمنذ ان كنت طفلا، أحببت التسكع ليلا في أزقة المدينة وشوارعها  ، فبعد أن يأتي أبي ثملا في الليل ويقلب المنزل رأسا على عقب من الغضب ،كنت أهرب و أمشي في الشوارع على غير هدى و أفكر، ثم أعود إلى البيت حين تهدأ الأجواء. و عندما كبرت وصرت شابا كبرت معي هذه العادة . و بهذه الطريقة  عرفت وجه مدينتي و باطنها . عرفتها -تلك المدينة التي احتضنت هواجسي وأحلامي و أبوين يرتبط إسماهما في ذاكرتي بالألم والمعاناة -كما أعرف كفي . فقد  عاينتها ، شارعا شارعا ،و زقاقا زقاقا،و منعطفا منعطفا .

وفي تلك الليلة الماطرة كنت أمشي في الشوارع دون وجهة محددة. هائما في زقاق يتيم أسود. أتجول في الذكريات المعذبة التي تقيد الطائر بداخلي. سكين حاد ينغرس في قلبي،و آهات جريحة تنطلق مع كل ذكرى أستحضرها ،ألمسها ،و أرقبها. عيناي تذرفان الدمع حمما ساخنة ، دماءا حارة ،فتمتزج مع المطر المتساقط و تأخذ الألم بعيدا ، تحمل ليالي الخوف وتلقيها ، تغسل كل هواجس الماضي و تعيد إلي الطفولة  التي فقدت حين امتدت يد أبي لتصفع الحلم داخلي بقوة .

صراخ وحوار صاخب ، تسلل إلى أذني معيدا روحي الحالمة إلى الواقع . أتذكر جيدا أنني اقتربت من مصدره ببطء ، وتوقفت في مكان يتيح لي أن أشاهد ما يجري دون أن يراني أحد . كنت أسترق السمع إلى الحوار الشيق الذي كان يجري بين الرجلين . أحدهما كان يصرخ على الآخر . صوته كان مألوفا بطريقة غريبة :
-" أتمازحني !! كان من المفترض أن تحضر 100 كيلو !وها أنت ذا تحضر نصف الكمية . لم يكن هذا اتفاقنا ."
-" أخفض صوتك ، حسنا ؟ قد يسمعك أحد ، نحن لا نثق بعصابتكم . لهذا خبأت النصف الآخر في مكان أمين ، لن تحصل عليه حتى أرى الأموال كاملة"
-" أولا ، لا تخف لا أحد يمر من هنا المكان آمن . " كان يتكلم بصوت واثق  و هو يفتح حقيبة كان يحملها طوال الوقت ، وحين ظهرت رزم الأموال من بين أنياب الحقيبة امتدت يد الرجل الآخر دون وعي فأغلقها  واكمل "ثانيا ها هي ذي أموالكم .لكن نحن أيضا لا نثق بكم ،لذا لن تلمس ورقة منها ما لم أحصل على المخدرات التي تكبدت كل هذا العناء لأجلها "
-"حسنا ، ابراهيم ، اتبعني لكي تحصل على ما تريد "
-"إلى اين سنذهب ؟"
-"إلى شارع العدالة ،نحو البيت  رقم 10"

حبال واهية Where stories live. Discover now