طوال الطريق نحو المدينة راقص الصمت أرواحنا المتعبة على أنغام السكون ؛طوال الطريق غمرنا بقشرته الرقيقة خوفا علينا من برد الكلام . كم هو رحيم بنا الصمت ، إنه يدرك حجم النزيف الذي يتسرب منا ،هو يدرك حجم الخسائر التي خلفتها الحياة بنا ، هو يعلم أن كلا منا يداوي الجرح منفردا؛ لذا فهو قد حل ليحمينا بأغطيته الهادئة .لكنه سرعان ما ارتحل ما إن توقفت الشاحنة وأفرغت حمولتها البشرية في شارع جانبي خال، بعد أن تجاوزنا نقاط الشرطة المنتشرة كجراد هنا و هناك .
إجتماعنا في حلقة لنودع بعضنا البعض ، فقد لا تمنحنا الحياة فرصة أخرى ليملس كل منا جراح الآخر و يعالجها ،ثم افترقنا وسلك كل من الهاربين طريقا نحو واقعه المدمر ، أما أنا فقد توجهت إلى منزلي فهو قريب من المنطقة التي نحن فيها . أستطيع أن أستشعر الهلع يزين وجهك والدهشة تملؤه، لا تخف فأنا لست أحمقا كي أسلم نفسي للشرطة لقمة سهلة، لدي خطة ، أنا فقط أحتاج شيئا من هناك سيساعدني لإتباث براءتي .
اقتحمت البيت من النافذة فالباب كان مقفلا كما توقعت ، و بحثت أسفل السرير عن بندقيتي ، فوجدتها هناك كما تركتها حملتها و خرجت . لا تستغرب توفري على بندقية فأنا كنت أهوى الصيد سابقا و كنت أعشق أن أنطلق في الغابة و اقتنص الطيور رفقة كلبي "جايس" لكن منذ أن توفي حزنت عليه أشد الحزن وانقطعت عن الصيد . فقد كان" جايس" من أعز أصدقائي ، وفيا وصبورا ، عكس الذين تخلوا عني ما إن سمعوا بسجني ،و لو كان حيا لما تركني بل لانتظرني أمام باب سجن حتى يفرج عني ، أما الآخرون فحبالهم الواهية لم تتحمل فتمزقت بسرعة .
أمشي في الطرق المظلمة وحيدا كالعادة ، لم يكن لدي أحد اعتمد عليه أو شخص يعينني بعد ما وقع. أمشي غريبا بين جدران المدينة التي احتضنت طفولتي القاسية ومعظم أيام شبابي . أمشي نحو وجهة محددة هي آخر أمل لي ، أمشي نحو بيت زرت قاطنيه رفقة صديق بضع مرات ، لم يكن لدي حل آخر غيره ، هو وحده يملك الدليل الذي سينقذني من الموت المحقق .
وقفت أمام بيت واجهته بيضاء مزخرفة . أخذت نفسا عميقا و طرقت الباب ، ففتح بعد بضع دقائق ، وطالعتني صورته . اتسعت عيناه من الصدمة ، فوجهت البندقية نحو رأسه وهمست :
“اياك أن تحاول الصراخ أو أن تبلغ الشرطة، فلن أتردد حينها، و سأفجر رأسك و كل أفراد عائلتك ، لذا تنح عن الباب و دعني أدخل فقد جئت لأحدثك فحسب ”لم يتفوه بكلمة وفتح الباب عن آخره وسمح لي بالمرور ثم أغلقه ما إن دخلت وقادني إلى غرفة في قاع البيت و أغلق الباب خلفنا ودعاني إلى الجلوس .ثم بدأ الحديث و الكلمات تشق طريقها بين شفتيه وهي ترتجف :
-" ماذا تفعل هنا ؟ ماذا تريد مني ؟"
-" ماذا أفعل هنا ؟!! أ حقا لا تعرف يا دكتور أم أنك تتغابى ؟ لا تحاول خداعي . فأنا أعرف ما فعلت "
-" لم أفعل شيئا "
-" لم تفعل شيئا ؟!!! لا تكذب ، أنا أعرف أنك كتبت في التقرير ان الرصاصة من نوع Parabellum عيار 19*9مم لكي تتهمني . كلانا يعرف أنني بريء، فالمسدس browning bdm الذي وجدتموه كانا فارغا و الرصاص لم تلمس أي واحدة منه . أخبرني ،لماذا فعلت هذا ؟ لماذا تريد ان تدمرني ؟ لم ترغب في أن تخطف الحياة من روح بريئة ؟ لماذا ؟!"
-"لم يكن الأمر بيدي . فقد تعرضت للتهديد ، من لدن عصابة . الرصاصة التي أصيب بها الرجل كانت من مسدس Deseret eagle ذو العيار 37 ، لكن العصابة أخبرتني أن أكتب أنها من نوع Parabellum كي يتم الإيقاع بك ، لكنني احتفظت بالتقرير الأصلي . أنا آسف،أنت لا تدرك حجم الجحيم الذي أعيش فيه منذ أن دخلت السجن. ضميري لم يكف و لو للحظة عن تعذيبي وخنقي . عيناك الفارغتان يوم المحاكمة لا تزالان تطاردانني في الليل . لقد أصبحت حياتي عذابا .ارجوك أعذرني "
-"إذا ساعدني ، وخلص نفسك من المعاناة . بامكانك إعانتي الوقت لم يفت بعد "
-" أود ذلك لكني خائف على حياتي و حياة عائلتي تفضل ها هو التقرير الأصلي هذا كل ما يمكنني فعله"
-" أرجوك انا أعلم أن باستطاعتك فعل المزيد . ساعدني ولا تخف فالشرطة ستؤمن لك الحماية ، كما أن العصابة لا تزال تظن أنني محتجز في السجن لذا هي لن تلاحقك الآن . علينا الاسراع قبل أن ينتشر خبر هروبي من السجن . أرجوك دكتور انت أملي الوحيد أحتاجك معي، لن يصدقني أحد حتى لو أريتهم التقرير الأصلي ،أرجوك ."
أنت تقرأ
حبال واهية
Short Storyعندما التقت أعيننا لأول مرة منذ سنوات ، تجمد الزمن بنا ، و توقف الكون عن الحركة ،و اختفت الأشياء من حولنا . لم أستطع أن أمنع نفسي من التحديق والإبحار في المحيط العسلي لعينيه ،و اكتشاف اسرارهما التي حيرتني و أرقتني لسنين. كان كالكتاب المفتوح تسهل قرا...