الفصل الخامس و العشرون

50 4 21
                                    


"أنا أصلى من الغابة ، لم أخرج منها قط و لم أقذف اليها عن خطأ ، أنا من الذين عاشوا على أطراف الغابة حوافها بالقرب من مداخلها...، كلاً و كيف حصل مسكن هناك ، من يبنى كوخ و من يجد كوخاً مهجوره فيتخذه له ، و من يرثون الأكواخ عن أجدادهم ... و يعملون غالباً بقطع الأشجار و بيع الحطب ، و بأى مما يستطيعون أحترافه فى حدود ما تجود الغابة علينا به، و الكوخ الذى عشت أنا فيه ، أقل ما يقل عنه أنه مكتظ بالبشر ، من المفترض أننا كنا جميعاً أهل ، آباء و أمهات ، أخوات و جدات ... هكذا ، أجيال سكنت كوخ واحد ، و من البديهى أننا لن نجد أى راحة أو يسر لا فى نوم ولا أكل ولا ملبس ، بيد أن الفقر ليس هو ما دفعنى للهروب ، بل سوء المعاملة و الشعور بالغربة ! ، كنت فى الثامنة من عمرى ...تخيلى أن طفلاً فى الثامنة غير قادر على تمييز بين أمه و أبيه و الكارهين له ، أشقاءوه من الذين يودون الأنقضاض عليه و أستغلاله لآخر رمق ، و توصل عقلى فى ذلك الحين الى أن الخلاص لا يكمن لا فى خلاص حقيقى ، فى الهرب ...، كان من الممكن أن أحاول جمع كل أغراضى و المغادرة بها كما الكبار ...لكنى لم أملك شيئاً ، أكتفيت بأن أخرجت أفضل ما عنى من ثياب من الخزانة و خبئته حتى ناموا جميعاً ، فبدلت ملابسى و غادرت ...خفيفاً بلا متاع ، لا أحمل سوى سكين و مصباح ، هما ملاذى و مرشدى فى جهمة الغابة و تجمهر أغصان أشجارها ...و رغم ذلك سرت فى سلام و لهفة كأن أرض الغابة تجذبنى الى داخلها أكثر و أكثر ، كأنها تريدنى أو كانت تنتظرنى ...، سرت حتى بدى لى الصبح ، فأيقنت أن أهلى دقائق و يستيقظون و خشيت أذا أرادنى أحد كى أقضى له خدمة أو ليتسلى بممارسة أى شغب على ليحس بسلطة ، فيتبينوا غيابى ، و يخرجوا للبحث عنى...كنت متعب من المشى لكنى لم أدرك تعبى و كيف أتعامل معه ، فأنا طفل ، بالضبط كما لم أفكر فى عواقب و مخاطر الفرار الى الغابة ،

فعدوت بكل ما تبقى لى من قوة حتى وطأت قدماى عشب وثير ، أخضر براق ، و حوله أشجار مثمرة بالفواكه ، شعرت أنى عثرت على الجنة وخيل لعقلى الطفولى أنى وجدت ضآلتى و أنه مكان جيد لأحيا فيه ، على الفور شمرت عن ساعدى و تسلقت الشجرة كى أسقط بعض الفواكه أملىء بها معدتى الفارغة ...و ما أن أتممت المهمة و نزلت على الأرض من جديد ، كان التعب قد زاد على و أصابنى بالدوار ، فجريت قدماى لتأخذنى الى مجرى المياه و أخلص من جفاف ريقى !، كان على أن أميل الى المياه بكفى كى أحمل المياة بداخلهما فأنا لا أملك ما أملئه بالماء ، و هذه الميلة خرت معها قواى الطفولية ، و فقدت وعيى على ضفة النهر ...ملقى الى جانبة بلا حيلة ولا أدراك ... ولا أدرى كم مكثت على هذا الوضع! "

أعتلت بسمة حلوة شفتيه و هو يقول : " كل ما أذكره هو أنى حين أستيقظت وجدت أبى ! "

و أمام جسر بلا سور ، بدائى يقبع فوق مياه عذبة جارية ، وقف (مراد) يمد يده لها كى يسندها خلال السير ، و هى مصدومة فى قوله ، لماذا رق صوته و هو يقول وجدت أبى ، ألم يهرب منه فى المقام الأول : " أبوك ! "

مستقبل من الماضىWhere stories live. Discover now