٦

679 69 164
                                    

لم تشكل زخات المطر _التي أخذت بالتكاثف شيئا فشيئا_ عائقا مزعجا لكل من مسلم ومريام؛ فكلاهما انغمسا في غمار الذكريات، إلى لقائهما الأول.

كانت الأجواء مشابهة لحالة اليوم: الكثير من المطر، الكثير من الرياح، الكثير من البرد.
كان كل شيء مضاعفا ومركزا لدرجة فاقت المعتاد.

لم يتوقع أحد في تلك الأيام أن يصل الجو إلى هذه المرحلة من السوء فأصبحت أوراق النخيل _بفعل العواصف_ تميل يمنة ويسرة تضرب بعضها بعضا. لاكأنها متصلة بالنخيل، متجذرة بالارض؛ بل كان كل شيء يبدو واقفا.. على وهم الصدفة.

الكل كان يستتر بنفسه عن العاصفة، وحتى أهل المحلة _ممن كانوا يتباهون أنهم الأفضل في مقارعة الطبيعة وهم الذين لاتثنيهم الأجواء عن الخروج إلى أراضيهم والاهتمام بها_ كانوا جميعا في منازلهم: يحاولون رتق هذا الشق أو ذاك؛ بغية حفظ أنفسهم، ومن معهم، من الخطر الذي يحلق ويحيط بكل أنفاسهم.

إلا مسلم وتلك الفتاة الصغيرة صاحبة الوجه البريء والعيون المفتوحة-الواسعة.
كانا -قدرًا- يتجولان مع أهلهم وأصدقائهم في آثار معبد للآلهة أنليل -آلهة الهواء- أو ماقد أطلق عليه باسم الزقورة.

كان هذا المكان معبدا للآلهة القديمة، حيث كانت تُبجل وتُعبد ويتجه الناس إليها في كل أمور الحل والعقد.. ماتت الآلهة منذ زمن لكن الناس لازالت تتعبدها بصورة أو بأخرى؛ لهذا أحب كلاهما أن يزورا واحدا من أشهر وأقدم الأماكن في العالم.

كان الجميع -وبضمنهم الشابين- يتخذون من مذبح الآلهة _في قلب الزقورة_ مخبأ لهم، يتسترون به عن كل مايمكن أن يمسهم في الخارج.
فالرياح الشديدة والجو العاصف _الذي يمنع عنك الهواء لو سلمته نفسك_ لايمكن لأحد أن يتحمله ويسيطر عليه؛ لهذا لم يتمكنوا من الخروج إلى عرباتهم.
كان الجميع خائفا من صوت الرياح وحدها فكيف بالخروج إليها؟
كانوا يغلقون آذانهم ليحتموا من صوت الرياح، مع أنهم يختبؤون في معبدها!

الجميع بقي هناك ينتظر أن تهدأ الأجواء وتعود المياه إلى مجاريها ويتحول المكان في الخارج إلى الهدوء الذي يرونه ويريدونه في الداخل.

كانوا يريدون أن تهدأ العاصفة وتبتعد هذه الزوبعة عنهم قدر الإمكان.
الجميع كان يريد ذلك إلا مسلما ومريام.

لاأعلم ماذا حصل في تلك الليلة بالضبط، وأنا متأكد أن لاأحد يعلم خفايا تلك الحادثة أيضا.
كل شيء سار بسرعة وبطء في آن واحد.

كان مسلم ومريام في باب المذبح، من جهته الداخلية، وكل منهما يستند بظهره على جدار يقابل الآخر.

العيون تلتقي والقلوب تتسارع كأنها تبغي العناق. قلوبهما كانت تريد الخروج، كانت تريد أن تتخلص من كل مايعلق بها، من كل الشرايين والأوردة التي تبقيها -قصرا- مثبتة في الصدور.

القلوب -وعلى مر الزمن- كانت تعرف الطريق الصحيح؛ فهي لاتُخدع بكل هذه المظاهر. فيبدو أنها لم تر في المعبد مكانا حاميا؛ إنما سجنا يبعد شابين صغيرين عن المتعة الكبرى للدخول في غمار هذا الجو، الذي يناديهما بكل تلاطماته، بدل أن ينشر خوفه...

أطالا النظر، وعلى ذلك كانت العيون تفهم الكثير، أكثر مما يمكن لأي كائن شرحه في تلك اللحظة.

لايعرفان السبب الحقيقي خلف جنونهما تلك الليلة، لكن المؤكد أنهما أحبا فكرة الاندفاع من بوابة المذبح ركضا إلى بيت نبي الله إبراهيم دون اكتراث بكل الخطر الذي يحيطهما، ودون الالتفات إلى الوراء أبدا.

لم يكن الطريق بين المذبح وبيت نبي الله إبراهيم قصيرا سهلا، ولم يكن كذلك طويلا صعبا.

مع أن بيت نبي الله إبراهيم كان قريبا من الزقورة إلا أن أحدا لم يكن ليتمكن من رؤيته من هناك؛ لان بوابة المذبح -حيث كان الجميع هناك_ متواجدة في الجهة الأخرى من الزقورة. كأن البنّاء كان حريصا على جعل المتواجد داخل المعبد والواقف على بوابتها لايتمكن بأي شكل من الأشكال أن يلمح البيت؛ لهذا كان عليهم الاستدارة حول معبد الزقورة والتقدم بكل ماملكوا من عصيان الشباب وثورته إلى قلب المنزل-شبه المهدم.

حالما وطؤوا المكان ظهر لهم خطأ خروجهم من الزقورة. كان عليهم البقاء هناك.. هناك، مع الجماعة، حيث لم يكن ليصيبهما شيء من الطين الذي رمته الرياح المحيطة بهم على أجسادهما فأضحت ملابسهما مدمرة بالكامل. لكنهما سرعان ماشيدا صرح القوة من جديد واصطادا كل الوساوس التي هجمت على حين غرة عند دخولها لهذا البيت.
أحرقا كل فكرة تشير إلى الخطأ، كل وكل فكرة كانت تريد منهما العودة، رموها في نار كانت تشبه النار التي يُحرق فيها كفار الآلهة.

إذ كان من يعصي الإله أنليل يرمى في محرقة الزقورة، حيث ينال جزاءه على العصيان. كان الأمر هنا مشابها بعض الشيء فكل الوساوس التي طالبتهما بترك هذا العمل، أصرا على حرقها في نار لاترحم إلا أن الفرق كان في الضحية.
فأهل المعبد كانوا يحرقون النور حتى لايبزغ عليهم؛ أما مسلم ومريام فقد أحرقا الخطيئة التي تتوسلهما العودة.. العودة التي رفضاها بكل مااعطاهم الله من قوة؛ فالجماعة القديمة لم يكن في اتحادها إلا هتكا لمبادئ الرب

الرب الذي يجب أن يَتَبِعانه، لارب تلك الجماعة الغاوية...

-----

لمن اعتقد أنني أحاول أن أكفر بالله في الفصل السابق، أتمنى أن يوضح هذا الفصل ماعنيته.

هذا الفصل سيخبركم أين يقف الصوت الذي خاطب مسلم في الفصل السابق
وأين يقف مسلم.

---

بالنسبة للمكان: كل ماذكر هنا عن الزقورة وبيت نبي الله إبراهيم هو صحيح -حمدا لله- فهي متواجدة في المحافظة التي أسكنها (ذي قار) والتي تقع إلى الشمال الغربي من محافظة البصرة الملاصقة لها.

---

هناك -وفي هذا الفصل- تشابه بين مسلم والسفينة هل عرفتموه؟ لاأظن؛ لأن شيئا مهما -ومن أركان القصة- لم تكتشفوه بعد في الفصول السابقة.

اسم اليهودي...

ملاخ همافيتحيث تعيش القصص. اكتشف الآن