الفصل الثاني عشر

11.7K 255 12
                                    

دخل مصعب إلى قصره والصمت المطبق يلفه كالمعتاد ، غياب ماسة المتكرر خارج المنزل يضايقه ، لا يعرف سبباً وجيهاً لذلك لكنه يضايقه ، تلك الواجهة الثلجية التي تواجهه بها تستفزه ببطء شديد ، حتى مشاركتها لعائلتها طعام الإفطار قبل يومين لم يساهم في تحطيم الدرع الذي تختبئ خلفه ، التزمت الصمت طوال الوقت ونظراتها كانت محيرة تتأمل الجميع وتدرس الانفعالات وتجري الحسابات في ذلك الرأس المكسو بغلالة حريرية ذات لون عسلي يحتل تفكيره أكثر مما يجب ! 
نادى على إحدى الخادمات وهو يتساءل كيف ذهبت ماسة إلى العمل اليوم فلقد تعمد أن يخرج تاركاً إياها كي يشعرها بصعوبة الاستمرارية في العمل خلال تواجده في عمّان ومع ذلك هو متأكد من ذهابها ، ألم يتصل خصيصاً بعز الدين اليوم متلكئاً عله يعرف شيئاً عنها ، إلى أن فهمه صديقه كي يخبره أخيراً أنها تعمل تحت رئاسة سلمى زوجة والده وقد تستلم منصبها مؤقتاً عند ولادتها ! ما يجعل احتمالية تركها لعملها من سابع المستحيلات ! 
وصلته الخادمة مرتبكة نظر إليها شزراً ليزيد من ارتباكها وهو يقول : 
- يلا جهزوا الغدا .. نص ساعة ونازل آتغدا ! 
أومأت له الخادمة برأسها وهي تسترق النظر إلى الساعة ، التقط حركتها وسألها بسرعة مباغتاً : 
- إيش في ؟؟ ليش بتطلعي على الساعة ؟؟ الأكل مش جاهز ! 
اتسعت عينا الخادمة رعباً وقالت : 
- كله جاهز سير ! 
ارتفع أحد حاجبيه وقد غاظه ألا يحصل على أي معلومة يبحث عنها فسأل مباشرة : 
- وين مدام ؟! 
لأول مرة تبتسم الخادمة للحظة خاطفة وهي تجيبه : 
- مدام في شوقل " شغل " هي في يجي كمان شوي سير .. في يتغدا ساعة خمسة بالزبط ! 
أخيراً حصل على معلوماتٍ مفيدة ، إذاً لديها موعد غداء محدد ؟؟ ابتسم كما الذئب حتى أنه شك بظهور أنيابه من شدة خبث أفكاره ، قال للخادمة ببساطة : 
- أنا في يتغدا مع مدام ، وين بتحطولها الغدا ؟ 
أجابت الخادمة بعدم فهم : 
- هي تحب تاكل في حديقة عند مسبح ! 
ارتفع حاجبيه استحساناً لذوقها ، هذه الماسة تحب أن تمتع نفسها إلى أقصى الحدود ، أومأ برأسه وهو يصعد درجات السلم و حماسه يتصاعد رغماً عنه لأنه يعلم أن مشاركتها الغداء ستكون تجربة مسليّة جداً معها ! 
بعد أن تجاوزت الساعة الخامسة بدقائق قليلة ، سمع مصعب صوت ماسة وهي تتجه إلى الحديقة نحو غدائها المنشود ، غادر غرفته ببطء مدروس كي يباغتها في خلوتها بعد أن تكون قد جلست و استرخت ! لم يدرك أن عيناها ما إن جلست إلى المائدة التقطت الطبق الإضافي الموضوع مقابل طبقها ، لكنها اعتقدت أن هذا ترتيب الخادمات بعد عودة السيد ، هل يظنوه سيتنازل من عليائه كي يشاركها مائدة واحدة .. مسكينات ! 
جلست بارتياح تسكب لنفسها من الأطباق الشهية أمامها ، هذه إحدى فوائد العيش في قصر يملأه الخدم .. الدلال ! نعم هي تشعر أنها مدللة !! بعيداً عن مصعب بالطبع الذي اضطرها اليوم إلى استخدام سيارة أجرة والوصول متأخرة ثلث ساعة كاملة عن العمل ! ضمت شفتيها بقهر وهي تتذكر كيف فغرت فاها عندما هبطت صباحاً لتجده مختفياً هو وسيارته .. لن يتخلى عن لؤمه الفطري أبداً !
وضعت لقمة في فمها و أغمضت عينيها تستمع بلذة الطعام بعد جوع النهار بطوله ! فلم يكن لديها الوقت اليوم لإعداد شطائرها ولا لابتياع أي منها من كافتيريا الشركة ، الأعمال الملقاة على كاهلها تزداد مع اقتراب موعد مغادرة سلمى المؤقتة لمنصبها. 
كانت مستغرقة في طعامها و أفكارها لدرجة جعلتها تشهق بصوت مسموع عندما فتحت عيناها لتجد مصعب يجلس أمامها يتأملها بسخرية شديدة ! وقبل أن تجد ما تقوله باغتها بقوله : 
- الزوجة إلي بتفهم بتسكب لزوجها قبل ما تسكب لحالها وتبلش أكل قبل ما يجي كمان ! 
وضعت ملعقتها في طبقها وهي تقول بلا مبالاة : 
- و أنا شو بعرفني إنك جاي تتغدى معي ؟! 
ارتفع حاجبه مستغبياً لها وهو يقول بسرعة : 
- هاي صحني محطوط ! 
ملأت ملعقتها وهي تجيبه : 
- بركي هاي حركة رومانسية من الخدامات يا حرام مفكرينا رح ناكل مع بعض لأنك رجعت من السفر .. مش شايفيين إنا كل واحد فينا بغرفة وعايش حياته بعيد عن التاني ؟؟!! 
تأملها بغيظ وهي تضع ملعقتها في فمها وتتلذذ بالأرز المطبوخ ، بقي صامتاً للحظة قبل أن يقول : 
- لسانك صاير متبري يا ماسة ! 
هذه المرة اختارت أن تترك ملعقتها كي تقع على طبقها محدثة صوت مسموع وهي تقول بعصبية : 
- استغفر الله العظيم ، رجعنا للاسطوانة ذاتها .. لا تعاملني كأني بنت صغيرة لو سمحت ولا خدامة عندك ! 
تعلقت عيناه بها للحظة وهو يشعر فعلياً أنه يفتقد ماسة القديمة ، هذه الجديدة لا تلائمه تشعره أنها إن تطورت أكثر و أكثر ستصبح نسخة مصغرة عن والدته ! 
نظراته نحوها أربكتها ، شعرت بشيء من الاشمئزاز في الطريقة التي تأملها بها ، وشعرت أنها تصبح وقحة بلا سبب في الطريقة التي تتكلم بها ، لم تعتد يوماً على التعامل مع أي أحد بهذه الحرية والاستقلالية المتفردة التي تتعدى على الآخرين بلا اهتمام .. أهملها تماماً وهو يضع في طبقه بضعة ملاعق من الأرز مع السلطة الخضراء الشهية ، ما جعلها تشعر بالخجل من نفسها لأنه هو من تراجع عن إكمال هذه المحادثة . أول مرة ينتابها احساس بالاستصغار والخجل بهذه الطريقة لأنها تعلم أنها كانت وقحة بما لا يتناسب مع الموقف .. 
ساد الصمت بينهما وهي توترت ولم تعد تستمتع بطعامها ، لماذا تضايقها نظرته إليها ؟! لماذا تشعر أنه أول مرة يشمئز منها بشكل واضح وجلي .. بل ويترفع عن متابعة الحديث معها ! أسلوبها في التعامل خاطئ ستبدو كبنات الشوارع إن اعتقدت أنها ستنال من مصعب بجواباتها المتطاولة والعنيدة. ارتفع رأسها بحدة وهي تسمع هاتفه يرن مخرجاً إياها من دائرة أفكارها ، لتراقبه وهو يخرجه من جيبه ويفتحه بحركة من إصبعه ، كانت تتأمله وهي تدرك أنها مازالت ضعيفة جداً أمامه ، أضعف مما تصورت ، فبنظرة واحدة جعلها تشعر أنها لا شيء ، وهي يهمها أن لا تبدو بصورة بشعة أمامه ، لا تعرف لماذا .. ربما لأنه كان يوماً ما زوجاً حقيقياً لها. تابعت عيناها حركة أنامله وهو يترك الملعقة مركزاً في الحديث ، بينما أفكارها تقودها إلى حركة أنامله في تلك الليلة على فستانها ، احمرت خجلاً ونظراتها ترتفع أكثر نحو عنقه وذقنه حتى توقفت عند شفتيه ، عند تلك اللحظة شعرت أنها تبدو كحبة طماطم من كمية الدماء التي اندفعت في وجهها بأكمله ، لكن ما انتشلها من غيبوبة ذوبانها به كان ما تلفظت به شفافها وهو يقول : 
- لأ عن جد آسف مش عارفِك أبداً !





سلسلة النشامى/الجزء الثاني/أسيرتي في قفص من ذهب  حيث تعيش القصص. اكتشف الآن