الذكرى الرابعة

137 20 1
                                    


-

خرجت كيت من منزلها وهى ترتدى معطفها الأسود كالعادة. لم يكن الجو شديد البرودة فى صباح يوم الأثنين بل العكس، لقد كانت أشعة الشمس تعم المكان وهذا نوعًا ما قد ضايق كيت. لم يفهم أحد يومًا سر كره كيت للشمس، هى حتى تلعنها فى سرها أحيانًا.
تجاهلت ذلك ثم توجهت مشيًا نحو مكتبة الحى حيث تعمل صديقتها المقربة والوحيدة مارسيلا.
لم تكن كيت من محبى الجو الصباحى، لم تكن تعلم لما أجواء الصباح تزعجها بتلك الطريقة. حتى أنها دائمًا ما تتجنب الخروج نهارًا وتفضل قضاء معظم وقتها ليلاً. ربما هى حقًا مصابة بـ متلازمة النيكتوفيليا أو متلازمة حُب الليل كما أخبرها البعض.
مرت دقائق وهى على نفس ذلك الإنزعاج حتى وصلت لوجهتها. دلفت بهدوء لداخل المكتبة حيث وجدت صديقتها تقف أمام أحد الرفوف تقوم بترتيب الكُتب فى أماكنها الخاصة.
«مرحبًا سيلا.»
هتفت بها كيت وهى تتجه نحو صديقتها. أبتسمت مارسيلا بلطف حين رأت صديقتها عاشقة الليل.
«أخيرًا قد خرجتي من ذلك الكهف المظلم الذي تعيشين به. بدأت أشك في رؤيتكي مجددًا يا فتاة.»
ردت سيلا ساخرة، لتقلب كيت عينيها بضجر لحديث صديقتها المعتاد. لفت إنتباهها ذلك الصندوق القابع بجانب سيلا. تقدمت نحوه ثم أردفت وهى تتفحصه
«مجموعة جديدة إذًا.»
أؤمئت مارسيلا لها قائلة:
«نعم لقد وصلت هذا الصباح وأظن أن هناك البعض قد ينال أعجابك.»
ظلت كيت تتفحص محتوى الصندوق وبالفعل كما قالت سيلا قد وجدت بعض الكُتب التى أعجبت بمحتواها. لفت نظرها ذلك الكتاب ذو الغلاف الأسود مع تلك العبارة الذى زينت أعلى الغلاف باللون الأحمر القاتم الحُب لا مفر منه.
قلبت الكتاب ثم قرأت محتواه بهمس..
«ليس بالضرورة أن يكون لکل شئ منطق، فالحُب ليس له منطق والعشق ليس له حدود. أما الجنون فهو السبيل الوحيد للنجاة من دوامة الحُب. الحُب ما هو إلا مشاعر قد لا يستوعبها البعض وقد لا يستطيع وصفها البعض الأخر. فبالنهاية، الحُب يشبه المعجزات التي قد تُعيد المرء للحياة مرةً أخرى بعد العديد من الخيبات والهزائم المريعة.. لكن إذا ألقيت نظرة عميقة للأمر ستدرك أن الحُب هو الحياة للقلوب الميتة.»

لوهلة شعرت وكأن كل شئ قد توقف من حولها. لسببٍ مجهول أحبت كيت هذا الكتاب، لهذا قررت أستعارته وبشدة. قامت بوضعه أعلى الكُتب التى أعجبتها ثم توجهت نحو الحاسوب لتسجل أنها قد أستعارتهم كما علمتها مارسيلا.
بينما كانت كيت مشغولة بتسجيل الكُتب، تقدمت سيلا وتفحصت ما أستعارته كيت كالعادة.
«لن أستطيع فهم سر حبكي الشديد للكُتب كيت.»
أردفت سيلا بعد مدة من الصمت لتبعد كيت عينيها عن الحاسوب للحظة وهى تبتسم بخفه ثم عادت لتسجيل الكُتب وهى تعلم تمامًا حديث صديقتها.
«أعنى حقًا هل تؤمنين بكل تلك الخرافات التى بداخلها! شخصيًا أنا أرى أن كل تلك الروايات والكُتب ما هى إلا وسيلة لتبعد المرء عن واقعه لا أكثر. حتى أن السبب الرئيسى وراء عملى هنا هو أصرار جدتي على العمل معها.»
أبتسمت كيت بخفه ثم قالت:
«ربما هى فعلاً كما ترين، لكن بطريقة مختلفة. القراءة لم تكن أبدًا وسيلة لنشر الخرفات، بل هى طريق نحو عالمٍ أخر. عالم لا يعلم عنه أصحاب العقول الفارغة أو كما أسميهم أنا أصحاب الخيال المحدود. قد تكون رواية قادرة على وصف حياة شخصًا ما فى مكان ما أو ربما حتى تمثله. القراءة هى رمز للإختلاف، هى علامة للتميز والتألق، هى حتى تعبر عن هؤلاء الذين قد نبذهم العالم. القراءة تشبه تمامًا السحر الأسود، ما أن تدمنها حتى يصعب التخلص منها.»
قلبت سيلا عينها بقلة حيلة ثم قالت:
«لن أستطيع أبدًا إستيعاب ذلك الشئ الذى بداخل رأسكِ»
قهقهت كيت بخفه ثم أنهت تسجيل ما قامت بإستعارته لتنهض بعدها وتساعد سيلا فى ترتيب باقى الكُتب.

-

«لحظت مؤخرًا بأن رسائل متابعينكِ دومًا ما تذكرنى بشخصٍ ما. شخص أعتاد أن يكون جزءً من حياتكِ كيت.»
أردفت سيلا وهى تجلس فى منتزة الحى مع كيت بعد إنتهاء عملها. تغيرت ملامح كيت نحو الحُزن فور ذكرها للمجهول خاصتها للحظات ثم تبدلت تمامًا نحو البرود.
« أنا لا أود الخوض فى هذه المحادثة.»
همست بها كيت وهى تنظر أمامها ببرود.
«فقط أريد أن أعلم إلى متى ستظلين هكذا. كيت أنه يعانى بسببكِ كل يوم. تجاهلكِ له يضعفه أكثر يومًا بعد يوم. أعلم بأنكي تتجاهلين إتصالاته ورسائله، لكن إلى متى كيت؟ ها أخبريني متى ستتوقفين عن كل ذلك العناد وتتحدثين إليه. جاستن يوشك على الإنهيار بسببكِ كيت وهذا سئ للغايه.»
نظرت لها كيت مطولاً ثم قالت بنبرة باردة وهى تنهض:
«وداعًا مارسيلا.»
إبتعدت كيت عن سيلا ثم رحلت نحو منزلها. ظلت طوال الطريق تفكر به وبحديث سيلا. لم تفهم لما لم تستطع نسيانه أو حتى تخطيه. كل أنش بتلك المدينة يذكرها به، وكأنه أقسم أن يذكرها به أينما كانت. تنهدت بتعب حين زاد ألم رأسها.
أخيرًا وصلت لمنزلها لتدلف للداخل بجسدٍ مرهق. صعدت نحو غرفتها وهى تحمل الكُتب بين يديها ثم دلفت للداخل. قامت بوضع الكُتب على المكتب ثم قررت الإستحمام لتتخلص من ألم رأسها أو ربما لتتخلص من ألم ذكرياته.

-

ها هى تجلس على سريرها وبين يديها ذلك الكتاب ذو الغلاف الأسود الحُب لا مفر منه.
مضت ساعات منذ أن بدأت فى قرأته. هى حتى لم تشعر بمرور الوقت. كل ما كان يشغلها هو محتوى هذا الكتاب، منذ أن قرأت أول جملة وهى تعلقت به.
"الحُب هو المخرج من اللاوجود إلى الوجود."
كانت تلك العبارة تُزين أولى صفحات الكتاب، ومن هنا فقدت كيت الشعور بما حولها.
حديثها عن هذا الغريب جذب كيت بشكلٍ غريب. شعرت لوهلة وكأنها بطلة تلك القصة. شعرت وكأن الكتاب يصف حالتها. عادت لتقرأ باقى الصفحات بشغف وكأنها تنتظر حلاً ما فى نهاية هذا الكتاب.
«بالنسبة لي، هو لم يكن مجرد شخصًا عاديًا. مازلت لا أرى سوى وعوده النقية، وإبتسامته الهادئة، وقلبه الدافء ونظراته العميقة. رغم كل شئ، إلا أن قلبى مازال يشعر به وبحُزنه. يشعر بآلامه ويرى بوضوح ندبات روحه. الأمر لم يعد بإستطاعتى، فأنا غير قادرة على الإبتعاد عنه. أشعر وكأني أصبحت مقيدة به، حتى أني لا أستطيع التوقف عن التفكير به ولا أستطيع وضع حد لذلك. كلانا أظهر عيوبه للأخر، وكلانا تقبلها بلا تردد، وكلانا يعى تمامًا أننا معًا حتى لو أفترقنا لوهلة.»
تسألت كيت حينها، لما شعرت وكأن كلمات ذلك الكتاب لامست وترًا حساسًا بالنسبة لها. هى كرهت أن تلك الكلمات تذكرها بجاستن، ولكنها أحبتها أيضًا.
أخرجها من دوامة تفكيرها صوت رنين هاتفها. تركت الكتاب بجانبها ثم أمسكت الهاتف لتجد أنه صاحب الأعين العسلية خاصتها مجددًا لو لنقل للمرة المليون.
تنهدت بحُزن وهى تترك الهاتف ثم توجهت نحو الشرفة لتستنشق بعض الهواء.. لكن هذه الحياة لا تريد الكف عن العناد معها. نظرت بعينيها خارجًا لتجده يقف أمام منزلها، يحدق بشرفتها، ويحمل هاتفه بيده.
تقابلت عينيه الحزينة بخاصتها المضطربة. أستطاعت حينها رؤية كم هو هشُ الأن. رأت كم هو وحيد ونادم ويحتاج إليها. كان يقف أمام منزلها فى منتصف الليل حيث كان الجو شديد البرودة كمشاعرها تمامًا. لم تشعر بنفسها إلا وهى تتجه نحو باب منزلها. فتحته بخفه ثم تقدمت منه وأمسكت يده الباردة مقارنة بخاصتها، لتخرج تلك الكلمات بتلقائية دون إرادة منها..
«تعالى معى للداخل، ستصاب بالبرد هكذا.»

𝐌𝐢𝐝𝐧𝐢𝐠𝐡𝐭 𝐂𝐨𝐧𝐯𝐞𝐫𝐬𝐚𝐭𝐢𝐨𝐧𝐬 || محادثات منتصف الليل जहाँ कहानियाँ रहती हैं। अभी खोजें