اليَأس

26 0 0
                                    

سبحان الله وبحمده ، سبحان الله العظيم .

________________________________

لم تكن زين قبل أن يصير ممو إلى هذه النهاية ، يائسة من السعادة .. رغم ما كانت تكابده من الآلام . فقد كان لها أمل كبير في أن تنال هي الأخرى مع ممو آمال قلبها ، كما نالت ذلك أختها ستي مع تاج الدين . ولكن ما أن علمت بذلك العقاب الشديد الذي أنزله الأمير بممو .. ذلك العقاب الذي جاء فدية له من القتل ! وأخذ فؤادها ينزف باللهب ، وخنقتها العبرات ، وضاقت رحاب الدنيا أمام عينيها . وكأنما أطبق عليها بهاء ذلك القصر ونعيمه ، .التصق بخناقها ، فلم تعد تشعر من حولها حتى بالهواء الذي تملأ به رئتيها . وتجمعت على مشاعرها آلام عدة .. أقلها يذيب النفس .

كانت تتوجع مرة لمصير ممو ، وتبكي وحشته وانفراده في ذلك البئر .. وتتألم أخرى من أنه ربما يتخيل وهو في عذابه ذلك ؛ أنها سعيدة في رحاب هذا الصرح ، تتقلب في نعيم الحرية والانطلاق . ثم تتألم لنفسها ، ولغروب آمالها ، ومن أنها لم تعد تبصر في بقية أيام عمرها أي بريق من الرجاء والأمل . ثم تعود فتتقلب بين جمر من زفرات شوقها ولواعج حبها .

وكثيراً ما كان يمتزج في آلامها هذه معنى الحيرة والتعجب من كل هذا السواد والبؤس في حظها ، فتتساءل قائلة :

- " أي حكمة ترى ياإلهي تكمن وراء كل هذا الوابل الذي أمطرته على أيامي من التعاسة والشقاء ..؟

مرة واحدة . لم تُدِر هذا الفلك نحو إسعادي وتفريح قلبي . يوماً واحداً .. لم تدع هذه الدنيا تتألق أيضاً في عيني ؟!

أسكرت أولاً ذلك المسكين ، وطرحته في وهج من حبي . ثم عكست ذلك الوهج إلى قلبي أيضاً ، وتركته يكابد حره و لظاه . أسرجت بيني وبينه الضياء قليلاً ، حتى إذا لمحني ولمحته ، وهفا إلي وانصرفت إليه ، أسرعت فأطفأت السراج ، وأسدلت بيني وبينه الظلام ، وتركت كلاً منا ينطوي على ناره ، وينفرد لشوقه وحرمانه . أقمت من حول أعيننا أفراح الناس وأعراسهم ، بينما تركت وراء جوانحنا مأتماً من الأحزان والآلام .

فماذا جنيت ياإلهي .؟ بل ماذا جنى ذلك المسكين الذي أرسلته .. ليبحث عن آماله في ظلام ذلك الكهف المقام في باطن الأرض .؟!

ولكن !!

لماذا أعتب .. ولِمَ أقول هذا ؟ فقد علمت أن هذه قسمتي من الأزل ، وقد رضيت بها قبل اليوم . وعليّ أن أرضاها اليوم أيضاً صابرة شاكرة .

غفرانك اللهم .. لك مني الرضى والقبول بكل ما حكمت به عليّ أقدارك "

ويتراءى أمام عينيها شبح ممو ، وكأنما ينظر إليها من وراء سجنه ، وهي طليقة في جنبات القصر ، بعين كاسفة ووجه متألم ، فيثير ذلك لواعجها ، وتحدثه قائلة :

- " أوتحسب يا ممو أن رحب هذا القصر أوسع عليّ من مضيق سجنك ؟ أو إشراق هذه الدنيا من حولي أقل سواداً في ناظري من ظلمتك التي أنت فيها ؟ أو أن شيئاً من النعيم الذي حولي لا يبصرني إلا بسواد حظي الحالك .

نعيمي .. الزفرات التي تشق صدري ، وطعامي .. السُعار الذي يمزق أحشائي ، وشرابي .. الدموع التي تذيب كبدي . أما فراشي ، فهو ذلك القتاد الذي يظل يدمي مني سويداء القلب ، ليست لي عين يفرغ منها الدمع لتغمض ، ولا شعور تهدأ منه الثورة ليستكين .

هذه حالتي يا ممو ، وأنا في رحاب هذا القصر ، فقل لي كيف حالك وأنت في غياهب هذا السجن ؟

قل لي من هو أَنيسك في ذلك الظلام ؟ ومن هو جليسك الذي تشكو إليه الآلام؟ كيف تقضي الليل ، وأنت لا ترى في سمائك كوكباً يواسيك أو يطل عليك ؟! وكيف يمر بك النهار دون أن ترى من حولك أي إنسان يحدثك ، أو تمر بك نسمة تنعشك ، أو تبصر أمامك غصناً أو طائراً يسليك ؟

آه لو كان لروحي التي بين جنبيّ أن تنطلق مرة إلى ذلك الغور لتبصر ذلك المسكين ، وتعود إلي بالخبر عن حاله وصحته وجسمه . أخشى أن يكون الجزع قد استبد به والآلام استحكمت في نفسه فيكون في ذلك المكان قضاؤه .

بل آه لو امتد غضب هذا الأمير إلي أيضاً ، فأثقلني بالسلاسل والأغلال وزجني معه في ذلك الظلام . إذن والله لأطلقني من سجن هذه الدنيا إلى رحب الجنان ، وأفلتني من قيود هذه النعمة التي حطمتني ، إلى حيث أستطيع أن أرى فيه سعادتي ، وأداوي ذلك القلب الذي لم يرق لحاله أحد .

ما أشد ظلام هذا اليأس في عيني ، وما أشد خوفي من أن يكون الدهر قد انطوى على آخر لقاء بيني وبين إنسان قلبي ، وقرر أن يحرمني حتى من مشاهدته والاطمئنان على حاله ".

وهكذا أخذت زين تفقد أخيراً بقية ما في جسمها من حول وقوة ، وعافت كل طعام وشراب ، وأضناها الهزال واليأس إلى أن غدت نهبة للعلل و الأمراض .

ولم يعد يخفى على أخيها ما تكابده من ألم وحب شديد لممو .

ولكنه مع ذلك ظل متجاهلاً أمرها غير مكترث بحالها . فقد كانت سكرة الغيرة والحمية في نفسه ؛ قد غشت على عقله وعاطفته حيال هذين العاشقين ، تلك السكرة التي نفخها في رأسه حاجبه الخبيث ، إذ رماهما له بتهم باطلة ، وأدخل إلى وهمه أن ممو لم يعد يجد مانعاً من أن يلوث سمعة قصره بمعاني العشق والغرام بأخته ، بعد أن رفض أن يزوجه بها .

وانقطع الأمير عن الالتفات إلى أخته الصغيرة مرة واحدة . لا يسأل عنها بكلمة ، ولا يرحمها بنظرة ، بل ولا يحاول أن يمر ولو مرة بجناحها من القصر ؛ ليعلم ما حالها وما الذي انتهى إليه أمرها .

ممو زينWhere stories live. Discover now