الفصل الثالث عشر:
(الملك!)
========
_لماذا فعلتها؟!
سأله همام بنبرة مزجت يأسها بغضبها وهو يدخل عليه غرفته ليجده جالساً كعادته يتأمل "مفتاحه" أمام مائدته السداسية...
فابتسم عمران وهو يتطلع إليه بعينين "مبصرتين" مع قوله الهاديء:
_أجب أنت...ألست ابني الذي يفهمني ؟!!
زفر همام بقوة وهو يتوجه نحو النافذة هناك ليفتحها سامحاً لصدره باستنشاق نسمات الهواء الباردة وجسده الساكن لا يشي بشيء من تلك الفوضى الكاسحة بأعماقه...
مصارحته الأخيرة مع وسن استنزفته تماماً..
عادت به سنواتٍ للوراء وكأنما ألقته من جديد طفلاً مشوهاً يتسول لقمته نهاراً قبل أن يطوف بداره "المسلوبة قهراً" ليلاً!!
عجباً لها كيف استطاعت في ساعات محو سنوات من تاريخ "الوزير" لتعيده لروضة "يوسف"؟!!
هنا عاد يأخذ نفساً عميقاً والرماد يشتعل بعينيه من جديد مع همسه لنفسه...
الوزير هو الوجه الرابح للعملة!
هو من سيرفع لواء يوسف الأمير في آخر الصراع...
هو ارتضى عبور هذا البحر ولن يقف حتى يبلغ شاطئه ...هناك فقط..قد يجد ريح يوسف ...
يوسف الأب ...والابن أيضاً!
هكذا سول له شيطانه بينما كان عمران يراقبه بصبر حكيم ...
يقرأ جيداً ما يجول بداخله ويشفق عليه من حرب خاضها هو قبله...
ما أشبهه به !!
كلاهما صنعت منه الظروف شيطاناً بعد ما نزعت عنه إنسانيته بأقسى الطرق!!
لهذا تنهد أخيراً بحرارة ثم قام ولازال يحمل "مفتاحه"ليتقدم نحوه قبل أن يربت على كتفه ليجيب على تساؤله السابق بنبرته الودود المتعقلة:
_خفت عليها...عليكما معاً!
أغمض همام عينيه بقوة وكأنما فهم دون احتياج لشرح ...لكن عمران تقدم أكثر ليجاوره ناظراً بدوره بشرود نحو الفضاء الفسيح بالخارج مع استطراده:
_نارك ستؤذيها...ونسيمها سيطفئك...لست لها ...وليست لك!
كتم همام أنّة ألم وهو يرفع رأسه لأعلى بينما أردف عمران بصوته العميق:
_حرب الأيام القادمة لن تكون سهلة...حربٌ ليس فيها مكان لضعيف...لن تسامح نفسك لو أصابها مكروه بسببك...
ثم صمت لحظة وهو يلتفت نحو جانب وجه همام ليردف بنبرة خبيرة:
_ولن تسامحها أنت لو جعلَتك تتهاون لأجلها في انتقامك !
_ليس لها أحد ...غيري!
تمتم بها همام وصورتها "الملائكية"ترتسم في مخيلته تكاد تشع نوراً فتزداد ملامحه ألماً و...قسوة!!
هي وحدها من ألقت سحرها على كل "وجوهه"...
فجابهت بفطنتها ذكاء "الوزير"وشاركته بساطة "همام" وآزرت بنقائها "فطرة"يوسف...
فكانت امرأة لثلاثة رجال يقتتلون عليه بضراوة ويتحدون فقط في الاعتراف ب"قدْرها"!!
لكن الرجل رفع "مفتاحه" أمام وجهه ليقول له بتهكم لم يخلُ من شفقة:
_وهل أنت لها؟!
كز همام على أسنانه وهو يقبض بكفيه بقوة على سياج النافذة ...فتركه عمران لصمته بضع دقائق قبل أن يشير نحوه بمفتاحه قائلاً بتؤدة:
_أنت تعلم أين سترسو سفينتك في النهاية...فلا تؤملها بشاطيء لن يكون لها!
هنا التفت همام نحوه ليقول بلهفة حادة:
_وما المانع لو أجمعهما معاً؟! كلتاهما حق لي!
فقست ملامح عمران نوعاً وكلماته تكتسب نوعاً من الصرامة عندما فهم من يعنيهما همام بحديثه:
_مزن ليست حقاً لك ولا لغيرك...حذارِ أن تتحدث كابن الأمير الآخر!
زفر همام زفرة مشتعلة وهو يشيح بوجهه بينما استطرد عمران بنفس النبرة:
_أنا سآمنك على مزن لأنك ابني ...وظني أنك ستحفظ الأمانة!
ظل همام مشيحاً بوجهه للحظات وهو يدرك عقم الحديث مع عمران في هذا الموقف...
عمران الذي رباه كابنه ولا يرى غيره جديراً بغاليته "مزن" بينما لا يراها همام أكثر من سهم غادر في قلب يزن الأمير...
فاتحد الهدف...واختلفت الغايات...كيف يؤلّف بينهما ؟! كيف؟!
لكن عمران قرأ خبيئته بخبرته به فخبطه بمفتاحه برفق على كتفه ليلتفت نحوه همام صامتاً للحظات قبل أن يهمس دون أن ينظر إليه:
_عهدنا سيف على رقبتي ...لن أخلفه أبداً!
فابتسم عمران بارتياح لم يخلُ من حزن وهو يقول له بشرود...
يتذكر تلك المرة الوحيدة التي رآها فيها -عن قرب- عندما تم اختطافها...:
_أعرف أن قلوبنا ليست بأيدينا...لكن الطرق يا ابني تتشابك حتى لا نعود نفهم مرادنا ...لهذا أنصحك بالتريث ...أنا أفهم كيف تراها الآن كفتاة مدللة أخذت ما كان ينبغي أن يكون لك ولشقيقتك...لكنني لا أراها كذلك...مزن يا ابني لم تولد بعد!!
هنا رفع إليه همام عينيه بتساؤل حذر لكن عيني الرجل لم تكونا تريانه...بل كانتا غائمتين بحزن قديم مع استطراده بصوت متهدج:
_نعم...لم تولد بعد...هذا عزائي الذي يصبرني طوال هذه السنوات...مزن لن تولد إلا عندما تعود إليّ...ساعتها سأتلقفها بين ذراعي كرضيعة أعلمها أبجديات الحياة من جديد...أنزع من جسدها سم الأمير لأطهرها بحبي...
ثم عاد إليه ببصره ليردف وهو يشير نحوه بمفتاحه:
_وأنت...أنت ستساعدني...ستكون لها ...
انقطعت كلماته بآهة خافتة وكفه الحر يضغط صدره بقوة فهتف همام بقلق حقيقي:
_أنت بخير؟! أخذت دواءك اليوم؟!
أغمض عمران عينيه بألم وهو يهز رأسه نفياً فاندفع همام نحو زاوية الغرفة يحضر له قرص دوائه الذي دسه في فمه قبل أن يسنده برفق ليعيده لكرسيه المميز الذي يشبه العرش ...
وما إن اتكأ عليه عمران حتى حاول الابتسام بصعوبة وهو يقول بصوت واهن:
_تخيل لو أموت مثلها...بنوبة قلبية...سيكون هذا شاعرياً حقاً لو تشاركنا النهاية!
ارتفع حاجبا همام بتأثر وهو يدرك عمن يحكي ...عندما سمعا صوتها خلفهما فجأة:
_لكن نوبتها هي لم تكن صدفة..بل متعمدة...رأيته بنفسي يضيف الخمر لعصيرها قبل أن يعطيها الدواء...ساعتها تعجبت من فعلته لكنها عندما ماتت صباحاً بنوبة قلبية تذكرت تحذير الطبيب لها من الكحوليات لتعارضها مع ما تتعاطاه من أدوية الاكتئاب .
والقول كان لرئيسة الخدم التي تقدمت نحوهما ووجهها يعكس ألماً حقيقياً مع استطرادها:
_الحقير لم يكتفِ بما فعله معكما...أتم خطته القذرة للنهاية!!
قست ملامح عمران أكثر وقتها رغم أنه يعرف الحكاية...
لكن تفاصيلها تذبحه كل مرة بنفس الوجع!!
فرمقها همام بنظرة عاتبة مشفقاً عليه من عاقبة هذا الحديث لكن المرأة كانت هي الأخرى غارقة في شرودها وهي تردف :
_لهذا صممت أن أعمل لدى يزن الأمير بعد وفاة المجرم عمه....كنت أريد أن تكبر الصغيرة أمامي كي أطلعها على الحقيقة في الوقت المناسب..
ثم أفاقت من شرودها لتعود ببصرها نحوهما وهي تنهي حديثها بعبارتها:
_ولهذا أساعدكما بكل طاقتي كي تنالا حقكما الذي تستحقانه!
_قريبا...قريباً جداً!
قالها عمران الذي اشتعلت أعماقه للذكرى قبل أن يطفئها بأمل وشيك في القصاص...
لكن همام بدا متذمراً من كل هذا الحديث الآن فأشار لها بالانصراف خفية...
ثم ربت على ساعده بقوة وهو يقول ما يظن عمران يحتاج لسماعه حقاً الآن:
_نحن على أعتاب الفرح بقصاصنا الذي سيكون بدايتنا الحقيقية..عندما تعود إليك مزن...ويعود إليّ اسمي وحقي!
فاتسعت ابتسامة عمران وهو يمنحه نظرة امتنان ردها له همام بمثلها قبل أن يجلس على الكرسي أمامه وبينهما المائدة السداسية بما يعلوها من صحفة تكدست بها الأحجار ...
ظل همام صامتاً لدقائق طويلة يتأملها بشرود منتظراً أن يستعيد عمران بعض عافيته قبل أن يقول بشرود:
_ماذا لو كان "مفتاح عمران" حقيقياً؟! ماذا لو كان بإمكانه أن يخبرنا عما يخفيه لنا الغد؟!
تنهد عمران بحرارة وهو يرفع مفتاحه أمام عينيه متمتماً بشرود:
_ومن أخبرك أنه ليس حقيقياً ؟! أنا أشعر به كذلك!
التوت شفتا همام بشبه ابتسامة بينما عمران يردف بنبرته البطيئة الأخاذة:
_منذ وجدته من سنوات مدفوناً تحت التراب وأنا أيقنت أنه سيكون تميمة حظي وقد كان...بعد خروجي من السجن علمت أن حياتي النظيفة لن تعود كما كانت...ورغم أن رفقاء الزنزانة منحوني الدعم الذي كنت أحتاجه بعد عملي معهم لكنني كنت أسعى لانتقام يطفئ لهيب صدري...والمفتاح منحني الطريق!
رمقه همام بنظرة طويلة متفحصة وهو يشعر بمدى هوس عمران بمفتاحه...
ورغم أنه -عمران- لم يكن يحتاج للاحتيال على الآخرين فوق منصة الدجل والعرافة لكنه يشعر أنه يستمتع حقاً بهذا العمل...
هذا الخاطر الذي أكده عمران بقوله وهو يقلب مفتاحه أمام عينيه:
_يأتونني بحكاياهم فأستمع منهم وأسترجع كل ما رأته عيني من حكمة تصاريف القدر...أقرأ النهايات بما خطّوه هم من بدايات...وهذا هو سر المفتاح الذي لا يعرفونه...أن الغد مرآة الأمس ...وبينهما حاضر هو بذرة التغيير...إما رويتها لتزهر أو رميتها لتموت!
_تظنني رويت بذرتي...أم رميتها؟!
غمغم بها همام وصورة وسن لا تزال تملأ رأسه فتحشوه بحزن أسود...
بينما تفحص عمران ملامحه ليقول أخيراً بحزم:
_إذا أردت أن تعيد حق يوسف فاقتل ضعفه بداخلك...أنت الوزير...الوزير الذي ربيته بيدي يوماً بعد يوم كي أعده للحظة القصاص...لو تهاونت لحظة فستخسر كل شيء ...حتى ما بقي من يوسف نفسه!
أومأ همام برأسه وكلام عمران يوافق هوى نفسه ثم أخذ نفساً عميقاً يطفيء به ما اشتعل من نيران صدره ...
قبل أن تعود له لكنة الوزير وهو يبتسم ابتسامة قاسية ليقوم واقفاً مع قوله:
_معك حق...الوزير يكسب!
ابتسم عمران ابتسامة واهنة وهو يعاود التحديق في مفتاحه...
فزوى همام ما بين حاجبيه وهو يسأله وكأنما تذكر فجأة :
_لماذا تتظاهر بالعمى أمام زوارك؟!
اتسعت ابتسامة عمران وهو يعود بظهره للوراء قبل أن يتكئ على ذراع كرسيه مجيباً بنبرة خبيرة:
_ألا تعرف الإجابة بعد يا "وزير"؟! الناس يحبون من يخدعهم...يظنونني الأعمى وهم العميان...ما المثير في رجلٍ عادي يعطيهم خلاصة خبرته؟! لكن امنحهم مفتاحاً مشتعلاً ورجلاً ضريراً لا يبصر غير مفتاحه وسيبذلون كل ما يملكون مقابل ما لديك!
اتسعت ابتسامة همام القاسية وهو يقول موافقاً:
_وهمٌ مزركش أكثر وهجاً من حقيقة عارية!
هز عمران رأسه باستحسان فتفحصه همام باهتمام ناسب قوله:
_هل أنت بخير الآن تماماً؟!
أجابه عمران بإشارة من كفه وعيناه تعودان لشرودهما فتأهب همام للرحيل ليستوقفه سؤال رفيقه:
_هل بدأت "الدمية الأولى" رحلتها نحونا؟!
أومأ همام برأسه وهو يقول بثقة خبيرة:
_امنحها بعض الوقت فلازالت عروساً... قريباً تجدها هنا مكاني تطلب نصيحة مفتاحك.
عاد عمران يرفع المفتاح أمام وجهه ليقول باستحسان:
_وبهذا تفتح الطريق لمن بعدها!
ابتسم همام وهو يشاركه الحلم للحظات قبل أن ينصرف ليتركه وجنّة خواطره ...

YOU ARE READING
تعاويذ عمران لِـ" نرمين نحمد الله"
Randomالرواية للكاتبة الراااائعة بحقّ نرمين نحمد الله.. لكل من لايعرفها.. فهي كاتبة مصرية...لها عدة كتابات ... جارية في ثياب ملكية... سلسلة زهور الجبل بأجزائها : قيود ناعمة...وعانقت الشمس الجليد...مرايا الخريف ماسة وشيطان...سينابون و ...تعاويذ عمران... ...