تضحية(الفصل السابع)

1.2K 89 38
                                    







حين يطأ ذلك المجنون العابث الذي اعتنق الحب لقباً أبدياً له أرض أرواحنا القاحلة كدخيل فضولي، فإنّه لا يتردد بإثارة حفيظتنا والتلاعب برتابة حياتنا الجوفاء بحيله الصغيرة التي لا تنكفئ بأن تتسربل بين حنايا تشققات تربتها العقيمة لتستحضر من أعماقها ما خفي عنها سنوات طويلة...

بيد أنّ هذا المجنون لم يعتد بأن يطوف بنظراته إلى من خلفه..حيث تلك الحانية الحزينة التي لا تتوانى عن مرافقته أينما ارتحل..كظلله تماما..تلك الجميلة كأمّ رؤوم تراقب بعين لا تنام فلذة كبدها وهي تتنقلّ هنا وهناك لتنثر ما تملك من بهجة وحبور...إلّا أنّها تحمل في داخلها يقينا حارقا بحتمية إدراكه لوجودها في لحظة غافلة وسيستدير معانقا إيّاها بشوق ولهفة حتّى ينهار بين ذراعيها ويذوي شيئا فشيئا إلى أن تخمد جمرة الحياة في عينيه البريئتين ويمسي

رمادا تعصف به رياح القدر العاتية...

عندها ستنهض تلك التي كتب عليها الشقاء والعذاب الأبدي وستعود لتجوب الأرض الجرداء بتثاقل منهك بحثا عن طفلها التالي المحكوم بالهلاك حتّى تلمح هالة كيانه النقي ...وستنشج بصمت أليم...وستصلي كي لا يلتفت إليها ويحضنها بشوقه المعهود...فقوانين القدر معلومة وصارمة قد سنّت منذ الأزل وستبقى إلى الأبد...

"عندما يلتقي الحب بالتضحية فسيخرّ صريعا لافظا أنفاسه الأخيرة...ففي وجودهما معا حقيقة لا جدال فيها...وفي لقائهما منيّة لا مهرب منها"

انسابت بضع قطرات شقيّة ببطء لتنحشر بدلال بين شفاههما المتوهجتين وتنصهر بنار لاقدرة لها على إخمداها...لم تكن قبلة بين عاشقين فحسب...كانت إقرارا بالإستسلام التام...بالتجرد من المقاومة بشتّى أشكالها... وبالرضوخ للأمر الواقع وإعلان الهزيمة التي لا مفرّ منها للإقرار بالإنتصار الساحق...انتصار الهوى على الجوى...انتصار الجنون على المنطق...انتصار القلب على العقل...

كانت كلّ ذرّة في كيانها تصرخ بها بصمت كيلا لا تتخلّى عن دروعها التي لطالما صمدت بشموخ أمام إرادة قلبها الهش، إلّا أنّها لم تعد تبالي...وكيف تفعل وقد أمست أسيرة بين أغلال ذراعيه الدافئتين...كيف تفعل وقد اقتحم أسوار روحها بشجاعة فارس مغوار لا يرضى إلّا بالنصر...أو الموت دونا عنه...كيف تفعل ولمساته قد أيقظت في جوفها كلّ ما ينطق بغضبها كأنثى...بقوتها كأنثى...بعشقها كأنثى...

بدأت شفتاه بإطلاق سراح شفتيها برقة متناهية لاهثا كالمحموم ليباعد بين جفنيه أخيرا ويحدّق بخضراويه الغائمتين من خلف ستار السيل الجارف في وجهها الملائكي بوجنتيها المتوردتين وعينيها المستترتين من خلف جفنيها المسبلين بعناد...أفلتت منه همسة خافتة مناجية :" رايا...افتحي عينيك وانظري إلي" ارتجف جفناها كمن دبّت الحياة داخله بغتة قبل أن ترفعهما ببطء متردد وتلتقي بمقلتيه العاصفتين بألف عاطفة وعاطفة هامسة بشجن :"هل سترحل مودعا خلفك بقايا هذه المتمردة يا أيهم؟؟" فغر فاه وكأنّها قد غرزت في صدره سكينا مسموما لا حروفاً حملت معها مرارة دهر بحاله، فهزّ برأسه بتوهان رافض وشدّد من قبضته على ذراعيها الرهيفتين مجيبا بشراسة :"سأعود...ولتقف السماء وتستوي الأرض شاهدين على عهدي هذا!! سأعود يا رايا...سأعود من أجل نجلاويك هاتين!!" انسكبت دموعها على وجنتيها لتتزاحم وتلتحم مع قطرات المطر السخية فالتقطت يده لتريحها فوق ذلك المختلج الثائر وهتفت بشكيمة وعزيمة :"لا تحطّم هذا الذي ينبض داخل كفّك أيهم!! إيّاك وأن تفعلها بعد أن اقتحمته من غفلة منّي..لا أسمح لك..لا أسمح!!!" تأمّل مغزليها الجريحين بألم وجذبها إلى صدره بقوّة وهمس لشفتيها القانيتين بحنان :"إن كنت قد اقتحمته فقد حكمت على نفسي بأن أكون سجينه ما حييت..سجينه الذي سيفنى قبل أن يفكّر في أن يهرب من خلف قضبانه!!" رمشت بأهدابها المثقلّة بمزيج فريد من قطرات الدمع والمطر و رفعت يدها وأخذت تتلمّس بأناملها المتراقصة بخجل عذري لحيته النديّة وتتسللّ إلى وجنته المحدّدة بدقة حيّرتها وتنتقل لتلاحق انسياب عينيه اللتين لم تتوقفا عن مطاردتها بين سراديب أحلامها المضطربة...تلكأت قليلا ممعنة النظر في مرج مقلتيه الداكن قبل أن تفرد أصابعها وتبسط كفّها لتمسح بنعومة على صفحة وجهه ككفيف يحاول حفظ تقاسيم وجه حبيبته الغالي الذي حرمه القدر من أن يحطّ بناظريه على كلّ تفصيلة منه...أسبل جفنيه مفسحا المجال لكلّ خليّة خامدة داخله لأنّ تتيقظ وتستذكر لذّة لمساتها التي غازلت كلّ إنش من روحه وجسده...إلى أن تسلل رنيم صوتها العذب بين تلافيف أذنه ولسعت أنفاسها الدافئة تجويف عنقه وهي تهمس مناشدة بحرقة :"عد إلي..عد إلي يا أيهم!!"

عن الحرية والعشقحيث تعيش القصص. اكتشف الآن