موت(الفصل الخامس)

1.1K 91 45
                                    







هناك حقيقة واضحة في هذه الحياة ليس بإستطاعة كائن من كان أن يشكك بمصداقيتها مهما أراد ذلك ألا وهي..النمو...قد يفكر المرء عند سماعه لهذه الكلمة أوتوماتيكيا بعملية النمو المتعارف عليها..نمو الأطفال ليغدو شبابا وفتيات ثمّ رجال ونساء وفي النهاية عجائز وعندها لايهم التفرقة بين أوصافهم سواء كانوا ذكورا أم إناثا فهم في النهاية يتشاركون مصيرا واحدا..النهاية الوشيكة..أمّا إذا أردنا التعمّق في فلسفة النمو ،فسنجد أنفسنا نفكر في كلّ شيء ينبض بالحياة على وجه كوكبنا ويكبر تدريجيا في كلّ دقيقة تمضي..النباتات..الحشرات..الحيوانات..ببساطة كلّ ما بثّ الله في داخله روحا وكتب له الفناء عندما يتمّ مهمتّه..كلّ شيء يبدأ متناهيا في الصغر ووفقا لقانون الخليقة فسوف يكبر إلى أن ينتهي يوما ما..بيد أنّ هناك حقيقة أخرى ظهرت مع ارتفاع أوّل روح إلى السماء لتعلن وجودها المرير إلى جانب وجود آدم وحواء ألا وهي..الموت..ذلك المصير الحتمي الذي يهدد كلّ كائن ينبض جسده بالروح في أيّ وقت وفي أيّ مكان وبطرق شتّى..كلّ شيء يبدأ في الحياة صغيرا ويكبر إلّا الموت يبدأ كبيرا ومنتاهيا في القوّة والسلطة ثمّ يبدأ بالتضاؤل في الحجم إلى أن يتلاشى ويصبح ذكرى تتربع في عقول وقلوب من شهدوها إلى أن يحين دورهم في الفناء..

رفع ساعده ليمسح بضع قطرات من العرق التي أخذت بالتقاطر تدريجيا على جبينه وأطلق نفسا حارا بعد أن أودع صندوقا كرتونيا ثقيلا على الأرض أمام أحد المباني الشبه مهدمة والتي بدت على وشك السقوط في أيّ لحظة بعد تعرضها لعدد من الأضرار في أغلب طوابقها السكنية جراء القصف الذي نال من معظم مبان الحي من حولها..وقف يتأمّل الباب المتهالك أمامه بملامح جمّدها الأسى لبرهة قبل أن ينقر بقبضته عليه بضع مرّات، سرعان ما تناهى إلى مسامعه أصوات الأطفال الهزجة ترافقت بأزيز عال صدر عند فتح امرأة في مقتبل العمر الباب ليطلّ معها من خلفها وجهين ضاحين لطفلين لا تتجاوز أعمارهما الرابعة أو الخامسة..منحهما ابتسامة دافئة وحطّ بعينيه على وجه المرأة الذي خطّه حزن دفين مؤلم أكبر من عمرها بكثير فأبعد ناظريه عنها بسرعة وأشار إلى الصندوق الذي أمامه قائلا بعملية :"أنا متأسف على الإزعاج يا سيدتي، لكننا نقوم بتوزيع بعض المعونات الضرورية على كلّ من تضرر وهذه حصتّك..أعلم بأنّ احتياجات الجميع أكبر بكثير من كلّ ماهو موجود هنا لكن ما باليد حيلة..سنحاول جهدنا لتوفير ما هو أفضل قريبا" أشرقت ملامح الطفلين عند رؤية الصندوق واندفعا نحوه من خلف المرأة يفتحانه برعونة مصاحبا لصيحاتهما الحماسية السعيدة، فارتفع طرفا شفتيه بشبه ابتسامة وهو يراقبهما بحنو إلى أن قطع عليه شروده صوت خفيضا خاويا مجردا من الحياة :" ما أجمل أن تكون طفلا بإمكانه النظر إلى الجمال والمتعة في أيّ شيء تجده في دربك بلا إدراك للبشاعة التي تحيط بك من كلّ حدّ وصوب" رفع رأسه لتلتقي عيناه بمقلتيها المغرورقتين بدموع أبت أن تنهمر لتكمل بصوت مرتعش :"قد استشهد والد هذين الطفلين اللذين أمامك منذ حوالي الشهرين، واستشهد من بقي من أهلي في القصف الأخير ودمرّ قسم كبير من منزلي حتّى مازلت إلى الآن أتساءل عن كيفية نجاتي مع طفلي من دون أن يصيبنا أي خدش..ألا ترى ذلك من سخرية القدر؟؟" صمت يتأملّ تغيّر ملامحها الجامدة إلى أخرى حانقة وهي تردف بخفوت حاد:" يقولون لي بأنّ في نجاتي حكمة إلهية..ما الحكمة في الاستمرار على هذه الأرض التي لا تكاد تلفظنا خارجها في كلّ فرصة سانحة هه؟؟ ما الحكمة في أن أجبر على العيش وحيدة تحت التهديد بالموت أو المجاعة أو العوز في كلّ ثانية تمرّ؟؟ هل بإمكانك أن تجيبني؟؟" حلّ صمت ثقيل عقب سؤالها الذي يقطر قهرا ويأسا قطعه بهدوء قائلا :" ليس بإستطاعة أحد أن يجيبك على سؤالك لأنّه وببساطة لا جواب له..فهو في علم الغيب الذي لا يدركه إلّا الله تعالى وما نحن إلّا بشر عاديين نخضع للقوانين الربانية التي لكلّ منّا نصيب وقدر مكتوب فيها..لكنّي أستطيع بأن أذكرك بطفليك هذين اللذين ليس لهما في هذه الدنيا غيرك وهما بأمسّ الحاجة لأن تكوني قوية وقادرة على مواجهة الأعباء الثقيلة التي رماها عليك القدر" أدار رأسه نحو الطفلين المنهمكين بتفقد المواد داخل الصندوق بفضول واهتمام فصلهما كليّا عن العالم حولهما وهمّ يضيف بدفء :"قد قلت لي بأنّه لم يعد لك أحد على هذه الأرض، لكنّي أرى مستقبلك وأملك وأمانك أمامي..عيشي من أجلهما وكوني لهما الأب الذي لن يترعرعا تحت ظلله وحمايته والأم التي لم يحرمهما الله منها" ثمّ أومأ برأسه نحوها مودعا وغادر متجها نحو سيارته المحملة بما تيسر من المعونات التي قاموا بجمعها لشعب المدينة المنكوبة التي لم يتبقى لها سوى الركام.

عن الحرية والعشقWhere stories live. Discover now