حداد(الفصل السادس)

1.5K 89 41
                                    




في علم النفس البشرية نجد هناك أنّ للحزن خمس مراحل سيمرّ بها الإنسان خلال تعامله مع حالة حزنه...فيبدؤها بالنكران الذي يعدّ أسهل ما قد يفعله المرء عندما تحلّ عليه الصدمة للمرّة الأولى، يليه الغضب الذي يمنحه الفرصة لكي يثور ويحطّم كلّ شيء أمامه رفضا لما حلّ به علّه ينجح بدفع ذلك الشعور المقيت بالعجز الذي اعتراه من دون سابق إنذار..لكنّه سرعان ما يهدأ ويشرع بالمساومة هنا وهناك مع كلّ من يراه أمامه على أمل بأن تكون تلك الصدمة الموجعة عبارة عن كابوس مفزع سيزول بسحر ساحر إلى أن يحين الوقت وتبدأ روحه بالذبول تدريجيا مع إدراكه بإستحالة ما يسعى إليه ويطلبه بكلّ جوارحه فيستسلم لليأس وينأى بذاته في القاع حيث رسى بعد معركة ضارية حتّى يحين الوقت وتنتشله حبال الإذعان فيرضخ للأمر الواقع وتمسي صدمته حقيقة واقعة لا مفرّ منها...

اخترق صوت ثلاث نقرات رتيبة على باب الغرفة الخشبي العتيق ضباب أفكارها المتزاحمة لترمقه بحدّة وتمضي متجهة نحوه بخطوات واسعة فاتحة إيّاه بحركة سريعة حانقة قبل أن تحدج من خلفه بنظرة تقطر غيظا وتبتعد من دون أن يتسنى للطارق الفرصة لكي يتفوّه بحرف..وقف يتأمل بصمت جسدها الضئيل الذي أولاه ظهره كطفلة عنيدة ترفض الاذعان لما يقوله الكبار ثمّ هزّ رأسه مطلقا تنهيدة طويلة وقال بنبرة متحدية :" ما الذي حدث لتلك الفتاة الذي ترفض أن تقول كلمتها قبل أن توصلها لي بعينيها؟؟ هل كانت تمثل علي القوة والجلد وقررت أن تعود الى جبنها؟!!" تصلبّ جسدها حالما أنهى عبارته التي نجحت في استفزاز كلّ خلية في كيانها واستدارت نحوه فجأة ليرتفع طرفا شفتيه عند رؤية النار في لوزتيها فأكمل بهدوء :"ما كلّ هذا الغضب يا رايا؟؟ تبدين كلبؤة أسيرة داخل قفص حديدي!!" اقتربت منه ببطء هامسة بسخط :"أو تسأل؟!! أنا في قفص فعلا يا أيهم!! فمنذ ذلك اليوم وأنت تسجنني داخل هذه الغرفة ولا تسمح لي بالخروج منها!! أكاد أجن وأنا قابعة هنا من دون حول ولاقوة..هل تعتقد بأنّ السجن أسوأ من هذا المكان الذي زججت بي فيه؟!!" زفر بعصبية وهمّ يجلس على الكرسي الوحيد الذي كان في الغرفة ثمّ أخذ يحدّق بصرامة في وجهها الذي اعتلت وجنتاه حمرة الغضب التي كانت تزداد قتامة في كلّ ثانية تمضي تناسبا مع ارتفاع وانخفاض صدرها مع أنفاسها المحتدمة...توقف الزمن بغتة تاركا لعينيهما القرار في حسم معركتهما المتكافئة إلى تقهقرت دمعة جبانة عن موقفها واختارت الإستسلام والهروب من وراء حصنها المنيع متسربلة بقهر على جمر وجنتها الحارق لكنّها لم تكن تدري بأنّها بفعلتها هذه قد هزمت حصن الخصم على حين غرّة فألقى بعتاد قساوته جانبا كاشفا عن نقاط ضعفه كلّها ضاربا بصموده عرض الحائط وهبّ نحوها حتّى بات لا يفصله عنها غير إنش واحد ورفع يده ليحضن وجنتها ماسحا بإبهامه برقة أثر دمعتها الساخنة وغمغم بهمسة خافتة خلقت لأذنها وحدها :"أتدركين بأنّ سجنك هو سجني أيضا يا رايا؟!!؟" حدّقت بمقلتيه اللتين اكتسبتا قتامة لم تعهدها بهما منذ أن ناظرتهما أوّل مرّة وازدردت لعابها بصعوبة يائسة في محاولة لقلب موازين معركتها مع حشود دموعها التي أخذت بالإستسلام واحدة تلو الأخرى مشكلّة غلالة لامعة بدأت تغرق ملامح وجهه عن عينيها فأجابته بهمسة متحشرجة :"أكاد أختنق..لا أستطيع الإستمرار على هذا الحال!!" وأغلقت جفنيها لتفكّ أسر دموعها وتترك لها المجال حتّى تنساب بغزارة غير آبهة بقوّتها وثباتها المزعوم اللذين تشدّقت بهما أمامه منذ دقائق قليلة..وفجأة لم تشعر إلّا بذراعين قويتين تحيطان بهيكل جسدها المرتعش وهما تجذبانها إلى جسده الصلب وبرأسها وهو يرتاح على صدره الدافئ الواسع..أخذت تبكي بصت وهي تستمع إلى خفقات قلبه القويّة والتي بثّت في جوفها أمانا وطمأنينة كانت في أمسّ الحاجة إليهما وهي في أعمق نقطة من غياهب يأسها وقنوطها...تركها تفرغ مالديها من مشاعر كبتتها لوقت طويل إلى أن شعر بإنخماد ثورتها وتضاؤل ارتعاشاتها شيئا فشيئا لم يتبقى منها سوى نشيج متقطع خافت ثمّ قال بهدوء :"لم يكن بوسعي أن أفعل غير ذلك يا رايا..كان عليك أن تختفي عن الأنظار لفترة حتى يخمد السعير الذي أجّجه مقتل ذلك الممرض..كان النذل يعمل بصمت..كان يعيش بيننا ويعاني مثلنا هو وعائلته فمن كان ليشكّ به وبأهدافه؟!! لقد تزوّج من المدينة وأنجب أطفالا حتّى والحال بأنّه لم يكترث لأحد غير خدمة بلده..أنت نفسك تعرفينه حقّ المعرفة وعملت معه جنبا إلى جنب في أحلك الأوقات وأقساها ولم ترّف له عين في قتلك مع اللواء ونورا..لقد خفنا عليك يا رايا من أن يصل الخبر إلى شركاءه وتصبحين هدفا لهم!! كان علينا التأكد من احتواء سرّية الموقف وحمايتك..أعلم بأنّ الأمر لم يكن بالسهل وصدقيني حين أقول لك بأنّه كان بالصعوبة علي كما كان عليك!!" فتحت جفنيها الملتهبتين وحدّقت في الفراغ أمامها وأجابته بإستكانة :"لم أكن أريد قتله..لكنّه كان يهمّ بخنق نورا أمام عيني وعندما حاولت إيقافه رماني جانبا ونظرت إلى عينيه..لم يكن زكريا الذي أعرفه..ذلك الرجل الطيب الذي ساعد في إنقاذ العديد من الأرواح الجريحة إلى جانبي..كان إنسانا لا يملك في داخله أيّ ذرة من الرحمة..عيناه كانتا خاويتين تماما يا أيهم!!" أطرق برأسه بتفهم فبدأت تبعد رأسها عن صدره وتأملته للحظة قبل أن تكمل بخفوت :"أنا سلبت روحا من هذه الدنيا..لقد فعلتها..كيف سأمضي في حياتي مع هذه الحقيقة؟؟ كيف سأغمض عيني وصورة وجهه لا تغادر مخيلتي يا أيهم؟؟" أبعد برفق بضع خصل جعداء كانت قد التصقت بفعل دموعها على وجنتيها وسحبها مجلسا إياها على حافة السرير الضيق واتخذّ مكانه جانبها ليجلسا معا بصمت لفترة لم يجرأ أحدهما على قطعه إلى أن فاجأها بإجابته على سؤالها قائلا بهدوء :" عندما اندلعت الحرب منذ أربع سنوات كنت في السنة الأخيرة من إكمال دراستي الجامعية..كنت أختص في الهندسة المعمارية وسرت في ذلك على خطى والدي الذي ترك لي مكتبه بعد وفاته" تمتمت بأسى :"رحمه الله" أومأ برأسه قبل أن يمضي قائلا :"كنت كما يقال رجل البيت، فقد ترك أبي لي أمي وأختي الصغرى أمانة في رقبتي..يقولون بأنّ الأمانة ثقيلة وحملها ينهك الجسد ويرهق الروح وكم أخطؤوا في ذلك!! كانتا أجمل ما في حياتي..أملي..مستقبلي..طمأنينتي..وسلامي" أراحت كفّها على صدرها علّها تفلح في تهدئة ضربات قلبها التي ازدادت جنونا مع آخر عبارة قالها..أو بالأحرى تلك النبرة والزمن الماضي الناقص الذي تكلّم به عنهما.. كان غافلا عن اضطرابها الجلي للعيان فتابع وكأنّه بات غارقا في عالم آخر يبعد عنها آلاف الأميال والأزمان :" كانت أمّي طالبة في كليّة الآداب عندما رآها أبي لأوّل مرّة في احدى المرات القليلة التي كان يتسكع بها في كليّة غير كليّته وفتن بها في الحال..وتزوّجا فعلا بعد أن تخرّج والدي في ذات السنة أمّا أمي فقد أنهت دراستها وهي حامل بي ولشغفها لشكسبير بشكل خاص ولكل ما هو رومانسي بشكل عام كادت أن تسميني روميو لولا تدخل أبي في اللحظة الأخيرة وإقناعها بإختيار اسم آخر يتشابه بإيقاع الحروف لكن لم يفلح الامر فوقع الإختيار على أيهم، بيد أنّ ذلك لم يثنيها عن تلقيبي بروميو الصغير" أطلق ضحكة صغيرة وهو يتخلل خصلات شعره بأنامله وقد لمعت عيناه بحنين :"لطالما تذمّر أبي من التصاقي الدائم بها..كانت قدوتي في كلّ شيء حتّى بتّ عاشقا صغيرا للأداب والفنون مثلها على عكس أبي الذي كان عمليا ولا يستهويه غير عمله وبعض الرياضات..وكم كانت تغيظه عندما تريه رسوماتي والكتب والروايات التي قرأتها..كان يدّعي الغيظ لكنّي كشفته عندما ألمحه ينظر إلينا خفية ونحن نتناقش في موضوع أدبي معين، لم يستطع أن يخفي ابتسامته ونظرة الحب التي تلمع بها عيناه عندما تحطّ نظراته عليها" ارتسمت ابتسامة دافئة على شفتيها وسألته بلهفة :"ماذا عن أختك؟؟" ارتفع حاجباه مبادلا ابتسامتها بأخرى أكثر اتساعا وهو يجيبها بحماس :"روزاليند؟؟ إنّها حكاية أخرى، كانت نسخة أنثوية مصغرة عن أبي في شكلها وطباعها..كم انتظرت أمي مجيئها بعد سنوات طويلة من إنجابي فأمست معجزتها الثالثة من بعدي وبعد والدي..كنت في السابعة عندما ملأت البيت بصراخها وصخبها الذي ناقض تماما صمتي و هدوئي..أتعلمين؟؟ تذكرني بصبح كثيرا..في شكلها وتمردها وطموحها..حتّى أنّها نالت الميدالية الذهبية في لعب تنس الطاولة على مستوى المقاطعة..لم يعش أبي طويلا ليفخر بها أكثر وخطفه الموت بين ليلة وضحاها بأزمة قلبية مفاجئة تركتنا محطمين لفترة ليست بوجيزة..لكن الحياة استمرّت وعاهدت نفسي على حمايتهما وتعويضهما عن فقدانه بكلّ ما أوتيت..إلّا أنّ القدر لم يمنحني الوقت فخطفهما معا ليلحقا بأبي في لحظة غادرة" التفت يتأمل عينيها اللتين تقطران ألما ودمعا وتابع بصوت مخنوق :"عندما يصعق المرء بألم غير متوقع قد يبدو لوهلة كاف كي يفتك بروحك وجسدك في آن واحد، فيصبح لديه خيارين لا ثالث لهما..الإستسلام في انتظار الموت الذي قد يكون حلما بعيد المنال بقدر ماهو قريب..أو المقاومة وتوجيه ذلك الألم في طريق قد يودي به للموت في أيّة لحظة..تركت كلّ شيء خلفي، أو بالأحرى تركت مابقي لي من فتات مستقبلي الذي باتت ملامحه مشوهة..فكانت البندقية ملاذي وحماية ما تبقى صامدا على وجه هذه البلد قضيتي اليتيمة" سحبت نفسا متهدجا وأسبلت جفنيها ريثما تستعيد ما تبقى لها من ثبات ليغزو صوته العميق ضباب أفكارها المشوشة وهو يسألها ببساطة لا تتناسب مع طبيعة سؤاله الصادم :"هل ترين بي قاتلا يا رايا؟؟" فتحت عيناها على اتساعهما لتستقبلهما خضراويه القاتمتين بنظرة لا تنمّ عمّا يعتمل داخله فارتجفت شفتاها وهي تجيبه بإستنكار هامس :"كيف تسألني هذا السؤال يا أيهم؟؟ أنت جندي تقوم بما هو أنبل ما يمكن فعله في الحياة..فهل هناك أسمى من المخاطرة بروحك في كلّ لحظة في سبيل الدفاع عن وطنك وحماية شعبه؟!!" لم يزح بنظراته عن عينيها وهو يقول :"لكنّي قمت فعلا بسلب أرواح العديدين حتّى بأنّي فعلت ذلك داخل بيتك يارايا ..كيف تقولين لي بأنّي لست قاتلا؟!!" هبّت من مكانها هاتفة بحرارة :"إن لم تفعل ذلك لكنت أنا وأمي وأختي تحت التراب الآن!!! إن لم تكن أنت ومن معك من أفراد الجيش على أرض المعركة لكان العدو قد نال منّا ومن أرضنا جميعا منذ زمن بعيد!! كيف تقول ذلك عن نفس..." تلاشت البقية الباقية من حروفها مع إدراكها وأخيرا ما الذي كان يسعى إليه، فأشاحت بعينيها عنه بعيدا وقد سلبت منها القدرة على الكلام إلى أن شعرت بدنوه منها و بسبابته التي دسّها تحت ذقنها ليرفع وجهها لتواجه نظراته الحازمة وهو يقول بلهجة قاطعة لا جدال بها :"غريزة البقاء وحماية أرواحنا ومن نحب هي أهمّ مكوّن داخل كلّ منّا..كلّ إنسان مهما بلغ من الضعف..مهما بلغ من النقاء قادر على فعل الكثير حتّى القتل عندما يتهدّد وجوده ووجود من هم أغلى من نفسه..الظروف فقط هي التي تفرض عليه ذلك..فعندما تمسي الأرض غابة لا يسكنها إلّا الوحوش فلا يملك المرء عندها إلّا أحد اثنين..فإمّا الموت..وإمّا البقاء" حدّقت به لما بدا كدهر كامل قبل أن تسأله بحرقة :"كيف الخلاص إذا يا أيهم؟؟"حضن وجهها بكفيّه ومال ليسند جبينه على جبينها هامسا بصوت أجش :"قد يبدو بعيد المنال في هذه اللحظة يا رايا..لكنّه سيأتي يوما من حيث لا ندري..سيأتي"

عن الحرية والعشقWhere stories live. Discover now