الفصل الثاني

170 4 1
                                    

مدينة أكادير،
وصل أنير للمدينة بعد ساعتين من الطريق، وسيارته السوداء التي يفضل قيادتها نظرا لوعورة الطريق نحو القرية، تترجم حالة هياج صاحبها، انطلق بسرعة اختصر فيها ثلات ساعات ونصف في ساعتين فقط، لم يكن يهتم فاسم عائلته "بولخير" كفيل بسد أفواه شرطة المرور إن صادفته، لحسن حظه أو ربما حظهم كان الطريق خاليا...
كانت مدينة أكادير قد اسيقظت أو ربما لم تنم بعد، فباعتبارها مدينة سياحية بامتياز، يجعلها دائم الحركة، هي المدينة التي لا تنام في المغرب خصوصا في فصل الصيف، فهدوءها وزرقة خليجها والمناظر المحيطة بها يغري الباحثين عن الاستجمام للقدوم إليها، على الرغم من استنكار سكان المدينة إلا أن الدولة تسعى لاستغلالها أحسن استغلال لجذب أكبر عدد من السياح، وكل عام في تزايد مستمر...

تحت المياه الباردة.....داخل غرفته في الفندق..... تذكر ما حدث مع والده ، ماذا كان يقصد عندما اهان امه بتلك الطريقة، على الرغم من غضبه، الا انه يعرف اباه جيدا، لا ينطق من فراغ، و كلمته كحد السيف، ما جعله محترما من قبيلته و القبائل ، امه وابوه انفصلا و هو ابن 13، قبلها بسنوات كان يعيش في كابوس يصعب الاستيقاظ منه، كل يوم شجار بينهما ، فلم يكونا يتبادلان ابشع الكلمات فقط بل في بعض الاحيان يتراشقان باي شئ امامهما، وكانت الغلبة بالطبع للاب، لم يتوقف صراخهما الا بعد طلاقهما، و حضور الاخ الاكبر للام و اصطحابها لاميركا هي و ابنها الصغير...

هو دائما يرى نفسه وحيد، فلا هو قريب من الام و لا قريب من الاب، امه التي تزوجت و انجبت و نسيت ان لها ابنا، ربما تتعمد تناسى وجوده فهو يذكرها بفترة قاسية من حياتها، صراحة لا يلومها،ففي بعض الاحيان حتى هو يرفض رؤيتة نفسه في المرآة لربما نسي من يكون،

احساسه بلسعات الصابون على ظهره اخرجه من ذكرياته، و ذكرته بحبيبة، قطته المشاكسة، يجب ان يراها قبل رجوعه لاميركا، لا يعرف ماذا يريد منها، لكنها تستحق منه توضيح لما عاشاه طوال هذه الأشهر، يعرف انه اصبح مدمنا عليها، نعومة جسدها ضد خشونة جسده، رائحة القرنفل من شعرها،، فلم يسبق ان احس بمثل هذا الشعور من قبل ادمن حتى حضورها المبهج في حياته، فبمجرد رسالة منها ينقلب مزاجه 180 درجة.

خرج من الحمام، وهو يلف فوطة على وسطه و الماء مازال يقطر منه، لم يهتم لابعاد الغطاء، بمجرد ما وضع رأسه في الفراش ذهب في سبات عميق، استيقظ بعد الظهر، وهو يتأمل الغرفة و يسترجع ما حدث معه، ابتسم باستهزاء فقد اعتقد انه كان مجرد حلم تمتم " اهلا بك في الواقع انير" و ذهب ليلبس ملابسه، حمل جهازه ووجد عدة مكالمات فائتة من ابيه وواحدة من حبيية، تجاهل رقم ابيه و اتصل بحبيبة، بعد الرنة الاولى ردت بلهفة كعادتها:
- "ألو، انير"
- "مرحبا حبيبة، كيف حالك؟"
- "انا بخير، فقط اشتقت اليك"
- "انا ايضا لكني، لن استطيع رؤيتك قريبا، انا في المدينة، سأقضي بها باقي ايام عطلتي قبل الرجوع لأميركا"
- "ماذا؟ و انا؟؟؟"
- "انت ماذا؟"
- "هل ستتركني وحدي مجددا؟ الا تعني لك الايام السابقة شيئا؟"
- "بلى حبيبة، انت غالية جدا علي، لما انزل للقرية سوف ابعث لكي، لنتحدث"
- "يمكنني ان احضر الى المدينة"
- "حسنا! سوف انتظر اتصالك الى اللقاء."
لم تعد تصرفات حبيية تفاجئه، حقا انها فريدة من نوعها، و هذا النوع من النساء هو من يجذبه، لماذا لا يتزوجها، فمصيره في النهاية الزواج، فلماذا لا يتزوج حبيبة على الاقل متأكد انه لن يمل معها، فهو فعلا اصبح لا يستطيع الاستغناء عنها.

تمازيرت ( القرية)

ما إن اغلقت الخط مع أنير ، حتى بدأت تبحث عن رقم اخر هو الوحيد الذي يستطيع ان يوصلها للمدينة، وجدته و ضغطت على زر الاتصال
-"مرحبا جواد"
-" مرحبا من معي؟"
-" بهذه السرعة نسيت صوتي، افف عليك " ردت بكل ميوعة
-" و هل استطيع، حبيبتي، ما سبب هذه المبادرة يا ترى؟ "
-" اريد الذهاب للمدينة"
-" حسنا، و المقابل؟"
ضحكت ضحكة انسته انها لم تجب، اغلقت الخط بعد ان اتفقت معه على المكان والزمان، و ذهبت تستعد لاخر ضحاياها.
ارسلت له رسالة عن مكان و ساعة اللقاء، وبما انه قريب قرر ان يذهب و ينتظرها هناك، بعد نصف ساعة رآها تترجل من سيارة فخمة، كانت ترتدي جينز غامق وضيق جدا و بلوزة حمراء، شعرها مظفور و ينزل على ظهرها كان كحبل متين اسود، بلوزتها اظهرت امتلاء و استدارة صدرها، نزلت من السيارة ثم تحركت جهة السائق لتميل فيظهر جزء كبير من بشرة ظهره و تقبل صاحب السيارة لم يعلم نوع القبلة، فقد كانت تغطي على المشهد بجسدها، كان شخصا كبيرا في العمر ثم ابتسم مودعا احس بنفسه كمن ضربته لسعة كهربائية لكنه لم يتزحزح من مكانه كان ينظر اليها و هي تتمايل في مشيتها،لا يدري لماذا ولكنه احس بخيبة امل عندما رأى نوع ملابسها، فهو قد تعود عليها بإيزارها الاسود و مغطية كامل جسدها... كان دائما يعتبرها محجبة، محجبة!!! ابتسم "وماذا ينفع حجاب الجسد والروح عارية"، اقتربت من باب المقهى و بدأت تبحث عن مكان شاغر، فامسك هاتفه واتصل بها، رأى لهفتها عندما لمحت اسمه في شاشة الهاتف الجديد الذي اشتراه لها مؤخرا، اجابت فاخبرها عن مكانه، و ذهبت مسرعة اليه، كانت قد تخلصت من ايزارها وهو الان يقبع في حقيبتها المتوسطة الحجم، قبلته على وجنته و جلست مقابلة له، سألها فجأة:
" من احضرك للمدينة "
اجابت وقد فهمت من سؤاله انه لمحها:
-" خالي، اخبرته انني سأذهب الى السوق مع صديقاتي من ايام الدراسة فسمح لي"
هدأت اعصابه، و صدقها لانه اعتقد انه يعرفها جريئة لا تخشى شيئا، و ليس هناك سبب للكذب عليه.
-" هل نذهب؟" تمتم بضيق، فقد احس بفوران جسده مطالبا بها بمجرد ان لمحها تخرج من السيارة وقفت ووقف معها وضع اجرة قهوته فوق الطاولة و ذهبا باتجاه فندق، و طبعا اسكت العامل في الاستقبال الذي طالبه بوثيقة زواج بثمن ضعف اجرته الشهرية، انطلقا باتجاه المصعد، لم يقدر على المقاومة و هي تنظر اليه نظرات اغواء، انفتح باب المصعد في الطابق المقصود، فافترقا فجأة عن بعضهما، فلمح رجلين بهيئة ليس مغربية بالتأكيد مصحوبان بفتاتين بلباس يظهر اكثر مما يخفي،و بغريز دفاعية ارجعها وراءه لتضبط هيئتها الفاضحة لما كانا يفعلانه، سمع احد الرجلين يقول: "آسفين على المقاطعة" نظر اليه انير نظرة شزرة، فارتبك الرجل، ارجع نظره الى حبيبة فوجدها قد اصلحت هيئتها فجرها من يدها باتجاه غرفتهما، ما إن اغلق الباب حتى بدأت جولتهما المحرمة.... بعد فترة اخبرها بما وقع مع والده، وانه سيقطع اجازته و يعود الى اميركا، لكن قبل ذلك سيتزوجان، لم تستطع تصديق انها واخيرا قد وصلت الى ما تصبو اليه و انها ستكون حرم المصون لانير بوالخير ، قطع تفكيرها، عندما قال:" و بما انك لم تدرسي اللغة الإنجليزية من قبل، فسوف اسجلك في معهد لتعلم اللغة، و ستسكنين مع جدتك، لحتى استكمال اوراق سفرك" لم يعجبها قراره اعتقدت انها بمجرد الزواج سوف يسافران مباشرة، او على الاقل ستقيم في المزرعة لحين عودته، لكن لابأس كل شئ يأتي بالصبر، اومأت موافقة.... خرجا يدا بيد، كزوجين عاشقين في شهر عسلهما.

قرر ان يوصلها لمقربة القرية ثم تكمل من هناك مشيا عالاقدام، و المسافة ليست بعيدة، ما ان وصلت لمقربة البحيرة حتى وجدت عدة فتيات كعادتهن يغسلن الملابس قرب البحيرة، و كانت من بينهن ابنة زوجة القايد عبد الجليل المتوفاة تزوجها مباشرة بعد طلاقه لام انير و بقيت معه لمدة ثماني سنوات، و كانت لديها ابنة تبلغ من العمر شهرين وهي الان في عمر التاسعة... كانت طفلة تشع نقاءا و براءة ببشرتها البيضاء و شعرها الاحمر ، و عيونها الفيروزية الكبيرة، يقال انها تشبه اباها الذي ينحذر من ريف الشمال، كانت دائما ما تقول لها امها: " كأني ارى اباكي في عينيك، انت تشبهينه كثيرا" ، كان معلم في مدرسة القرية، تزوج امها بعد ان رآها و احبها من اول نظرة، توفي بعد عام من زواجهما و ترك امها حامل بها، و لانها صغيرة السن و جميلة اجبرها اهلها على الزواج من عبد الجليل، و خوفا من مطالبة عائلة زوجها وافقت، فنفوذ عبدالجليل كفيلة بحمايتها، طوال سنواتها 8 كانت تعيش اسعد ايامها، خصوصا ان عبدالجليل كان نعم الاب لها، وعوض عن غياب ابيها، وبعد وفاة امها اصبحت تعيش مع خالها وزوجته، كانت ايلودي ....منشغلة بغسل ملابس عائلة خالها بهمة و لا كأنها تبدل اضعاف مجهودها، لم تكترث لكلام الفتيات من حولها عن حبيبة القادمة من بعيد و سيرتها التي يعرفها الكل، كانت منهمكة في عملها، لكن ظل طويل وقف عليها، رفعت عينيها لم تكن سوى حبيبة، حيتها بابتسامة بريئة، وحيتها الاخرى بابتسامة مكر فقالت لها:
-" ايلودي، هل تعرفين من ستكون سيدة المزرعة الجديدة؟"
وبكل براءة اجابتها :
-" لا حبيبة، من؟"
عم الصمت و اعين الفتيات كلها مركزة على شفتي حبيبة تنتظر ان تنطق
-"أنا"
قالت و هي تفرقع اللبان بين اسنانها، سمعت احدى الفتيات تقول ضاحكة:
-"لا تقولي انك سوف تتزوجين العجوز القايد عبد الجليل "
وقبل ان تجيب حبيبة رمقت ايلودي الفتاة بنظرات غاضبة، فعبد الجليل دائما يبقى الاب الروحي لها، علَى الرغم من انه ليس اباها الحقيقي لكنه هو من كبرها و رباها و للان مازال يتكفل بجميع احتياجاتها، و هو من يصرف على تعليمها، فلو كان الامر بيد خالها و زوجته لاجلساها في البيت كخادمة لهما، اجابت فتاة اخرى
-" اهدئي يا صغيرة، امك ماتت و عبدالجليل رجل من حقه الزواج، لكن يبدو انه عُمي ليختار حبيبة"

قهقهت حبيبة بصوت عالي:
-" لا يا حبيبة حبيبة، ليس انا من يأخد عجوزا هرما. زوجي سيكون انير عبد الجليل بولخير" و اطلقت ضحكة طويلة لما لاحظت ان افواه البنات مفتوحة من الصدمة و اردفت " اسرعن باغلاق افواهكن، فالذباب في الارجاء" و ضحكت و هي تتحرك مبتعدة، و كل الفتيات تحولت انظارهن لتلك الصغيرة لتؤكد او تنفي الخبر، لكنها لم تعطيهن اية اجابة فقد كانت منهمكة مع بقعة في ثوب زوجة خالتها، فلا يهمها الامر فبالكاد تعرفه، كانت تخاف منه جدا، حتى وهي في المزرعة لما كانت امها متزوجة من القايد عبد الجليل، كانت تتهرب من اي مكان يتواجد فيه، فكانت اغلب الاوقات في غرفتها او عند جدتها رحمها الله، التقت به مرات قليلة تعد على اصابع اليد،ومن تلك المرات لما كانت في 5 و خربت خم إمي فطوم، وكان عقابها قرصة اذن للان تحس بها كلما مرت امام خم العجوز، ولهذا كانت تتجنبه وما ساهم في نجاخ ذلك انه يأتي للقرية فقط في فصل الصيف، و اغلب الصيف يقضيه في المدينة الساحلية، انتهت من الغسيل و حملته لنشره فوق الصخور،ووضعت عليه اخرى اصغر حجما، لتثبيته من الرياح ان هبت، فظهرها يؤلمها من كثرة الانحاء وليس لها قدرة على اعادة الانحناء ان توسخ من جديد، و جلست امامه حتى ينشف، و استغلت الوقت للقيام بواجباتها المدرسية، فهي تعلم انه لن تستطيع انجازهم في البيت، من كثرة طلبات خالها و زوجته و ابنائهم الاربعة، و امها دائما ما توصيها باهمية التعليم، وان اباها حتى لو كان مجرد معلم لكن كان مثقفا، ولهذا هي حريصة على الاجتهاد في دراستها.

*****
انتشر خبر رغبة زوَاج ابن القايد عبد الجليل بحبيبة كالنار في الهشيم في القرية، لما وصل الخبر لهذا الاخير، استشاط غضبا، و ازداد غيضا لما انير رفض الاجابة على مكالماته، اتصل على محمد ذراعه الايمن،
- " السلام عليكم سيدي"
-" و عليكم السلام، محمد اين انير؟"
-" مازال في نفس الفندق سيدي "
-" حسنا، ابعث لي العنوان، انا قادم الى المدينة، لا تجعله يبتعد عن ناظريك"
-" حاضر سيدي"
ركب القايد سيارته، واخبره سائقه الخاص ان العنوان وصله من محمد، و اتجها اليه، انير يحتاج ان يصحو من حلمه، وسيفعل المستحيل لذلك حتى لو كان على حساب خسارته لابنه.

أنين الهوى  الجزء الأول من سلسة "تايري"Where stories live. Discover now