الفصل الرابع

477 3 0
                                    

عبير

وقف ينظر إليها بحب..... من يوم رآها قرب باب العناية المركرة، في اليوم الذي أُدخل به والدها للمستشفى.... وهي جذبته بجمالها الهادئ، على الرغم من كونها في اسوء حالاته، كانت ترتدي عباءة قديمة و تلف حجابا اسود على وجهها، وعينيها متورمة من كثرة البكاء و انفها الصغير احمر، احس بالشفقة نحوها خصوصا على حالة والدها التي لا تبشر بالخير، اراد الذهاب اليها و مؤاساتها بعناق، لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن......هي الآن له و يحق له فعل أكثر من مجرد عناق.....

قبلة على جانب خذها أيقظتها من انتظار إجابة إيدر على رسالتها.....إيدر، إبنها قبل أن يكون أخوها، كان دائما حاميها، رغبتها في تزويجه نابعة من كونه بعيداً عنها.... تريد أن ترى عائلته.....
- " مالذي يشغل جميلتي؟!" همس حمزة بجانب اذنها بصوت أجش
- " مرحبا حبيبي..... ومن غيره.... إيدر " قالت وهي تلتف نحوه
- " دعي إيدر و شأنه.....فهو الأعلم بما يريده....والوقت الذي يرغب بالزواج..... سيتزوج"
- " حمزة.... أنا أخاف عليه.....ما حدث له كان صدمة و أشك انه استطاع الخروج منها و لو مرت اربع سنوات و بعض أشهر" همست تخفي نفسها في صدره
- " حبيبتي.... الرجل ليس كالمرأة..... الرجل بمجرد أن يجد امرأةً جديرة به فهو ينسى كل ماضيه.... و إيدر رجل عاقل و يعرف مصلحته جيداً.... فقط دعيه ولا تضغطي عليه"
- " حسناً حبيبي.... فقط سؤال....هل اشتكى لك عن ازعاجي له؟ " قالت تسأله بتأنيب ضمير
ضحك حمزة بقوة.....دون أن يجيبها، وهو يدفعها باتجاه غرفة النوم
- " نوبتي ستبدأ بعد ساعتين.... و أريد أن أستفيد جداً من كوني متزوجاً....."

بعد بعض الوقت..... كانت جالسة تحدق في الساعة، كي توقظه في الوقت المناسب....وعقلها يأخذها لذلك اليوم.....قبل أربع سنوات.

يوم الجمعة، استيقظ الكل في الفجر، الام لم تدع احدا من اولادها يعود الى النوم، خصوصا تانس، التي تعتبر نفسها ضحية الكل و اولهم الام........ بعد تجهيز كل الحلويات؛ الفَقاصْ، الغْريبَة. كعب الغزال اضافة ل سَلُّو و املو و زيت اركان و زيت الزيتون ثم صينية أتاي، وهي عبارة عن طقم من الفضة توضع عليه اكواب لشرب الشاي، و معه علب لوضع الشاي الاخضر على شكل حبوب، والسكر و يكون الطقم منقوش يدويا من المعلم ، اخرجت الأم اغلى طقم لديها لهذه المناسبة و اجمل كؤوس كانت من البلور و عليها خطوط مذهبة، انتهين بحلول الساعة 10 كل شئ جاهز للاستقبال، بقي فقط تجهيز الاكل وبما ان اليوم الجمعة فسيطبخن الكسكس كسائر المغاربة، ارسلت الام ايدر للسوق لجلب خضر فقد قررت طبخ الكسكس بسبع خضر، اما تانس فمهمتها تنظيف المراحيض، أطلت تانس على امها المشغولة في المطبخ برص اكواب العصير و اطباق السلطة و صينية الشاي في مكان يسهل الوصول اليه لحظة تقديمه للضيوف
-" امي لقد انتهيت من تلميع المرحاض الاخير، حتى يمكنك وضع الضيوف داخله و لن يتذمروا"

ذهبت امها لتتحقق من عمل ابنتها، نظرت الى المغطس، و المرآة والخزانة الى كل مكان حتى الغير الظاهرة منها، تأففت تانس...... الحمدلله هي لم ترث هوس النظافة و الترتيب من امها كأخويها، هي تشبه اباها اكثر، فدائما ما يكون النقاش بين الاب و الام حول الفوضى التي يخلفها خلفه......ضربتها امها في رأسها
-" اين ذهب عقلك، نادي عبير وتعاليا للفطور " حكت مكان ضربة امها، وهي تغمغم
-" واخيرا، صدر العفو الملكي، اكاد اموت جوعا" نادت على عبير، وهي تدحجها بنظرات نارية
-" ماذا؟" تساءلت عبير
-" هل انا متبناة في هذا البيت؟ صاحبة الامر اعطيت لها مهمة ان تحمل المبخرة و تطوف على البيت، وانا انظف المراحيض!!! اين هي العدالة و منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان، اين انت يا ابي لترى مدللتك بدونك؟ " صاحت بأعلى صوتها، قهقه ايدر الذي دخل للتو حاملا الگفة بيده ، إتجهت أنظَارهُم نحو والدتهم التي شهقت تخفي دمعتها، اسرعت اليها عبير تحتضنها، قالت و هي تمرر يدها على شعر ابنتها نزولا الى وجنتها
-" كان سيكون سعيدا من اجلك ابنتي، و فخورا بك ايدر، وفرحا بك تانس"
مسحت دمعتها و هي تشير الى طاولة الفطور
- " هيا الى الفطور، قبل الذهاب الى الحمام البلدي"
- " وماذا عن الغذاء امي؟"
- " ساهتم به، فقط اسرعا لكي لا تتأخرا"

في الجمعة مساءا كانت عبير و تانس تتوسدان نفس المخدة و تنظران الى السقف، سألتها تانس
-" عبير هل انت خائفة"
-" بل اموت رعبا، كيف سأترككم لابدأ حياة جديدة مع انسان لم اره في حياتي، وبعيدا عنكما بآلاف الكيلومترات، هل سأحبه و يحبني؟ كيف ستكون علاقتي بعائلته؟...... تانس؟ "
-"هممممممم"
-" هل انا جميلة؟"
-" يإربي عبير" قالتها وهي تجلس " لا تشكي ابدا عكس ذلك، انت جميلة جدا، شعرك الحريري الاسود تحسدك عليه كل فتاة تراه، عيناك واسعة و مكحلة من عند الله، بشرتك جميلة و صافية، نعم حمزة وسيم ولكنك اجمل منه بكثير، هو محظوظ بك" قالتها و رجعت تستلقي.، والاخرى تتقاذفها الامواج الا تكون في نفس مستوى حمزة.
******
إيدر

بعد أن قضى وتره و قرأ ما تيسر من القرآن، ذهب ليستريح فأخيرا مر اليوم على احسن ما يرام، افتقد اباه جيدا قربه، خصوصا بعد قراءة الفاتحة، احس ان حمل عبير بدأ ينزاح عن كاهله، فحمزة انسان مسؤول يكفي انه بنى نفسه من الصفر و بار بوالديه، يصلي ولا يقرب المحرمات، هذه صفات الرجولة بالنسبة له، كان يضبط المنبه في هاتفه، لكي يوقظه لصلاة الفجرة فاهتز بين يديه دليل على وصول رسالة ، كانت من دنيا " هل ألغي كل شئ"، كان يفكر في نعم كرد، الا ان صورة اباه على فراش الموت و هو يوصيه بالنسيان ظهرت من حيت لا يعلم، مسح الرسالة ثم وضع هاتفه بعيدا ونام، كانت هذه آخر رسالة توصل بها من دنيا.... تزوجت و هو اعتذر من خالته على الذهاب بحجة اقتراب امتحان الطلبة، تزوجت اخته و سافرت الى فرنسا، اخته تانس لحقت بعبير في فرنسا لاستكمال دراستهَا، بقي هو امه....عالمه اصبح يدور حول امه، الاطمئنان على اختيه، و عمله، فرغم سنه الصغير الا انه استطاع ان يثبت مكانته في عالم الاعمال، فإلى جانب اعتباره من اصغر المحاضرين، صار يعتبر من اكبر المستشارين الماليين و يقوم بدورات تكوينية على الصعيد العالم، قبل عام من الان و بعد شهر رمضان الذي قضياه هو و امه في الاراضي المقدسة، توفيت امه، و جدها ميتة، استيقظ مفزوعا ان تكون فاتته صلاة الفجر، واحس ان هناك خطب ما، فدائما امه من يوقظه، ذهب الى غرفتها فوجدها نائمة بسلام و سلمت روحها لبارئها....

توقف تذفق المياه ايقظه من ذكرياته، خرج من الحمام و هو يتمتم بالرحمة لوالديه....... لبس بذلته و خرج قاصداً القرية لزيارة القايد.

****
المغرب، قرية بين جبال الأطلس

دخلت وأغلقت الباب بهدوء، كي لا تحس زوجة خالها بدخولها، حتى وهي ابنة ابنة السابعة عشرمازالت تخاف من زوجة خالها....همت بالتوجه إلى غرفتها الموجودة بالمطبخ... في الحقيقة غرفتها تلك كانت عبارة عن مخزن متصل بالمطبخ وبعد وفاة أمها وقدومها للعيش مع خالها أفرغها لتصبح غرفة لها، على الرغم من وجود غرف أخرى غير شاغرة في المنزل الكبير المكون من طابقين، إلا أنها ممتنة لاستقبالهم لها... فلن تستطيع البقاء مع العم عبد الجليل فهو في الأخير لا يقرب لها ومن جمعتهما قد ماتت، لهذا هي مضطرة للقبول ولو بالفتات... تنفست الصعداء لما اجتازت البهو الكبير، المؤثث على الطريقة التقليدية... زربية يدوية الصنع باللون الأحمر تتخللها بعض الرسومات بألوان مختلفة وفوقها عدة وسائد صغيرة بعدَّة ألوان، وطاولة مستديرة ومبخرة تقليدية موضوعة عليها... استدارت باتجاه المطبخ، تنوي اجتياز الباب المشترك بين غرفتها والمطبخ، وإذا بيد غليظة تحط على كتفها، أحست كأن مطرقة سقطت على كتفها، تأوهت من المفاجأة ومن الألم الذي سرى في كتفها...
- "أين كنت يا ابنة الحرام؟؟!! ألم أخبركِ أن تسرعي بالعودة فالغسيل ينتظرك؟؟!!"
على الرغم من طبعها الناري إلا أنها تحاول التحلي بالبرود درءا للمشاكل
- " ذهبت لزيارة عمي عبد الجليل.."
بدأت تبحث في جيوب بلوزتها قائلة:
- "هل أعطاك مصروفك الشهري؟"
كانت تضع يدها خلف ظهرها، وتضغط بشدة على كفة يدها التي تتحتوي على رزمة لابأس بها من النقود..
- "إيلودي!! اعطيني يدك!!"
كانت تهز رأسها بلا... فلم تصبر زوجة خالها وأمسكت بيدها الأخرى وبدأت تلوي أصابع يدها... تلوت إيلودي وأطلقت صرخة من شدة الألم، فقدمت لها ما تحمله من مال وهي تحاول تخليص أصابع يدها...
- "خذي، أرجوك دعي يدي..."
أخذت المال ولكن لم تدع يد الصغيرة بل لوتها لدرجة سمعت طقطقة عظامها ثم أرخت قبضتها..
- "هذا عقابك على العناد!! المرة المقبلة لن أتوانى عن قص شعرك!! هل فهمتِ؟"
لم تجب إيلودي لأنها كانت ملتهية مع يدها التي تؤلمها جدا... فصرخت بها من جديد:
- "هل سمعتِ؟"
- "نعم.. لالة عيشة..."
لبست إزارها بتأني، وتركته غير مربوط، لأن حزمه يحتاج ليدين سليمتين... كومته فوق رأسها وخرجت تبحث عن كومة الملابس المتسخة لتغسلها في البحيرة (تافراوت)... على الرغم من أن القايد عبد الجليل أرسل لهم غسالة أوتوماتيكية.. إلا أن زوجة خالها تهوى تعذيبها... التقت آنيا ابنة جيرانهم و صديقتها، تكبرها بسنة وهي تدرس في الجامعة في المدينة ...طلبت منها أن تحزم لها إزارها... بعد انتهاء آنيا أخبرتها بشفقة أنها سترسل لها أخوها محمد ليحمل رزمة الملابس وستلحق بها بعد أن تنتهي من أعمالها لتساعدها في الغسيل...  شكرتها إيلودي وانتظرت قدوم محمد، كانت تنظر ليدها التي بدأت تزرق ومتورمة بأسف لابد أنَّها منزوعة من مكانها، لو كانت "إمي فطوم" ما زالت حية كانت ستذهب إليها وتعالجها بطريقتها السحرية، فهي تستخدم الحنة والبيض وقشور البيض ثم تضعهم على مكان الألم وتلف عليهم قطعة قماش وتنصحك بعدم تحريكه الإصابة لمدة ثلاثة أيام... تذكرت حين كانت صغيرة وسقط أنير عن ظهر حصان... أحضرت له أمها "إمي فطوم" بعد معاينة قصيرة لموضع الاصابة أخبرته أن عظم الساق مشقوق، وضعت له الخلطة ولفتها، نصحته بعدم الحركة الزائدة فإن لم يرحها كفاية فسوف تكسر ساقه، وكانت تطل عليهم من مخبئها السري وتسمع صياحه وشتائمه بجميع اللغات التي يعرفها... يشتم العجوز والحصان حتى أمها لم تسلم لأنها كانت تمسكه وتضغط عليه...
عادت للواقع حين أقبل عليها محمد وحمل الرزمة على الرغم من أنها ثقيلة على جسد طفل كمحمد... لكنه كرجل شهم رفض أن تساعده، مرت عليهما سيارة فخمة واتخدت طريق بيت القايد... لا يمكن أن يكون أنير قد وصل، فلم تمر إلا ساعة من مكالمة القايد عبدالجليل له... اختفت السيارة لتعيد نظرها إلى محمد الذي قال لها وهو ينظر ليدها:
- "لا تبكي إيلو.. عندما أكبر سوف أشتري مثل تلك السيارة... وأذهب بكِ بعيدا من هنا...
ضحكت قائلة:
- "لا لن أبكي... لأن الأبطال لا يبكون وأنا وأنتَ أبطال... صح محمد؟؟"
أومأ برأسه موافقا وتابعا طريقهما نحو البحيرة...

قبل أن ينطلق إلى القرية، اتصل بتانس يسألها متى وقت عطلتها البينية....لكي ينظم جدوله حسب موعدها ويأخد اجازة استجمام يقضيها في فرنسا مع أختيه والصغيرتين وربما يطلب من أنير أن يرافقه...

وصل إيدر إلى القرية... لم يتفاجأ بالتغييرَات التي حدثت للقرية الصغيرة سابقا... فهو كان بين الفينة والأخرى يزور القايد... لا يعلم السبب الذي دفعه إلى زيارته كل مرة... ربما من أجل العجوز أو ربما من أجله... فالعجوز كحاله وحيد... المتبقي من عائلتيهما في المهجر... بل هو أكثر حظ بينهما على الأقل هو دائم الاتصال بهما... وعندما يشتاق يسافر لهما، خصوصا بعد انجاب أخته توأم ... لمح طيفها، مثل ملاك، ليست المرة الأولى التي يراها... أول مرة رآها كانت قبل عام عندما كان خارجا من زيارته للقايد... تصادفا في البوابة الكبيرة... كانت مطئطئة رأسها وبمجرد أن رفعت رأسها لترى من يسد عليها الطريق حتى تجمد مكانه من جمال عينيها... عينان لم تترك له فرصة تحديد لونهما، ربما أخضر أو أزرق... أو كليهما... فبمجرد أن عرفت أنه رجل غريب غطتهما بإيزارها وتراجعت للوراء ثم اختفت... سحرته بكمية البراءة الممزوجة بالحزن المنبعثة منهما... ركن سيارته ونزل ينظر لأثرها... كانت مع طفل صغير يحمل بصعوبة رزمة ... فعرف أنهما متجهان نحو البحيرة... ركب سيارته من جديد باتجاه مزرعة عبدالجليل... ما أن وصل حتى أخبره محمد ذراع عبد الجليل الأيمن أن القايد نائم وسيستيقظ قبيل آذان العصر، أخبره أنه سيأخذ جولة في القرية ويعود بعد صلاة العصر... أومأ محمد ثم اختفى... نزل يهرول باتجاه البحيرة، بعد مسافة لا بأس بها لمحها من بعيد هي والصغير يجلسان فوق الصخور...أرجلهمَا في المياه، يتضاحكان ما إن همَّ أن يقترب أكثر حتى هوت عصى على منتصف ظهره، تحديدا بين كتفيه .... تفاجأ من الضربة في بادئ الأمر ثم أحس بغضب كبير، يتمنى أن يكون المسؤول عن الضربة ذو عقل سليم، ليهرب بعيدا.

أنين الهوى  الجزء الأول من سلسة "تايري"Where stories live. Discover now