Page 7.

210 28 14
                                    

مُذكرتي العزيزة,




انا بحالة فوضى.
كلا، ليس حالة..
بل انا شخص مكونٌ من الفوضى نفسها،
اكتشفُ ذلكَ أكثرَ يوماً بعد يوم.

انا شخص لا يستطيع الدخول بمحادثةٍ قوية دون البكاء، خصوصاً إن كانت مع عائلتي.
أو هل سأبكي إن قمت أيضاً بحديثٍ قوي مع أحد خارج العائلة؟ لا أعلم فلم أجرب..
كل محادثاتي مع أصدقائي سلسة وسهله وخفيفه،
وأشكر الرب على ذلك.

نظراً لما مضى من حياتي مع عائلتي،
فقد كُنتُ دائما شخصاً يتم إسكاتُه،
شخصاً يُوَبَخ على الكلام بسبب كوني لا يمكنني غالباً التفرقة بينما يجب أن يُقال وبينما يجب أن يُستَر.
شخصاً لا يُؤخذ رأيه ووجهة نظره وكلامه بجدية، ولا يُكتَرَث لما يقول.
او يُسخَر من طريقة كلامه أو تفكيره.
أو تُحكى له الكذبات كالأطفال.

مما أظن أنه أدى لكوني ما انا عليه،
فصرت لا أتكلم إلا قليلاً وفقط بالمواضيع الخفيفة،
كُنتُ ولازلت لا أستطيع التفرقة كثيراً بينما ما يجب علي قوله وما لا يجب، لطالما إبلتعني التوتر والهلع بعد كل تعليق أو تدخل بمحادثة، وخصوصاً إن حصلت على ردة فعل غير إيجابية من الطرف المقابل..

" هل بالغت؟"
"أهذه مزحة مقبولة؟"
"أكان يجب ألا أقول ذلك؟"
"أهذا الشيء الصحيح لقوله؟"
"أعلي إضافة دعابةٍ أم أتحدث بعادية؟"
" أسيكون سخيفاً بنظرهم ويسخرون مني عليه؟"
"هل سيتم توبيخي وإعطائي محاضرةً على هذا؟"

ولطالما كُنت شخصاً مُستمعاً أكثر من كوني شخصٍ مُتحدث. وأتوتر جداً عندما يتحول الإنتباه بالمحادثة علي فجأةً، ويكون يتوجب علي الرد..
وتُعاود كل الأسئلة السابقة وكل ما يُشابهها بملئ رأسي.
لذا أُفسد الأمر دوماً حينما أتكلم.

لطالما كُنتُ كَتوماً، أخشى الإنجراح من ردود الناس علي، أخشى نظراتهم وأحكامهم، أخشى تلقي عدم التفهم أو عدم الإهتمام، أخشى تلقي السخرية،
أخشى وأخشى وأخشى..

انا فعلاً شخص يفكر كثيراً، يملك الكثير، ينظر كثيراً، ينتبه كثيراً، يريد الحديث جداً، يريد أن يكون جزءًا مما يجري، أن يُنظَر له، وتؤخذ أفكاره وأراءه بجدية، أن يُستَمَع له دون أن يضطر للطلب، يريد الإهتمام،
لكني لا أتلكم. لا أتحدث بكل هذا.
أُبقيه مدفوناً.

لأن هذا ما كبرتُ عليه،
هذا ما عُوِدت عليه،
هذا ما رُبيت عليه.

عندما رأوني أُخطئ بكلامي،
لم يربوني على طريقة الكلام الصحيحة..
بل ربوني على الصمت، على أن أخرس.

اتذكر مرةً وانا صغير قد تلقيت صفعةً من أبي بسبب شيء قلته.. لا اتذكره بالضبط لكن أتذكر أنني صُفِعت.
صُفِعت، لأنني تكلمت فقط.
وأُمِرت بعدها بالسكوت.

لم يعلموني كيف أتكلم، وبقيت هكذا..
كبرت هكذا.. ولا أدري كيف أُصلح ذاتي.

لذا، أعتقد أنه نتيجةً لكل ما سبق..
فأنا لا أستطيع الحديث بموضوع جدي او قوي دون أن أبكي، لا أستطيع توجيه رأيي والدفاع عما أريد وماذا أظن أو أشعر حقيقةً دون أن أبكي،

لا أستطيع إظهار جزءٍ واحدٍ من ذرة من الكُتَل المدفونة دون أن أبكي رغماً عني.

أنه بكاءٌ غير مسيطرٍ عليه، أقسم، لا يسعني كبحه إطلاقاً.
بكاءٌ قبيح جداً، شهقاتٌ شديدة تلعثمني وتمنعني من الحديث تماماً.

ألهذه الدرجة يجب أن أخرس؟ فإن لم يُصمتوني هُم فتُصمتني شهقاتي وبكائي؟ ألهذه الدرجة فتحي لفمي بما أعتقدهُ حقيقةً غلطة؟

مدى قُبح البكاء الذي أقع فيه يوحي لمَن يراني بأن عزيزاً علي قد توفى أو من هذا القبيل من الأمور، بينما في الحقيقة الموضوع يمكن أن يكون تافهاً لدرجةٍ لا تتصورينها يا مذكرتي..

فمرةً كُنت وعائلتي بمطعمٍ والزجاج كان شفافاً يسمح لمَن خارج المطعم برؤيتنا، لم أرتح لذلك أبداً فأنا أهتم لخصوصيتي جداً، قررت إنزال ستارةً كانت موجودةً وإفترضت بأنه يمكن للزبائن رفعها وإنزالها كما يشاؤون إذ أن لكل جَلسةٍ ستارة..
إلتفت لي أهلي كلهم وراحوا بأقوال بسيطة كـ "لماذا؟ لا داعي لذلك."
" ماذا لو كان ممنوعاً فعل هذا؟"
" ماذا لو كان للستائر كِتابات على جهتها المقابلة وقاموا برفعها حتى لا يراها الناس وأنت جئت وأنزلتها؟"
" ماذا لو ظن مَن بالخارج أن المطعم مغلق بسبب إنزال الستارة؟"


أُقسم، يا مذكرتي،
بأن البكاء داهم حنجرتي وخنقها وإبتلت عيناي.. من تحول كل إنتباههم علي وإعتراضهم علامَ فعلت وإحتمالاتهم التي ليس لأغلبها صحة لأنه واضح فعلاً أن الستائر للزبائن..
تمكنت بقوةٍ شديدة من قول أني أنا أريد ذلك وأني مرتاح هكذا (والتي هي الحقيقة) دون أترك بكائي يخرج. وأعتقد أنه لعله قد ظهر الإرتجاف في صوتي على كل حال..

لم أتركها تخرج لأني علمت، بأن الموضوع تافه جداً جداً يكاد لا يُسمى موضوعاً حتى، وبأنهم سيسخرون مني أو سيوبخونني (كما يحصل دوماً بأي حديث يغلبني البكاء فيه) لأني سريع البكاء وضعيف وحساس ويجب أن أكون أقوى.

مُتعبٌ جداً أن أمتلكَ جانباً حساساً وعاطفياً ظاهراً وباطناً بنفس الوقت وجانباً آخر منطقياً وعقلانياً باطناً فقط، فيغلبني البكاء وأبكي ويسخر جانبي الآخر مني ومن ذاكَ البكاء!.

انا خائف جداً من المستقبل مع حالتي هذه..
تبقى سنةٌ واحدة فقط وسأتخرج من الثانوية وأدخل الجامعة..
الجامعة.. سأصير أعتمد على نفسي تماماً، سأدخل بنقاشات قوية وسيُطلب مني كثيراً إبداء ارائي وأفكاري..

والوظيفة..

كيف سأتمكن من العيش والإستمرار وانا أجهش باكياً كالطفل كلما طُلب مني إخراج ذرة حقيقةٍ من الأكوام المتكتلة المدفونة فيني، كيف سأنجو ؟؟
قول الكذب لن يكون لصالحي، وقول الحقيقة يُبكيني وذلكَ ليس لصالحي كذلك..
ماذا أفعل؟

أنا خائف جداً،
انا فوضى عارمةٌ يا مذكرتي،
انا سيئ جداً.






-١٨ مايو ٨:٢٩

إدمانُ المُتشفَيات | هيُونينِقكايWhere stories live. Discover now