1 | مِفتاح؟

392 18 421
                                    

"فقط الأطفالُ من يستطيعُون الطّيران. لأنهم سعداء وأبرياء ويتمتّعون بهذه الجرأة."
- ج. م. باري: بيتر بان.

~~~

عندما فتح نواه عينيه، كان أمام باب متينٍ حوافه ذهبيّة، وحده وسط فراغ معتم.

الأرضُ تحته قرمزيّة اللّون، والسماء سوداء لا زُرقة فيها، ليس فيها غيرُ نجوم صفراء، مرسُومة بشكلٍ باهتٍ.
كأنها من رسم طفلٍ صغير، عشوائيّة، ألوانها غيرُ متناسقة، كما وأن نصفها غير مكتمل.

كل شيء كان فارغًا.

هذا يشبه رسمته. لم يشعر براحة.

المكان على عتمته، لم يكن صامتًا؛ دقّات ساعةٍ منتظمة تكرّرت بانتظام، كانت مجهولة المصدر، ومع ذلك صوتُها كان مُزعجًا بشكل لا يُوصف.

كان على وشك الاِلتفات، بحثًا عن السّاعة، لكن صوتًا آخر، صوت تهويدة شلّ حركته تمامًا.

صوت سيّدة علامَ يبدو، كان رخيمًا يدندن بهدوء:

«الأُولى للثّلج،

الثّانية للشّتاء،

الثّالث للدّم،

الرّابعة للضياء،

خمسة للفضّة،

ستّة للذّهب،

سبعٌ لكنزٍ لا يجِبُ أن يُنتهَب.»

لم يكن يراها، لا دليل غير صوتها، حسبه تسجيلًا أو ذكرى.
فُتح الباب، ووجد نفسه يلجه دون تحكّم، نطقت السّيّدة موجّهة كلامها له هذه المرّة:

«كلُّ ما عليكَ معرِفتُه أمرانِ لا أكثر؛ أنتَ مارِس، وعليكَ إيجادُ المفتاح.»

توقّف صوت السّاعة. ودون أن يستفسر، صارت تلك الجملة هي كلّ ما يذكره.

~~~

أوّل ما رآه، كان اللون الأخضر.

ملأ عينيه، عشبٌ، شجرٌ، نسيم بارد.

ثاني ما أدركه، كان اللحن.

لحن هادئ، بدا أنّه من آلة وترية صاحبَت عازِفها، لم يرَه لكن باستطاعته تخيّل أصابع هذا العازِف تتباهى وتعبث بالأوتار، بمهارة تحفظها بالفعل، دُون أن يخبرها العازِف ماذا عليها أن تفعل.

لَفّ مارِس بصره في الأرجاء، لم يكُن يُدرِك أين هُو.
رائحة النّدى تُنعشُ حواسه، الشّمس على وشك أن تُشرق - يكاد يرى قُرصها يرتفع، لكن أشعتها وصلت بالفعل.

كم الوقت الآن؟

سأل ذاتهُ، نظر في يده وكانت السّاعة الثالثة، زفر باستغراب، هذا لا يمكن أن يكون صحيحًا،
أخفاها مجددًا، لابُدّ أنّها معطلة، لكن مع هذا عقرب الثّواني كان يتحرّك بشكل طبيعي، إذن لم يضبطها، رُبما.

تحرّك نحو مصدر اللحن، الذي لم يتوقف لحظة.
لابُد أن صاحِب الآلة يعيش وحده، ماكان ليعزِف هكذا لو كان لهُ جيران!

وبينما حِذاؤه يطبع خطواته على العُشب الرطب، وجدَ نفسَهُ أمام شجرة اسوّد جِذعها من قِدمها، كانت شجرة رمّان وإن كانت فارغة من الثّمار، بان العازِف متكئًا على جانبها، مارس لم يمنع نفسه من أن يلتفّ لِيراهُ كاملًا:

فتىً شابٌ، شعرُهُ أسود متوسط الطّول، جمعه ببساطة على جانب رقبته، غطت رأسه قبّعة خضراء مزيّنة بريشة بيضاء، رداؤه الذي يشبه أوراق شجر كبيرة كان له نفس لون وطابع القبّعة المزخرف.

كان مُغلِقًا عينيه مندمِجًا مع اللحن، لكنه ما إن شعر بوجود أحدهم حتّى فتحهُما، ظهر لونُ البحر الغامقِ فيهما، أوقَف اللحن بطريقة مُتكسّرة وهو يقف مُبتسِمًا باِحراجٍ:
«مرحبًا بِك سيّدي هُنا..!»

أحنى مارس رأسه مُحيّيًا بدوره:
«صباحُ الخير، أعتذر لمقاطعتكَ، لكن هل لك أن تُخبرني أين أنا؟»

لم تختفِ ابتسامة الشّاب وهو ينظُر له ببساطة:
«هل هذا المكانُ هو الشيء الوحيد الذي لا تعرِفه؟»

هاه؟
لم يرد مارِس، لم يفهم السؤال، لذا الفتى الأخضر فحصه ببصره للحظة، ثم كرّر:
«كم السّاعة عِندك؟»

«السّاعة؟ ساعتي غير مضبوطة.» أرجع كُمّ قميصه.
كانت لا تزالُ الثّالثة تمامًا، وعقرب الثّواني كان يتحرك بطبيعيّة:
«هي معطّلة، أترى؟ إنّها تشير إلى الثّالثة.»

«الثّالثة! إذن أنت مارس!»

رمش تتاليًا:
«كيف عرفتَ؟»

تجاهل سؤال مارس تمامًا، وأمسك بيده مُصافحًا:
«لم أتوقع أن يأتي أحدهم لصُندوقي أبدًا، لذا، تشرفتُ بلِقائك، مارس!»

من هذا؟ أيّ صندوق؟ كيف عرف اسمه من مجرّد توقيت ساعتِه؟
ملامِح مارس المرتابة إلى أقصى حدٍّ كانت تَشي بأفكارِه هذه.

تدارك العازِف نفسه، ضحك قائلًا وهو يفلت يد مارس:
«أعتذر، أدعى أنطونيو.»

«كيف عرفتَ اسمي؟»

«لأنّ رقمك هو ثلاثة؟»

الموضوع بدأ يُصبحُ مربكًا أكثر، لكن لم يبدُ على أنطونيو هذا الارتباك، أو الاِهتمام، قال بابتسامة مُريبة:
«ما رأيكَ بأن تجلِس معي لبعض الوقت؟ حينها قد أُعطيك مفتاح الصندوق!»

«أيُّ... صندوق؟»
أفلتتِ الكلمات من بين شفتيه، أنطونيو لم يردّ، أراهُ قلادة كان يرتديها، نهايتُها مفتاحٌ رقيق ومُزيّن، لم يكُن مفتاح باب، توسعت عينا مارِس وهو يتذكر:
أنتَ مارِس، وعليكَ إيجادُ المفتاح.

بهذه الابتسامة، بدا كأن الفتى يعرف هذا قبله.

-

صندوق ذكرياتWhere stories live. Discover now