مساءات

336 41 37
                                    

مرّ شهر وأربعة عشر يومًا على غيابك
أحيانًا أقول لنفسي أنني نسيت التاريخ
لكنه بقي محفوظًا في رأسي، مثل طوبة.
تاريخ غيابك وتاريخ ميلادي على نفس الرف
رغم المفارقة الرهيبة التي تجمعهما.

أُطلُّ من الشباك، متشبّثةً في داخلي باحتمال أن يراني أحد عبر المنور الضيق، أو من نافذة أحد البنايات المتزاحمة على تعريف ثابت للمكان، متناوبةً على إغلاق الشساعة غير المطمئنة. ظلٌّ على ظل. زوايا غير مرئية تتوهم أن تحتفظ بها النوافذ، وتُطلعك عليها إن كنتَ وفيًا كفاية.

لا أحد يطلّ ويقرر أن يراني في مشهد غير مهم في سيرِ الحكايةِ مثل ذاك. ولا يدفعني الملل المجرّدُ إلى التوق للمناظر التي أشك في ألفتها. إنها غمّةٌ، قلقٌ. ربما هو
"جرح طفيف في ذراع الحاضر العبثيِّ "
كما قال درويش.

سيغيّر الليل ملامحه، وملامحي، لن تقضي عليّ الجمرةُ الخبيثة، ولا السلّ أو الطاعون
أو وباءٌ لا يحمل اسمًا
إذ أنني نجوت من جرثومةٍ في الدم
من قبلُ مرة.

سأعلّم الغياب أن يكون من ممتلكاتي
في حياتي الطويلة
التي سأصل فيها لعمر السابعة والعشرين
قبل أبطالي وضحاياي، والشوارع التي عبرتها لإخفاء الوحشة
والحقول التي أشك بأنني سأعود إليها
كي أرى وجهك المنفرج بابتسامة، وهو يشطر المشرق الذهبيّ
الممتدّ نحو أياد تحلّق مودّعة
قبل أن أتعثر بآثار مملكة تَدمُر
وأبصر ضياع الحضارة
والتاريخ الذي يرمقنا مستهزئًا
وأنني، أنت وأنا،
والأيادي الملوّحة بعيدًا بعيدًا
آيلون إلى الاختفاء.

غالبًا لن أتعثر بك، لكن الأشياء التي تبقيها
لن تعلمني النهوض، ولن تمنحني الأحلام التي هي أصلًا لي
إنها الذكرى ما يحييني
"وأنا محاولة البقاء
وكل ما حولي يحاول أن أزولا".

سوف تتعاقبُ الساعات آمنةً من إخفاقٍ لا يزال يبحث عن هويّته فيّ، وسأبصق دائمًا على قطّاعي الرؤوس والسياسيين
والشركات عابرة القارات
قبل أن أتعلم كيف أحبك
بطريقةٍ ملائمة.

سيواصل الحلمُ حلمهُ
إن كنت ألصق كتفي بكتفك
وأقول لك وأنت تعرفني
"ستفوتُني المراكبُ، يا دمي".

ستشير لي بالصمت
في الظلمة الفاصلة بين الشفقين
والوسع الناعم للنظرات
أفهم بسكونٍ أن مضت المراكبُ والطفولة
ومقلاع ابن الجيران والعصافير
الفستان الذي ارتديتُه أكله العث والغبار
ذابت الشمعدانات بالقنابل العنقودية
سيضحك على صوري شخصٌ لا يعرفني
عندما ينتشلها من تحت الأنقاض.

لن تسع الصورةُ البريئة القتلى، المنشورات،
الحرية، الوطن
القصائد، الروايات الكافكوية
الحرب، البلدُ الذي لا يعنينا ولا نعنيه،
والكلام الذي ابتلعناه خوفًا من الطاغيةِ المنشور فينا مثل العلف. الغرف المغلقات،
الروس، الإرهابيون
ثقوب الرصاص على الحوائط بعد انتهاء
الحصار
واختلاجةٌ خفيفة تعبُر الكتف
عند صوت المفرقعات،
ومدينةٌ وهّاجةٌ أخرى
لكن من لا بيت له لن يبني بيتًا بعد الآن.

سأقول بأنه ولع الأحياء بأن يكونوا غير ما هم عليه
والزمن لن يتغيّر قط
حتى مع الهاوية السحيقة لغيابك
ها قد تأخر الوقت
لن أكون سعيدةً بعدُ
ثمةَ قمرٌ يرقبني من الشباك، وغلالةٌ رقيقة تتلفّع حوله
لا أحد منشغلٌ بمنح هذا المنظر الشمعيّ معناه
لا يصير شيئًا أكثر من عذرٍ للأرق والحِيَل التي أعتاش عليها
كي أتغلب على المساحات الضيّقة في صدري.

أُغلق الستارة وأنصرف
غيابك سيُحزِنُ مساءات أخرى*.


*الجملة لبورخيس.

تلة، شجرة، وعيناكWaar verhalen tot leven komen. Ontdek het nu