الفصل السادس و الثلاثون

1K 37 9
                                    

عذرا حبيبتي... لا أطيق البقاء.. و لكني لا أقوى على الفراق..

عند الظهيرة كان صهيب قد وصل إلى المشفى بعدما أرسل له علاء موقعها على الـ( GPS)
صف سيارته في الأماكن المخصصة لذلك ثم وقف أمام البوابة الرئيسية للمشفى.
رفع رأسه للطوابق العليا ثم أخذ نفسا عميقا و زفره على مهل و كأنه مُقبل على أصعب اختباراته، يشعر و كأنه يحمل حِملا ثقيلا على كاهليه، و يجاهد نفسه لكي يحافظ على ثباته و هدوءه و انتظام أنفاسه قدر الإمكان.
صعد إلى الطابق المنشود و سار باتجاه الغرفة بعدما سأل عليها.
لِحسن حظه أن سيد لم يُنهي عمله بعد و حنان غادرت المشفى لتوها لكي تحضر طعام و ملابس لجنة، و لم يكن هناك سوى شيرويت و علاء و جنات.
أقبل عليهم بخطى مهتزة، قدم تتقدم و الأخرى تتأخر و كأنه مُقدم على الانتحار.
ذلك الشعور البغيض اللاإرادي متى و كيف يمكنن أن يتخلص منه؟!
ما إن رآه علاء، تقدم نحوه سريعا و همس به:
ــ صهيب اوعى تقولهم اني اتصلت بيك... قول انك عرفت و جاي تطمن عليها بنفسك.
اومأ بإيجاب و هو يحبس أنفاسه و كأنه يدخرها للمواجهة القادمة.
ألقى السلام على الفتاتين، و قد ردَدٰن التحية باقتضاب و نفور.
تخطى سوء مقابلتهما له و حمحم قائلا:
ـــ بعد اذنكم عايز أدخل لـ جنة أتطمن عليها.
ناظرته جنات بغيظ و أجابته باستهجان:
ـــ عايز تطمن عليها؟!....و بصفتك ايه بقى؟!
تدخل علاء قائلا:
ـــ في ايه يا جنات ما تسيبيه يدخل.
لم ينتظر ردها و إنما سحب صهيب من ذراعه و فتح له باب الغرفة بينما جنات خلفه تتمتم بغضب:
ـــ استنى يا علاء...جنة نايمة و احنا ما صدقنا تنام شوية من ساعة ما صحيت.
سد عليها الباب بجسده و منعها من الدخول خلف صهيب و قال لها بجدية تامة:
ـــ سيبيهم يا جنات يمكن يكون آن الأوان و يتصالحوا و ترجع الدنيا زي ما كانت.
تنهدت جنات و نظرت لشيرويت بحيرة، فأومأت بدورها كناية عن موافقتها لكلامه.
أما داخل الغرفة...
سار صهيب ببطئ نحو النائمة بفراش المرض، فانقبض قلبه ما إن تبينت له ملامحها و أخذ يتمتم لنفسه:
ـــ لا أكيد في حاجة مش طبيعية.... أعوذ بالله من الشيطان الرجيم... أستغفر الله العظيم.
أخذ نفسا عميقا ثم اقترب منها للغاية حتى أصبح واقفا على يمينها قريبا من رأسها.
انفرجت شفتاه لينادي إسمها الا ان صوته انحشر في حلقه.
حاول مرارا و تكرارا إلى أن خرجت أحرف اسمها من بين شفتيه المرتجفتين بصعوبة.
حين لم تستيقظ رأى أن يهزها من كتفها.. ذلك أسهل له.
بالفعل ما إن لمس كتفها حتى فتحت عينيها على الفور، و ما إن تبيّن لها أنه هو حتى تبسمت بسعادة بالغة ثم اعتدلت من نومتها لتجلس بمواجهته و تقول و كأن لم يصيبها تعب قط:
ــ صهيب.. انت جيت تشوفني و تطمن عليا؟!
تعجب من رد فعلها الذي لا يتناسب ابدا مع الموقف، و لكنه أومأ برأسه دون أن ينطق.
من فرط سعادتها به، خُيِّل اليها أنه جاء ليتراجع عما فعله معها.
هو يحبس أنفاسه التي ضاقت عليه للغاية، بينما هي تتأمله بعشق بالغ و تقاوم حركة جسدها الذي ينجذب إليه كالمغناطيس، و حين تفوقت قوة الجذب على قوة مقاومتها، لم تشعر بنفسها إلا و هي تُلقي بجسدها بين ذراعيه اللذان تجمدا بالتزامن مع تصلب جسده من المفاجأة، التي أبدا لم تخطر بباله.
أغمض عينيه عقب تلك النيران التي أشعلتها بصدره بفعلتها المُباغتة.
لا يدري أنيران الشوق تلك؟!.. أم نيران الغضب؟!... أم كلاهما معا؟!
كانت تقاوم جسدها لكي تبتعد، و لكن جوارحها تأبى.
أنفاسها عالية و مضطربة، و في ذات الوقت تشعر و كأنها تحلم، فإن كان هذا حلما.. لا تريد لهذا الحلم أن ينتهي.
ـــ كدا بقيتي كويسة؟!
قالها بنبرة فظة و جسده مازال متجمدا، بشق الأنفس استطاعت أن تتركه و تعود للخلف قليلا.
أطرقت رأسها بخجل ثم قالت بتوتر:
ــ أ أ أنا مش عارفه أنا عملت كدا إزاي...بس.. بس أنا... أنا بحبك يا صهيب و مستعدة أنسى كل اللي انت قولتهولي... لا أنا أصلا نسيت.. بس خلينا نرجع لبعض ونرجع نحب بعض زي زمان.
يريد أن يوافقها الرأي.. يريد أن يقول فلنعد كما كنا... و لكن صراع وَعِر بين عقله و جسده و روحه التي يشعر و كأنها تُنتَزع منه.
يُطيع مَن؟!.. و مَن يعصي؟!
ـــ أنا آسف.. مش قادر.. أنا جاي أقولك حاولي تنسيني و تعيشي حياتك... مسيرك هتقابلي اللي يحبك بجد و يقدرك.. لكن أنا... الحب بينا بقى مستحيل...
علت وتيرة تنفسها للغاية، و أخذت تهز رأسها برفض و تقول بهيسترية:
ـــ ليه؟!... و امتى؟!... و ازاي؟!.. طاب ليه أنا لسة بحبك؟!.. ليه مش عارفة أكرهك؟!.. على فكرة انت بتحبني... باين في عنيك.. طاب ليه بتنكر؟!... ليه قولي؟!
رد عليها بحدة لعلها تستفيق:
ـــ جنة فوقي.. احنا اتقابلنا في مفترق طرق.. و آن الأوان إن كل واحد فينا يكمل طريقه اللي كان ماشي فيه... حتى لو كان جوايا حب ليكي بس صدقيني الحياة بينا استحالة تكمل للنهاية.
جذبته إليها من تلابيبه و قالت بنبرة أقرب للفحيح:
ـــ يعني دا آخر كلام عندك؟!
أومأ ببطئ و التردد باديا على وجهه، فنظرت له بشر و قالت بالهدوء الذي يسبق العاصفة:
ـــ امشي...امشي من قدامي.. أنا بكرهك.. بكرهك...
قالتها و الدموع تنحدر من عينيها بقهر، بينما هيئتها كانت تمزق في قلبه تمزيقا.. و لكنه في الأخير ألقى عليها نظرة إشفاق ثم غادر من أمامها.
خرج صهيب من الغرفة المفتوحة بابها فوجد علاء و جنات ينظران اليه بترقب، و قبل أن يتحدث أيا منهم، وصلهم صوت زجاج منكسر و مرتطم بالأرض.
فزعت جنات من الصوت و أصابها القلق البالغ، فأسرعت إلى داخل الغرفة ثم أصدرت صرخة مدوية من هول ما رأت.
جنة مُلقاة على الأرض صريعة، و الدماء تسيل من رُسغها الأيسر و اليد الأخرى بها قطعة حادة من الكوب المنكسر، و فُتات الزجاج منتشر حولها على الأرض.
هرول صهيب و علاء إليهما و قد صُعقا من ذلك المشهد المريع، بينما جنات منكبة على أختها و تكتم الدم بوشاحها و تصرخ بعلاء لكي يخبر الأطباء سريعا.
لم يُكذب خبرا و ركض سريعا نحو مكتب الأطباء، بينما صهيب مازال واقفا بمكانه مشدوها مما حدث.
الشعور بالذنب يكاد يقتله.
هم لينحني عليها و يحملها إلا أن جنات صرخت به ببكاء هيستيري:
ـــ ابعد عنها... ابعد عننا بقى.. منك لله انت السبب في كل اللي بيحصلها.. اطلع برا... براااا.
ارتد صهيب للخلف و مازال الذهول مسيطرا عليه، ثم خرج نهائيا من الغرفة و أخذ الدرج ركضا من الصدمة، عقله يرفض أن حبيبته قد خسرت حياتها و آخرتها بسببه.
كان صهيب يسير تائها شاردا بين الطرقات.. يفكر و يفكر و يفكر... ألهذا الحد الأليم وصل به الحال؟!... أيعقل أن تكون تلك هي النهاية؟!.. جنة انتهت؟!.. لم يعد لها وجود في عالمه؟!
توقف في منتصف الطريق و هو يهز رأسه برفض، عقله ينكر تلك الحقيقة الأليمة، لا يعي ما حوله، فقط يتمنى لو كان في أسوأ كوابيسه و تأتي اليد التي تنتشله من هذا الحلم المزعج..
أغمض عينيه بقوة لعله يخرج من الحلم، و لكن حين فتحهما و في لحظة توقف عندها الزمن كانت سيارة نقل قد أطاحت به عدة أمتار إلى جانب الطريق.

و تشابكت أقدارنا(مكتملة) حيث تعيش القصص. اكتشف الآن