الفصل الأربعون

878 42 13
                                    

بين عيني التي تراك و نبضات قلبي التي تتراقص على لحن رؤياك...لا أدري ماذا أفعل و الحنين يموج بصدرى عاتيا...رحماك ربي و الصبر باغية.

ازدردت جنة لعابها بصعوبة حين رأته واقفا أمام عينيها، لم تتوقع أن تراه في هذا الوضع واقفا بعد شهور من الرقود.
لقد واتتها مشاعر مختلطة ما بين المفاجأة و الفرح و الخجل و أشياء كثيرة تتضارب بوجدانها الآن.
و على الناحية الأخرى ألجمته الصدمة حتى أنه لم يستطع أن يقول لها تفضلي بالدخول.
ـــ صباح الخير يا أستاذ صهيب.
رد بتلقائية و بلهجة متهكمة:
ـــ أستاذ؟!
لم تُعير تهكمه اهتماما و إنما استكملت حديثها مباشرة و كأنه لم يتحدث حيث قالت بطريقة رسمية للغاية:
ـــ أنا كنت جاية لحضرتك في خدمة كدا... دا بعد إذن حضرتك طبعاً.
عقد ما بين حاجبيه باستنكار و هو يميل رأسه ليساره، ثم لم يجد بُدا سوى أن يُفسح لها الطريق للدخول و هو يقول:
ـــ اتفضلي ادخلي.
ـــ لا اتفضل حضرتك و أنا هدخل وراك.
ـــ لا اتفضلي حضرتك و انا هدخل وراكي..
قالها بنفاذ صبر و ضيق من طريقتها شديدة الرسمية، فردت بسماجة:
ـــ لا ميصحش حضرتك.
ـــ يا ريت حضرتك تتفضلي بسرعة لأني مش قادر أقف على رجلي أكتر من كدا.
قالها و قد بدا متعصبا للغاية من فرط غبائها.
ـــ إذا كان كدا ماشي.
اصتك فكيه بغيظ شديد، فمن سواها يستطيع إغاظته و إثارة عصبيته، ثم دخلت من الباب مرورا به و كان يراقب خطواتها بلوعة لم يستطع أبداً تجاهلها..."مازلتي تملكين لُبَّ القلب يا حبيبة القلب" هكذا حدثته نفسه لحظة دخولها.
تفاجأت وجدان بمجيئها بمفردها و لكنها رحبت بها على كل حال و تمنت من قلبها لو كانت زيارتها لإعادة الماء إلى مجاريها.
تركتهما بمفرديهما في غرفة الصالون، حيث جلست جنة بالكرسي المقابل لكرسي صهيب.
حمحمت ثم استهلت حديثها بقولها:
ـــ أنا جاية لحضرتك بصفتي جنة المحامية اللي اتدربت في مكتب حضرتك مش بصفتي أخت خطيبة أخو حضرتك و...
قاطعها صهيب بعصبية مفرطة:
ـــ حضرتك حضرتك حضرتك.....انتي نسيتي احنا كنا ايه؟!... نسيتي أنا كنت ايه بالنسبالك؟.. نسيتي انتي كنتي و مازلتي ايه بالنسبالي؟!.. أنا صهيب يا جنة... صهيب و بس.
سكتت مليا تتأمل انفعاله ببرود ظاهري و كأنها تُقر له بالنسيان، و حين انتهى و سكت ليستقبل ردها، رسمت الثبات ببراعة على ملامحها و كأنها لم تهتز لانفعاله ثم قالت:
ـــ تمام... طالما مش عاجبك حضرتك بلاها خالص... ندخل في الموضوع علطول.
رفع حاجبيه باستهجان و هو يقول بنصف ابتسامة:
ـــ دا انتي بتسوقي عليا العبط؟!... امممم... تمام كملي.
انتابها بعض القلق بعد تلك النبرة الساخرة خوفا من أن يرفض طلبها عقابا لها، و لكنها استكملت بشجاعة زائفة:
ـــ باختصار كدا أنا عايزة شهادة خبرة من مكتبك عشان محتاجاها ضروري في التقديم في مكتب مشهور نواحينا.
سكت صهيب مليا حتى يستوعب كلامها، أحس بسكينا انغرس في قلبه... لا يتخيل أنها تفكر في العمل بعيدا عنه...مازال يتعامل معها و كأنها ملكية خاصة له، لا يحق لها أن تعمل لدى أي شخص سواه...نيران الغيرة منضرمة بصدره حتى أنها أصبحت جلية على ملامحه، الشيئ الذي لاحظته هي و لم تستبشر بعدها خيراً.
ــ امممم....و مين بقى المحامي المشهور دا؟!
ــ بقولك نواحينا...يعني أكيد مش هتعرفه...ايش جاب اسكندرية لبنها.
قالتها بنبرة غليظة ذكرته بالماضي حين كان يطلق عليها لقب رئيسة عصابة، حينها أراد أن يبتسم و لكنه تماسك ثم استرسل متلاعبا بأعصابها:
ـــ و هديكي شهادة خبرة بأمارة إيه؟!
رفعت شفتيها لأعلى و هي تقول:
ـــ بأمارة ايه اللي هو ازاي؟!...بأمارة اني اشتغلت عندك أكتر من سنة....بأمارة إني كنت من أشطر و أكفأ الموظفين اللي عندك...بأمارة إنك كنت بتعتمد عليا في أصعب القضايا...ولا عندك رأي تاني يا متر؟!
قالتها بانفعال دون أن تسيطر على عصبيتها و لكنه كان مستمتعا بذلك.
رد عليها بهدوء مستفز:
ـــ أنا بصراحة عمري ما شوفت موظفة محتاجة خدمة من مديرها السابق و بترد عليه بالطريقة دي...تمام براحتك يا أستاذة جنة...بالأسلوب دا ملكيش عندي شهادات.
ـــ صهيب.
ـــ اسمي أستاذ صهيب.
ـــ ما كان صهيب و بس من شوية.
ـــ دا لما كنتي بتتكلمي بأدب.
زفرت بإحباط ثم سكتت مليا و يبدو على ملامحها الانزعاج الشديد و الحيرة و قلة الحيلة، ثم عادت لتحاوره بأسلوب كثر رقيا كي تكسب تعاطفه حيث قالت:
ـــ صهيب أنا محتاجة الشهادة دي ضروري...محدش راضي يشغلني من غيرها.
زم شفتيه بلامبالاة قائلا:
ـــ متشتغليش.
جزت على فكيها بغيظ و لكنها كظمت غيظها و قالت:
ــ بس أنا بحب الشغل و عندي طموح و عايزة أكون محامية كبيرة في المستقبل.
تأملها بحب و اشتياق ثم قال بنبرة رقيقة دغدغت مشاعرها:
ـــ مكتبي مفتوحلك يا جنة و مكانك استحالة حد غيرك ياخده... عايزة تشتغلي يبقى تشتغلى معايا و انسي كل اللي الفات... مش هقولك ارجعيلي...بس على الأقل خليكي موجودة في حياتي... أشوفك... أتكلم معاكي... وجودك في حياتي بالنسبالي حياة.
أطرقت رأسها و هي تستمع إليه بوجه متجهم، لم يعد لديها طاقة للعتاب و لا طرح الأسباب و المبررات، لذلك بعدما انتهى رفعت عينيها لعينيه ثم قالت بملامح خالية تماما من التعبير:
ـــ حضرتك هتخدمني و تعملي الشهادة؟!
جوابها صعقه و كأنها أصابته في مقتل، توقع رفضها و لكن ليست بهذه الطريقة من التجاهل... توقع أن تُدلي له بأسباب... بأن تُعاتبه... تثور عليه... لا أن تتجاهل كلامه بالكلية.
بعد دقيقة من الصدمة و الذهول قال بمنتهى الثبات و الرسمية:
ـــ بكرة هتكون جاهزة...كلمي منى السكرتيرة تبعتهالك على الواتس.
ألقى بكلماته ثم نهض سريعا من كرسيه رغم صعوبة النهوض... و لكنه لا يدري من أين واتته تلك القوة التي جعلته يقوم من أمامها بسرعة... أقوة الغضب هذه أم ماذا؟!
راقبته بقلب منفطر... فلقد وصلها شعوره تماما...شعور الخيبة و الخذلان.. فكم ذاقت من مُرّ هذه المشاعر.. و كان هو أول من أذاقها.
تنهدت بثِقل بعدما انصرف غاضبا من أمامها ثم تمتمت بصوت منخفض قليلا:
ـــ معادش ينفع الرجوع يا صهيب... خلاص انتهينا.
ثم أخذت حقيبتها على كتفها و انصرفت بعدما أنهت مهمتها رغم صعوبتها و ثقلها على نفسها و عادت أدراجها إلى حيث تقيم أسرتها.

و تشابكت أقدارنا(مكتملة) حيث تعيش القصص. اكتشف الآن